هذه حكايات مُدنٍ عاشت تجربة الحرمان من الموسيقى، بعضها تحررت من السلطة القمعية التي حرمّت عليها الموسيقى، لكن أخرى ما تزال تعيش قسوة وصعوبة الحرمان من الفن الموسيقي. تحاول هذه المواد أن ترصد الأسباب السياسية والإجتماعية والفنية التي أدت إلى أن تُفرض على مدن قريبة من حولنا تجربة الحرمان من الموسيقى، كما أن المقارنة بين مدينة وأخرى من اللواتي حُرِمنَ من الموسيقى تسمح لنا برصد ظواهر متماثلة، وحكايات متشابهة تُمكّننا من الوصول إلى بعض الاستنتاجات والتصورات لما تكون عليه تجربة عصيّة على الخيال، ألا وهي تجربة العيش من دون موسيقى.
الحلم بإحياء حفلة في مدينة الصدر
مدينة الصدر هي واحدة من ثماني مناطق إدارية تتشكل منها العاصمة العراقية بغداد، كان الرئيس العراقي الأول بعد الحكم الملكي، عبد الكريم قاسم (1914-1963)، قد أنشأها في ستينيات القرن العشرين، وأطلق عليها اسم حيّ الثورة. وبعد وصول صدام حسين (1937-2006) إلى الحكم، تم تغيير اسم المدينة إلى مدينة صدام. وأخيراً بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، تم تغيير اسمها إلى مدينة الصدر، وتم تسجيل الاسم الجديد في أمانة العاصمة وفي دوائر الدولة، وفي السنة ذاتها تم منع الموسيقى عن مدينة الصدر، أكثر مدننا المحرومة من الموسيقى كثافةً سكانية.
نادرةٌ هي المعلومات عن الأسباب التي مُنعت بسببها الموسيقى في مدينة الصدر، لكن فيلم الفرقة (2017)، للمخرج العراقي الباقر جعفر، هو وثيقة دقيقة تروي حكاية فرقة موسيقية يعود كل أفرادها في أصولهم إلى مدينة الصدر، لكنهم لا يتدربون ولم يقيموا حفلات فيها قط.
يحكي الفيلم قصة فرقة حلم، المؤلفة من ستة أفراد يعزفون الموسيقى الصوفية في العراق، لكنهم يعيشون حرمان التمرين أو أداء الحفلات الموسيقية في مدينتهم الأصل، مدينة الصدر، حيث تم تحريم عزف الموسيقى، بل إنه قد يؤدي إلى قتلهم. طوال 67 دقيقة، تتابع الكاميرا أفراد الفرقة، ويتحدث معهم المخرج الباقر جعفر عن واقعهم، أحلامهم وأمنياتهم.
لكن الفيلم لا يقتصر على حكاية أعضاء فرقة حلم، بل هو بالأحرى فيلم عن مدينة الصدر أكثر مما هو فيلم عن الفرقة، إذ أن هناك عدة لقطات يتعرف فيها المشاهد على تفاصيل المدينة، وعلى الصور والصروح العامة فيها، التي تمجّد شخصية الزعيم الشيعي محمد محمد صادق الصدر (1943-1999)، وشخصية ابنه مقتدى الصدر، الذي تصدّرت كتلته السياسية (سائرون) المشهد السياسي في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، والذي تعتبر مدينة الصدر المعقل الأساسي لأنصاره وأتباع تياره.
الأسلحة بدلاً عن الآلات الموسيقية في أيدي الأطفال
ثمة ظواهر متكررة في المدن المحرومة من الموسيقى، نجدها في مدينة الصدر كما نجدها في مدن أخرى مثل الرقة والموصل خلال سيطرة داعش، ومنها ظاهرة المعسكرات التي يخضع فيها الأطفال لتدريبات على استعمال السلاح والأعمال القتالية، حيث تغيب الآلات الموسيقية، وتغيب الأنشطة الموسيقية في المدارس وفي فعاليات الطفولة، وتحلّ محلها الأسلحة الحربية في أيدي الأطفال.
ولا حاجة للتذكير بأن تحريم الموسيقى يترافق مع تشدد ديني في المدن التي عاشت هذه التجربة بمجملها، وهكذا نجد الكاميرا في فيلم الفرقة وهي تصوّرُ التجمعات الجماهيرية المكتظة في المناسبات والخطب الدينية، وتوثّقُ مشاهدَ من طقوس مدينة الصدر في يوم عاشوراء، حيث تسيل الدماء بسبب طبيعة الأداءات الجماعية اللطمية.

عازف الإيقاع حسن قحطان، عازف العود مهند عبد الرحمن، عازف العود منتظر سادة، ومغني الفرقة مصطفى فالح؛ هؤلاء هم أعضاء فرقة حلم، الذين انتقلت رغبة إقامة حفلة موسيقية في مدينتهم الأم من واحدٍ منهم إلى الآخر. يتابع الفيلم نقاشاتهم، وآراء كلّ منهم وما يميزها عن آراء الآخر، تهوّر بعضهم، وتردد آخر لأن لديه أبناءً، بالإضافة إلى صمتهم الذي ينقل مخاوفهم في مشاهد عديدة من الفيلم. لكن هناك أمران يجدر ذكرهما عند الحديث عن أفكار أعضاء الفرقة ومشاعرهم: الأول هو وعيهم لحاجة مدينتهم إلى الموسيقى، أي أن هناك جانباً من رغبتهم في إقامة حفل موسيقي مبنيٌ على وعيهم بدور الموسيقى؛ أما الأمر الثاني الجدير بالذكر، فهو أن أحداً لا يمكنه تخيّلُ أو تمثّلُ مشاعر فنان موسيقي يحلم بأن يقيم حفلاً موسيقياً في مدينته التي حُرمت الموسيقى، إلا أولئك الذين عاشوا تجربة الحرمان من تحقيق الفن الذي يعشقونه في مدينتهم الأم.
