من الممكن أن تكون المبالغات المسرحية المتطرفة في مسرحية الدرس ليوجين يونسكو، والعلاقة القهرية بين الأستاذ والتلميذ، واحدة من أكثر العلاقات المتطرفة التي تشبع غضبنا على المؤسسات التعليمية، وتفضح الإكراه الممارس على التلاميذ والطلاب خلف جدران الأكاديميات في العالم. لكن هذه التصور العبثي في المسرحية للعلاقة بين الأستاذ وتلميذته لا يشبه الطموحات الآملة للطلاب، الذين يلتزمون بمواعيد المحاضرات ويحاولون الدراسة والتحضير لاجتياز امتحاناتهم والانضمام إلى صف طويل من الخبراء والدكاترة والباحثين. هذا التناقض بين ما يجعلك تكره موقعك كتلميذ، في حين أنّ لديك كل الأسباب التي تدفعك للبقاء فيه، يُترجم على شكل علاقات غير متوازنة وغير سليمة، ليس بين التلامذة والأساتذة فحسب، بل أيضاً بين ما هو ضمن هذه المؤسسات التعليمية وخارجها، وبين المتحيزين لها ومنتقديها. أعاد بيير بورديو دراسة هذه العلاقات ضمن نسق التعليم ودرس «السلطان البيداغوجي» سوسولوجياً في كتابه إعادة الإنتاج، وما أعادني إلى مسرحية الدرس وكتاب بورديو هو الصفة الجديدة التي اكتسبتُها في الجامعة في السنة الأخيرة، وهي صفة «التلميذة الجديدة».
لم يتطرق كلا المؤلفين السابقين لخصوصية الطالب الجديد الأجنبي، لكنها عودة ضرورية لمناقشة هذه العلاقة مع الأكاديمية من وجهة نظر شخصية، بعد عودتي إلى مقاعد الدراسة بصفتي طالبة في واحد من برامج الماستر في جامعة الفنون في برلين (UDK)، وذلك من خلال النظر إلى الخلف وإلى التاريخ الشخصي لهذه العلاقة مع المدرسة والجامعة والنظام التعليمي كاملاً، أو من خلال التمعّن في العلاقة -حديثة العهد نوعاً ما- مع النظام التعليمي الجديد بالنسبة لي، بلغة ليس لي فيها خبرة مديدة. ورغم كل محاولات استيعاب وتفكيك علاقة السلطة هذه، إلا أن هذا السلطان البيداغوجي صار أكبر، وازداد غموضاً.
ورغم محاولات جامعة برلين للفنون نزع صبغة السلطة والرهبة هذه من خلال تقليل عدد الامتحانات الكتابية، والحثّ على جلسات نقاش وحوار بين الطلاب، ودفع الطلاب إلى إنتاج مشاريع فنية ونصوص إبداعية متحررة من القواعد الأكاديمية ومعياري الصح والخطأ، وأكثر انخراطاً في السياق الاجتماعي خارجها، إلا أنها لا تزال واحدة من أكثر الجامعات المكرسة في برلين مقارنةً بالمؤسسات التي تُدرِّس الفنون في ألمانيا، والصيت المرافق للجامعة، وتحديداً بما يتعلق بامتحانات القبول/الاصطفاء، هو الأشد رهبة ورعباً بالنسبة لعدد كبير من الطلاب المهتمين بدراسة الفنون.
تتضاعف التعقيدات في حالة الطلاب الأجانب، الذين ترافقهم صعوبات جمّة لا تنحصر بالجوانب المعيشية والمّادية في البلد الجديد فحسب، بل تتجاوزها إلى صعوبات جوهرية في عملية التعلم، سببها اختلاف أرضيات المعركة مع السلطان البيداغوجي، واختلافاتٌ جذريةٌ في النظام التعليمي. ولا ننسى، بالطبع، التعلم بلغة ثانية -أو ثالثة- تم اكتسابها حديثاً.
