أصدرت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) بياناً، يوم الخميس الماضي، أكدت فيه مجدداً دعمها لمضمون التقرير الذي أصدرته بعثة تقصي الحقائق التابعة لها (FFM)، في شهر آذار (مارس) من العام الماضي 2019، الذي كان قد أكد استخدام الغازات السامة في هجوم على مدينة دوما يوم 7 نيسان (أبريل) 2018، نتج عنه وفاة أكثر من أربعين مدنياً بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وكان التقرير الذي نشرته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قد خلص إلى أن السلاح المستخدم حوى على كميات من الكلور الجزيئي، وذلك من خلال تحليل العينات البيئية والحيوية التي حصلت عليها من موقع الهجوم، ومن خلال توثيق شهادات الناجين. كما قال التقرير إن الاسطوانات التي يشتبه بحملها لغاز الكلور تمّ رميها من الجو، وقد وجهت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربة صاروخية لمواقع تابعة للنظام السوري إثر تلك المجزرة، مُتهمةً نظام الأسد بالوقوف خلف الهجوم.
لم تكن بعثة تقصي الحقائق تلك تمتلك الصلاحيات اللازمة لتحديد هوية الفاعل، إلا أنه كان قد تم تشكيل لجنة أخرى تابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، تمتلك صلاحيات تحديد مرتكبي الجرائم (IIT)، وذلك في حزيران (يونيو) 2018. ولم تصدر اللجنة التي يحق لها تحديد هوية الفاعل تقريرها بخصوص هجوم دوما بعد، إلا أنها وضعت النظام وداعمته موسكو في موقف حرج للغاية.
في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي 2019، نشر موقع ويكيليكس، الذي يدور جدل حول ارتباطات مؤسسه السياسية مع موسكو، تسريبات قال إنها رسائل متبادلة بين مُحقِّقَين شاركا في مهام بعثة تقصي الحقائق للتحقيق في هجوم دوما الكيميائي. وتضمنت الرسائل تشكيكاً بنتيجة التقرير، حيث قال أحد المُحقِّقَين، حسب ما نقلت وكالة رويترز، إنه طلب نشر التحقيق الأصلي بكامله، لأنه يخشى أن النسخة المنقحة التي تم نشرها لم تكن تعكس ما توصل إليه الفريق فعلاً.
نتيجة ذلك، أكّدَ رئيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، خلال أعمال الجمعية العامة لمنظمة الحظر في شهر تشرين الثاني نفسه، على دقة التقرير، وذلك رداً على هذه التسريبات، مؤكداً تبنيه الكامل لما جاء فيه. وفي الأسبوع الماضي، اتخذت المنظمة خطوة جديدة في تبني التقرير وتفنيد التسريبات المزعومة، إذ نشرت بياناً يُظهر تفاصيل عمل المُحقِّقَين، اللذين لم تُسمّهما وأشارت إليهما بالمحقق A والمحقق B، خلال مهمة بعثة تقصي الحقائق.
وأكدت المنظمة في بيانها أن المحقق A «لم يكن عضواً في مهمة تقصي الحقائق التابعة للمنظمة (…) ولعب دوراً ثانوياً مسانداً في التحقيق بواقعة دوما»، وأنه خدع أساتذة جامعة حين أوهمهم بأنهم يشاركون رسمياً في تحقيقات المنظمة، وأنه شارك معلومات سرية للغاية وتخضع للحماية من خلال قرص صلب مع هؤلاء الأساتذة. أما عن المحقق B، فيقول البيان إنه قد سافر إلى سوريا في شهر نيسان (أبريل) 2018، بعد أن تم اختياره للمشاركة في مهمة بعثة تقصي الحقائق للمرة الاولى، إلا أنه «لم يغادر أبداً مركز القيادة في دمشق، لأنه لم يكمل التدريب المطلوب للانتشار في الموقع في دوما»، ليغادر عمله في فريق التحقيق في شهر آب (أغسطس) 2018.
