عَلِّلِينِي ياعَبْدَ أنْتِ الشِّفاء              واتْرُكِي ما يقُولُ لي الأَعْدَاءٌ

كلُّ حيٍّ يقالُ فيه، وذو الحلم                مُرِيحٌ، وللسَّفِيهِ الشَّقَاء

ليسَ منَّا منْ لا يُعاب، فأغضي                رُبَّ زَارٍ بَادٍ عَلَيْهِ الزَّرَاءُ

يعترف شاعرنا بأنه رجل عادي، يخطئ كباقي الناس: وليس فينا، نحن بني البشر، من لا يُعاب!

على العكس من الشعراء الجاهليين وفخرهم الفارغ وتبجّحهم الأخرق، الذي سيرثه لاحقاً أساطين الشعر العربي: الفرزدق وجرير والأخطل، ثم أبو تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم، كان لشعراء المجون العباسيين رؤية متواضعة حساسة شخصية فردية للحياة: طبعوا شعرهم بهذه اللمسات، التي تناقض الصوت العالي الواثق النبوي للشعراء الفطاحل. شعر المجون يعرف مواطن الضعف في النفس البشرية، ويعرف أننا خطّاؤون، شعر يفهم تقلبات الدهر، ولا يخفي عن نفسه وعن الناس، الخيبة والتردد والفشل؛ فالزمن أغبر، والدنيا حظوظ، وشاعرنا لم يختر صفاته ومواهبه ومزاياه، بل ابتلي بها، كما ابتلينا نحن أيضاً:

خُلقت على ما فيّ غير مخيّر                      هواي، ولو خُيّرت كنت المهذّبا

أريد فلا أُعطى وأُعطى ولم أُرد                   ويقصر علمي أن أنال المُغيّبا

وأُصرَف عن قصدي وعلمي ثاقب                    فأرجع ما أعقبت إلا التجنبا

لعمري لقد غالبتُ نفسي على الهو         لتسلى، فكانت شهوة النفس أغلبا

 ومن عجب الأيام أن اجتنابها                         رشاد، وأني لا أطيق التجنبا

ولد بشار بن برد أعمى، فقيراً، قبيحاً، ضخم الجثة، مجدور الوجه، أبياً جريئاً مقداماً، محباً للحب: أكثر من نصف ديوانه غزل رقيق حسّي، بنساء لم يرهم، ولم يعرف ما رأوه في وجهه المجدور. أنزل الرجل الشعر من عليائه إلى الشوارع والحارات والحانات: وتولَّع به الناس وتناقلوه. الناس الذين، مثل بشار، لم يهتموا بالقبائل والسياسة والمذاهب والخلفاء والولاة المقتولين والمسحولين والسفاحين، بل بيومياتهم العابثة وبأجسادهم الفانية.

ولد أعمى: عاش ليلاً طويلاً قبل أن يقتله الأمراء، أو قبل أن تقتله شجاعته وأنفته وسخريته. في هذا الليل الطويل كتب عن ليل لا ينتهي: في قصيدة يشبب بها بمعشوقته «عبدة»، يترك الشاعر المعاني تتفلت، لتصيب العشق والعمى والليل والشوق والتيه والحيرة معاً:

خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدّجَى لاَ تَزَحْزَحُ                وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ

أضَلَّ الصَّبَاحُ الْمُسْتَنِيرُ سَبِيلَهُ                   أم الدَّهْرُ لَيْلٌ كُلُّهُ لَيْسَ يَبْرَحُ؟

وَطَالَ عليَّ الليلُ حتى كأنّهُ                        بليلين موصول فما يتزحزح

فيا طولَ هذا الليل لا أعرف الكرى               ولا الصبحُ فيه راحة ٌ فأروّحُ

ويتذمر الشاعر من قلبه، ويعاتبه ويخاطبه. لم يكن بشار أول من خاطبَ قلبه، قبله جميل بثينة وكُثيّر عزّة تذمّرا من القلب وخاصماه. أما بشار، فبعد عتاب وأخذ ورد، يتخلى عنه، ليصبح الحب هائماً في الفراغ:

يقولون لو عزّيتَ قلبك لارعوى              فقلت: وهل للعاشقين قلوب؟

القلب يخون صاحبه فيفترقا، ليصبح العاشق بدون قلب: عشق محض عياني حسي شهواني مجرد كاسح، بلا قلب ينزله أو يقبع فيه!