تحريم الموسيقى الصوفية وأغاني الراب
تصل محاولات أعضاء الفرقة لإقامة الحفلة للحديث إلى شخصية «أبو عزرائيل»، أحد المقاتلين في الحشد الشعبي، وأحد الأشخاص النافذين في المدينة. ترافقهم كاميرا التصوير في لقائهم العابر به داخل سيارة، ولأن الكاميرا موجودة، يبدي أبو عزرائيل مرونة في الحديث عن الموسيقى، فيقول: «الموسيقى لا مشكلة. هي موسيقى راقية بكائية طبعاً. تُقرِّبُ الناس من الله. إذا كانت موسيقى باكية فلا مشكلة». غير أن هذا كان رأي أبو عزرائيل أمام الكاميرا فقط، أمّا الحفل، فهو لن يرى النور في مدينة الصدر في نهاية الفيلم.
فبحق جرحك أنني بك مغرمٌ والله يعلم أنني أهواك
هذا بيت شعري لأبي حنيفة النعمان (699-767)، وهو نوع الغناء المرافق للأداءات الموسيقية لفرقة حلم. هي إذن موسيقى صوفية، من تلك التي تستلهم العشق الإلهي الذي تُعرف القصائد الصوفية بأنه موضوعها الرئيس. إنها فرقة بآلات موسيقية، تقدم موسيقى على اتصال فني وإيديولوجيّ مباشر بالدين.
في كتابه متصوفة بغداد (1994)، يكتب عزيز السيد جاسم: «كانت انطلاقة تيار التصوف الإسلامي في القرن السادس الهجري من العراق، كانت بغداد مدينة للعلوم والتصوف، وقد أقبل البغداديون على الغناء الصوفي مبكراً». أما حسن الشكرجي، وهو مدير عام دائرة الفنون الموسيقية العراقية، فيقول «إن الإنشاد والغناء الصوفي في العراق والبلدان العربية ينبع من منطلق واحد، حيث التشابه في الأسلوب والاختلاف في التقديم، وبغداد موطن لهذا اللون، ومنه انتقل إلى الشام ومصر وتركيا».
ورغم رأي المؤرخ والباحث العراقي بالموسيقى الصوفية، ومعه رأي ممثل السلطة الرسمية في العراق، إلا أن أحياءَ وتجمعات سكنية في الجهة الشرقية من العاصمة العراقية بغداد تُحرَّم فيها هذه الموسيقى، ويخفي موسيقيوها آلالاتهم الموسيقية في حاويات أو أكياس القمامة أثناء إخراجها من المنازل، وذلك خوفاً من العقاب كما تُصوِّرُ إحدى مشاهد الفيلم. فها هو حسن قحطان، عازف العود في فرقة حلم، يقول في لقائه مع جريدة الشرق الأوسط، الذي أجرته الصحفية صابرين كاظم: «بدأنا بما يشبه المغامرة، وتعرضنا إلى كم هائل من الانتقادات، مجموعتنا جازفت كثيرًا بموضوع حمل الآلات، حتى اضطررنا إلى أن نُخرج آلاتنا الموسيقية من البيوت في حاوية النفايات، لصعوبة الظروف الاجتماعية للمناطق السكنية التي يسكن فيها أعضاء الفرقة».
شهادة أخرى مماثلة في مدينة الصدر لفنان عراقي يؤدي نوعاً موسيقياً آخر، وهو آدم قاسم (23 سنة)، ذُكرت في جريدة الحياة في مقالة بقلم علي السراي، يقول فيها إنه يمرن نفسه على أغاني راب عراقية في المنزل: «أُخفضُ صوتَ الموسيقى حتى لا يُفضح أمرنا بين الجيران»، ولدى سؤاله عما إذا كان ورفاقه نظموا حفلة في مدينتهم، يرد بابتسامة ساخرة: «كلما تذكرنا صديقاً خطف وقتل قبل شهور، عدلنا عن الفكرة. أمر مستحيل، على الأقل الآن».
مُخرجٌ يحلم بعرض فيلمه في مدينته الأصل
حاز فيلم الفرقة للباقر جعفر على جائزة معهد العالم العربي لأفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان السينما العربية بباريس، وعلى جائزة ريشة لأفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان كرامة لحقوق الإنسان في الأردن، وعلى تنويه خاص من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي بالجزائر. لكن الفيلم لم يُعرض في بغداد، الأمر الذي لا يتوقع المخرج حدوثه قريباً، وهكذا نشهد على ولادة فنان جديد محروم من تقديم فنه في مدينته الأصل، لينضم بذلك إلى أعضاء فرقة حلم، كفنانين محرومين حتى الآن من تقديم فنونهم في أحياء المدن التي ولدوا فيها.