وأضافت المنظمة في بيانها أن هذين المُحقِّقَين قاما بعمل شنيع حينما قرّرا إعطاء نتائج نهائية من دون الاطّلاع على كامل ملف التحقيق، إذ لم تتم مشاركة كامل الشهادات ونتائج التحليلات معهما، ما يدحض جميع مزاعمهما في الرسائل التي نُشرت أواخر العام الماضي.
ويواجه التحقيق في المجازر التي استُخدم فيها السلاح الكيميائي صعوبات كبيرة، أهمها العمليات التي تديرها موسكو وشخصيات في النظام السوري لترهيب الشهود وإخفاء الأدلة، خاصةً وأن قوات النظام أصبحت تسيطر على عدد كبير من المناطق التي استخدم فيها هذا السلاح، مثل دوما وخان شيخون.
على الرغم من ذلك، فقد أكدت عدة تقارير أممية استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، كما أكدت تقارير أخرى على مسؤولية النظام السوري عن عدد من تلك الهجمات، وهو أمر يبدو أنه يشكل أحد أكبر الهواجس لدى النظام السوري وحليفته موسكو، التي يبدو أنها تحاول بكل الطرق التشكيك في تلك التحقيقات للتقليل من أهميتها، بعد أن فشلت على ما يبدو في طمس الحقائق تماماً.
وتطرح تلك التسريبات عبر موقع ويكيليكس، وخاصة بعد الكشف عن الأدوار المتواضعة جداً لأصحابها، تساؤلات عمّا يمكن أن يكون مؤشراً على ارتباط الموقع بالنظام الروسي، بعد أن أصبحت تسريباته تقدم الخدمة تلو الأخرى لموسكو، ابتداءً من تسريب رسائل هيلاري كلينتون السرية خلال الحملة الانتخابية، ما أدى حسب عدد من المحللين إلى خسارتها الانتخابات بفارق ضئيل للغاية أمام منافسها دونالد ترامب، وصولاً إلى تسريب هذه الرسائل التي بات واضحاً أنها لشخصين متهمين بالأصل بتسريب معلومات بالغة السرية، عدا عن كونهما غير مطلعين على كامل ملف التحقيق، بما يشمل نتائج التحليلات للعينات البيئية والحيوية التي أخذت من موقع الهجمة، وعدد كبير من شهادات الناجين من الهجوم.
ربما يكون تقرير منظمة الحظر قد فنّد بشكل نهائي الإدعاءات التي روجت لها موسكو والإعلام المرتبط بها، باعتبارها أدلة تؤيد مزاعمها ومزاعم النظام السوري حول عدم وقوع المذابح الكيميائية أصلاً، أو حول نفي مسؤولية النظام عنها عندما لا يمكن نفي حدوثها، إلا أنّ تلك التسريبات أدّت مهمة رئيسية للغاية ضمن استراتيجية موسكو، فقد أمنّت مادة حديث وأدلة وهمية لوسائل الإعلام التابعة لروسيا والنظام السوري، وللمدونات التي تنشر نظريات المؤامرة، وللشخصيات «الأنتي-إمبريالية» التي تعيش على مثل هذه الروايات الخيالية، والمؤثرة جداً في الوقت ذاته.
على الرغم من اعتماد هذا النوع من الروايات على وقائع ملفّقة وروايات متضاربة ضعيفة المصداقية، إلا أنها تملك على ما يبدو انتشاراً واسعاً، ترى موسكو أنه مفيد لسياساتها الخارجية وتنفيذ أجنداتها حول العالم. وبينما تقبع الحقيقة واضحةً بعد كل الأدلة والبراهين المتوافرة، يبدو أن عالم نظريات المؤامرة سيظل جاهزاً لاستقبال الرواية الروسية، التي تدعمه بالقصص الخيالية الجديدة، وربما بالمال أيضاً.