وغزله حسي، مازح عابث، مسل، قريب من القلب، يدعوك للابتسام، وللتفكر، وللتعاطف:

سلبتِ عظامي لحمَها فتركتِها                       عوارى في أجلادها تتكسر

وأخليتِ منها مخّها فكأنها                     أنابيب في أجوافها الريح تصفر

خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري            ضنى جسدي لكنني أتستر

وليس الذي يجري من العين ماؤها                 ولكنها روح تذوب فتقطر

باستثناء أبي نواس، لا يذوب الشعراء. أبو نواس هذا سيتجاوز أستاذه بشاراً، في التجريد وفي التعريص وفي التشبيب، وفي كل شيء. ولكن، لم يتجاوز الرجلين أحد، بعد: يبقى لوجودهما حساسية شهوانية، وأفراح وأحزان تتداخل مع كل ما نحياه اليوم، ومع حيواتهم الماضية الفرحة.

ولد أعمى، ويُعيّره الناس بعماه، بل يعيرونه بأنه يحب دون أن يرى: يردّ الرجل، واثقاً من نفسه بصوت عال:

قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم          الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقة              والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا

كان فقيهاً في اللغة وفي التاريخ وفي الدين وفي الحكمة. انتشر شعر الحكمة، قبل بشار وبعده: والحكمة، في الشعر خصوصاً، قاتلة مملة شنيعة، ولنا في أبي العتاهية نموذجاً. ولكن، يعرف بشار كيف يقول الحكمة: حكمة الناس، حكمة اليوميّ، حكمة الحزن. في الصداقة، لا يطلب الرجل بأساً وعزيمة مقدامة صارمة، على طريقة البطولات العربية؛ ولا يهجو الناس يائساً بائساً، على طريقة المعري؛ بل يطلب العادي اليومي من رفاق يمالحهم ويمازحهم، ويخاصمهم ويعاديهم ويسامحهم ويسامحونه:

أخوك الذي إن رِبتهُ قال إنما                           أربت، وإن عاتبته لانَ جانبه

إذا كنت في كل الأمور معاتباً                     صَديقَكَ لَمْ تَلْقَ الذي لاَ تُعَاتبُهْ

فعش واحداً أو صِل أخاك                         فإنه مقارفُ ذَنْبٍ مَرَّة ً وَمُجَانِبُهْ

إِذَا أنْتَ لَمْ تشْربْ مِراراً علَى الْقذى          ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟                 كفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه

مَدَح بشار الخلفاء والولاة، ووقف على الأطلال، في قصائد لطيفة عادية، تشبه كل ما كُتب في المدائح والأطلال. كرر نفسه، في غزله وفي مدحه، وأطال أحياناً بدون جدوى. عاش عصره، ومال إلى ما مال إليه الناس، وشغلهم طيلة حياته الطويلة. وكسر بشار، في الكثير مما كتبه، رتابة القصيدة التقليدية التي تبدأ بالوقوف على الأطلال وتتخلص إلى «غرض شعري»، كالمدح أو الفخر أو الهجاء: ليكتفي بالغزل أو بالتأمل. ولكن من لحقوه لم يتبعوا دربه، بل عادوا لأصول القصيدة، على يد مدرسة الشام، الأكثر تقليدية ومحافظة في البنية، والثورية في المعاني والتشابيه والفكر داخل القصيدة التقليدية، ورأسها أبو تمام ثم المتنبي. ارتكز معظم الشعر العربي الذي ساد على القضايا اللا-شخصية والأغراض الشعرية المكررة تلك، وتراجع شعر بشار وتلميذه أبو نواس الشخصي الحسّاس إلى خلفية باهتة؛ بل صوّر المخيال العربي الرجلين كمهرجين يشربان ويقصفان ويتمازحان ليل نهار. أُعطيا حقهما من النقاد، ولكن لم تكتمل ثورتهما الفكرية والشعرية، التي لو انتصرت، لقرأنا شعراً صادقاً جميلاً من القلب إلى القلب.