بعد انقضاء الفصل الأول من دراستي، استطعتُ صياغة ثلاثة ملامح من هذه التجربة، آملة أن أنتقل إلى مراحل أكثر تقدماً بخفة سوبر ماريو وعدد أرواحه. مع العلم بأن هذه الملامح قد تُميّز بشكل أدق من قِبل الطلاب الجدد في الفروع الدراسية في مجالات الفنون والأدب وعلم الاجتماع، أو طلاب المجموعات الدراسية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد الطلاب فيها ثلاثين طالباً، والتي تعتمد بشكل أساسي على حضور الجلسات والمشاركة في العمل الجماعي.
كيف تتعامل مع المعلومات التي لا تفهمها؟
ربما يوجد سؤال سابق لهذا السؤال، وهو كيف تحصل على المعلومة التي تريدها؟ في مجالات الدراسة النظرية والأدبية، قلّما يوجد كتاب خاص يمكن للطلاب الدراسة منه عند التحضير للامتحان، أو نوطة محاضرات يمكنك شراؤها من الكشك مقابل الكلية. يمتلك جميع الطلاب حساباً خاصاً على موقع الجامعة الإلكتروني، وفي مكان ما على هذا الموقع، سيجد الطالب المراجع أو النصوص التي أعد منها البروفسور المحاضرة، وليس المحاضرة ذاتها مكتوبة. أما تسجيل المحاضرات صوتياً فليست عادةً دارجة، وتتطلب موافقة البروفيسور، الذي يُحتمل أن يرفض.
الشق الآخر من السؤال، وهو كيف نتعامل مع المعلومة التي لا نفهمها؟ يُطرح هذا السؤال كثيراً من قبل الطلاب الألمان والأجانب في اختصاصنا، وليس ذلك بسبب صعوبات اللغة فحسب، بل بسبب غرابة المصطلح أحياناً، أو تعقيدٍ في تركيب الجمل، يجعل الطالب يفقد تواصله مع حديث البروفيسور، أو يسيء فهمه.
يشعر المرء مع الوقت بأن سوء الفهم هذا، أو الضبابية المرافقة لحديث البروفيسور، هي شرطٌ لازمٌ من شروط التواصل بين المعلم والطلاب في المؤسسات التعليمية عموماً؛ بعبارة أخرى، كلما ازدادت عملية التواصل البيداغوجي غموضاً كلما صارت اللغة العلمية أكثر أهمية بالنسبة للطلاب، وصاروا مجبرين على فك شيفرات هذه اللغة من أجل إتمام عملية التعلم.
عندما أستشعرُ بداية سوء الفهم هذا، أتجه مباشرة إلى المعجم الإلكتروني، الذي قلّما يعطيني التفسير الدقيق للكلمة اصطلاحية، فأضطر بعدها للبحث في غوغل عن مقالات تطرقت لشرح الفكرة أو المصطلح. عملية البحث هذه لا تتطلب أكثر من دقائق، إلا أنها كافية للتسبب بانقطاع سلسلة الأفكار وتشويش التركيز الهشّ أساساً في حالة مثل حالتي، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من محاولة إقناع البروفيسور بأني أفهم تماماً عمّا يتحدث، وذلك إما بالنظر المباشر إليه وهز الرأس، أو بتدوين ملاحظات على دفتر، سأنساها أو أنسى معناها حالما أعود إلى البيت، لأعود إلى غوغل حتى أجد اقتراحات لأوراق بحثية ومقالات تقربّني أكثر من المعلومة الضائعة.