كتب أدونيس الكتاب، مستحضراً أبا الطيب المتنبي. صرَّحَ محمود درويش أن المتنبي أكثرنا حداثة (الغريب أن التصريح أتى في مرحلة متأخرة، أي بعد أن تحول درويش من شاعر فلسطين-الفكرة إلى شاعر الفلسطينيين-العاديين). اختيار المتنبي مذهل، من طرف الشاعرين الثوريين الأكثر حداثة وجرأة وإقداماً: اختيارٌ، في العمق، تقليديٌ ومحافظ، ومتعجرفٌ ربما، والأهم، مخطئ. كان المتنبي، بالرغم من الأبيات الشخصية الفلسفية الصادقة التي لا يؤتى بمثلها، القليلة في شعره، والتي سيطورها لاحقاً المعري إلى مذهب متكامل، ونرى بداياتها عند بشار هنا؛ نقول كان الرجل متشدداً محافظاً في مذهبه الشعري وفي بنية القصيدة، ورجعياً جداً في فكره وصوره. لو اختار الشاعران المعاصران بشاراً أو أبا نواس، أو المعري، ليستحضروهم في الحداثة التائهة، لفتحا باباً جديداً للذائقة العربية على تراثها الآخر، الأغنى والأرق، المنحاز للفردي والبسيط واليومي عند الماجنين، أو للميتافيزيقيا والشك والتأملات الفلسفية الإنسانية المترددة عند صاحب الغفران: ذائقة تُعلي من الفرد في مواجهة العالم كله، بسلطاته المتنوعة القامعة القميئة المتعجرفة! فشلت محاولة طه حسين البطولية في إعادة تقييم تجربة المتنبي وإنصافه بمكانة خاصة، ولكن ليست مطلقة، على قمة الشعر العربي، كما فشل مشروعه في إعادة قراءة الشعر الجاهلي. تابع فوزي كريم محاولة العميد في ثياب الإمبراطور، وكان فشله أقسى وأكثر مهابة. قرأ الناس طه حسين في زمنه، ثم عادوا إلى تراثهم اللا-شخصي المتسم بإعلاء صوت الحرب والفخر والجماعة (الأمثلة الحديثة أكثر من أن تحصى، وقد أحصاها فوزي في كتابه، بشجاعة منقطعة النظير). أما فوزي فلم يُقرأ حتى، بل بدأت عزلته تتعمّق بعد الكتاب الذي تجاهله الشعراء: لأن فوزي أشار إلى أن معظم مجايليه ورثوا المتنبي، وما يعنيه هذا من شعر نبوي متعال جذاب، فارغ، على حساب الشعر الهامس العاشق الذي يقطر حباً وعشقاً؛ استثنى السياب، بالطبع، وبضع أسماء أخرى. فشل طه حسين، وفشل فوزي كريم. لست واثقاً إن كانت الذائقة العربية تميل إلى بشار وأبي نواس والمعري اليوم، أم بقيت متشبثة بصور باهتة ومبالغات سماوية متعالية غير صادقة، كما في مقولة أن الأعمى يراه والأصم يسمعه، والتي لا يستسيغها إلا من لم يمسَّ قلبه الجمال الأرضي المتواضع.

وبشار فارسي وأمه رومية: لا أصول عربية لهذا الساحر الأفّاق. مَدَحَ النار وأجداده وتغنى بهم، وردّ على من فاخره من العرب بلؤم لاذع. على أن الأمر لم يكن شعوبياً، كما يحب البعض تصويره. أحب مروان الحمار، وتبعه في المحاولة الأخيرة الفاشلة للحفاظ على حكم الأمويين؛ اختفى بعدها في البصرة، ليعود مادحاً العباسيين. تقرَّبَ من العرب ومن الولاة الفرس والبرامكة، وشهّر بهم عندما آذوه. لم يميز بين عربي وأعجمي، بل مدح من أحبه ومن أكرمه، وهجا كل من حبس عنه المال أو ازورَّ عنه.

شارف على التسعين، ولم يتحول إلى شيخ جليل. بقي بشار خفيف الروح والظل: لم يتُب ولم يتعظ. سخر من الخليفة المهدي الذي اشترط عليه أن يتوقف عن التشبيب: ليكتب قصائد يقول لنا فيه أنه لولا المهدي، لقال كذا وكذا في النساء! ساخراً من الحظر والخلافة والتشبيب، ومن نفسه.

أحفَظَ كلَّ الناسِ عليه: انتقد الأمراء والولاة وأصحاب العسكر، وشبَّبَ بالمتزوجات والمحصنات، ودخل في صراعات علم الكلام، وشَهَّرَ بسيبويه وبالحسن البصري: لم يسكت على كبيرة أو صغيرة. نفاه من البصرة واليها بناء على طلب إمام المعتزلة فيها واصل بن عطاء، فقد كان الرجل مقرّباً من السلطات، كمعظم المعتزلة. ولعهم بالعقل، وحبهم للسلطة، جعلهم يتذللون دوماً للسلطات كي تسجن من يعارضهم فكرياً. إذن نُفي الرجل من بيته ومن بلده، لم يرعوِ ولم ينافق، عاد مراراً للتشهير بالمعتزلة والسخرية منهم ومن ضيق أفقهم ومن إيمانهم بامتلاك مفاتيح الجنة والنار، وبقي عنيفاً مؤذياً قبيحاً في هجائه، لم يخفف من غلوائه تقدمه في العمر، ولا نفيه وتشرده، ولا نهيه وزجره.

أصبحت قصائده شعبية، لأنه كتب شعر الناس وغزلهم، وأخطاءهم وعثراتهم وضعفهم، ولأنه ماجنُ شتّام زنديق فاسد، ولأنه يشبه الحياة اليومية في بغداد الخلافة. تناقل الناس شعره، الذي سَهُلَ ولانَ وخفَّ كأنه أرجوزة شعبية بسيطة، ولكنها عميقة صادقة. احتفى به الشعب الذي اختلط وامتزج وتبلبل في عراق بدايات الحكم العباسي.

اعتقله الوزير يعقوب بن داوود، بعد أن هجاه بشار، وبعد أن وشى به حُسّاده الكثر، بتهمة الزندقة وموالاة الأمويين، ليقتاده إلى الخليفة المهدي بالله الذي أحبه وكتب فيه أشهر قصائد المدح في زمنه، فقرّبه أمير المؤمنين ونادمه ومازحه وصادقه عشر سنين، ثم قتله. جلدوه حتى الموت على سفينة للخليفة تجوب البصرة، بعدها رموه في الماء. حمل الماء جثة القتيل إلى الشاطئ، حيث وجده أهله. دفنوه، ولم يمش في جنازته إلا جارية له تبكي عليه.

شيَّدَ أسطورته بمجونه وزندقته، التي يبدو أنها خفيفة غير أصيلة: لم يكن بشار مانوياً، وهو المذهب الذي حاول المسلمون استئصاله بالقتل والصلب؛ في حين تسامحوا نسبياً مع الزرادشتيين، الذين عدوهم أهل كتاب. مذهب بشار يكتفي بتأمل تقلبات القضاء والقدر، ومشكلة الشر، وغياب العدل، والدعوة للفسق، والحب، والجنس والشرب. لم يشفع له شعره، فوقع ضحية المذبحة: مذبحة الزنادقة التي ارتكبها المهدي طالت كل من عارض السلطة، وكل من شكوا بولائه، لأتفه الأسباب. الزندقة تهمة ترمي بها السلطة الجميع: قتلوا الفرس الذين ساعدوهم على الفتك بالأمويين، وقتلوا الأمويين، وقتلوا الطالبيين والشيعة، وقتلوا الفاسقين، وقتلوا الخوارج، وقتلوا الوزراء الذين ملوا منهم أو تجاوزت سلطتهم الحدود. من أصحاب بشار قُتل الكثير، وكلهم فسّاق لا يكترثون لدين أو سياسة؛ رثاهم الرجل، قبل أن يلتحق بهم، بعد أن شهّر هو نفسه بخصومه متهماً إياهم بالزندقة!

ضاع نصف شعر بشار، مع ما ضاع في المكتبات العربية التي أحرقها المغول والصليبيون. بقي لنا نصف الديوان، وشذرات في كتب الأدب: مصيرُ شعر «إمام المولدين»، على ما أسماه النقاد القدامى، يشبه حكمته التي تصلح لكل الأزمان. يرى بشار في الدنيا مصائب وملاهٍ، وجمالاً وخيراً وفقراً وغنى تتوالى على الكل؛ لم ييأس، ولم يثق بغدر الزمن؛ نصف الحياة مغنى، ونصفها تيه وحزن وأسى لا رادّ له:

يعِيشُ بِجِدٍّ عاجِزٌ وجلِيدُ                                       وكل قريب لا يُنال بعيد

وفِي الطَّمَعِ التَّنْصِيبُ والْيأسُ كالْغِنى            وليس لما يُبقي الشحيح خلودُ

ولا يدْفعُ الْموْتَ الأَطبَّاءُ بالرُّقَى                         وسيان نحسٌ يُتّقى وسعود

وما نال شيئاً طالبٌ بجلادة ٍ                              ولكن لقومٍ حظوة ٌ وجدود

وتُصْبِحُ لا تدْرِي أَيأتِيكَ خافِضاً                             نصيبك أم تغدو له فترود

يفوت الغنى قوماً يخفّون للغنى                         ويلقى رباحاً آخرون قعود

وللخير أسباب وللعين فتنة ٌ                       ومن مات من حب النساء شهيد

يختم بشار قصيدته، التي افتتحنا بها قصته بحساسية مختلفة عما نعهده من الغزل العربي التقليدي قبله (وبعده عند المحافظين)، الذي يشيد بجمال المرأة الساحر، التي سيخطفها الشاعر العربي الشجاع على الرغم من أهلها، المرأة المنعّمة الغنية الحرّة المكسال ساحرة الجمال والأنوثة: امرأة شبحية بدون شخصية أو وجود، رمز متخيّل كي يفتتح به الشعراء قصائدهم على الأطلال، فقط لا غير. على العكس، عشيقات بشار وأبي نواس جوارٍ يخدمن في بيوتات الأمراء، سباهُنَّ المقاتلون أو اشتراهم أغنياء البلد، لهنّ أسماء تميزهنّ وعناوين معروفة، يعرفن الشعر والغناء، والفكاهة والكلام؛ نساء من لحم ودم، يعشن الحياة بطولها وعرضها، ومصائبها ومفاتنها وتقلباتها، نساء عاديات شغوفات بما يسمعن، يهزمهنّ القدر دوماً في النهايات الحزينة لقصص الشعراء والأمراء.

يعترف بشار أن حبيبته، وهي جارية لم يستطع شراءها، وأحبها سنين طويلة، قد لا تكون جميلة، إلا لمن يحبها حقاً.

يتساءل الفارسي الزنديق:

وسألتُ النِّساءَ: أبصرن ما أبـ           صرتُ منْ حسنها؟ فقال النِّساءُ

دون وجهِ البغيضِ وحشة ُ هولٍ             وعلَى وجْهِ منْ تُحِبُّ البهاء

أليس جوهر الحب الحقيقي، العادي -الصادق لأنه عادي- هو أن نبصر هذه الحقيقة البسيطة عن الحياة: الجمال ذاتيٌ مخاتلٌ سرابي، لا يحتاج عيوناً، بل يخلقه الحب في المحبوب؟