يمكنني أن أحتمل كل مصادر التشويش هذه، أكثر من أن أتشجع وأسأل البروفسور في الجلسة، وأمام الجميع، أسئلتي الكثيرة مُصاغة بلغة صحيحة ومفهومة من المرة الأولى، بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الأسئلة بديهية أو عديمة الجدوى. في مرات عدة، توجهت بأسئلتي إلى زملائي العارفين، والتي ربما تتطلب الإجابة عليها بضع دقائق، إلا أنهم كثيراً ما يصرّون على تحديد موعد مسبق على أجندة مواعيدهم بعد أسبوعين من الآن! لذلك، أفضّل أحياناً اكتشاف العجلة مجدداً، وإعادة التجريب والبحث في المراجع التي أعرفها والتي لا أعرفها، أو التعامل مع المعلومة كحقيقة مطلقة على أمل أن أفهمها عند التظاهر بذلك، أو عند تكرارها عشر مرات. ومع تقدم الفصل الدراسي، تتحول هذه المعلومات التي لا نعرفها إلى أشباح تقضّ مضاجعنا، وتُخرج لنا في الكوابيس، إذ يظل لدينا هاجسٌ كبير ناتجٌ عن إحساسنا بعدم الفهم، الذي قد يكون متعلقاً بجزئية صغيرة، ربما تكون ثانوية في نهاية المطاف.
ما هو سؤال بحثك؟
في مقررات عديدة في برنامجنا الدراسي، يُستعاض عن الفحص التقليدي بمشاريع، أو إعداد أوراق بحثية. ومع بداية شهر الامتحانات، يبدأ البروفيسور جلسة العصف الذهني من أجل مساعدة الطلاب على اختيار أسئلة بحثية تناسب المقرر. في إحدى المقررات التي تتناول بشكل رئيسي نظرية الاستقبال والمشاعر الاجتماعية عند الجمهور، أفصحتُ عن نيتي الخجولة بالبحث في موضوع القشعريرة التي تصيب المتفرج عند مشاهدة فيديوهات المظاهرات القادمة من مناطق مختلفة من العالم، وعن أسبابها العلمية وشروطها.
وبعد أن استجمعتُ شجاعتي وكل ما أملك من تركيز وضبط نفس لاستيعاب ضحكة من هنا وهمس من هناك حول الكائن العجيب الذي يتكلم، كانت ردة فعل البروفيسور الأولى هي التوجه لي بالسؤال المعتاد: «هل لي أن أعرف من أين حضرتك؟»، وعندما أجبت، عبّرَ البروفيسور عن تفهّمه سبب السؤال البحثي المقترح.

للحظات قصيرة أردتُ أن أشرح اختلاف السياقات التي جئتُ منها، وأردتُ أن أجد سؤالاً بحثياً آخر، أقرب جغرافياً وثقافياً للمكان الذي أدرس فيه، وأردت أن أشرح مطولاً للبروفيسور والزملاء معاً عن معنى أن تكون خارج السياق، ففي الوقت الذي يثير اهتمام المجموعة أني قادمة من سوريا، مع ما لهذه المعلومة من وقعٍ مصحوب بضجة إعلامية صاخبة في الأخبار حول السوريين واللاجئين، لا أريد من جهتي الانجرار أكثر إلى موقع الغريب، والاضطرار للتعريف بنفسي وتفسير اهتماماتي في كل مرة.
أما الأصعب من ذلك، فهو أن يتحول خروجك عن السياق إلى عبء تراه في عيون أصدقائك وزملائك في الجامعة، وبالرغم من أن خيالاتي قد تكون متطرفة فعلاً، لكني بمجرد التفوه بأفكار خاصة خارج السياقات الراهنة بالنسبة للمجموعة، أتحول بالنسبة لهم إلى كائن فوضوي، أشعث الشعر، ثقيل الحركة، مع حردبة كبيرة تجعلني مرئية في كل مرة أحاول فيها التخفي.
هل كل شيء على ما يرام؟
في القسم حيث أدرس، تُولي الجامعة اهتماماً خاصاً للمحاضرات التي يعدها الطلاب، وتحث على الطرق التفاعلية التي تتشارك فيها المجموعة بإعداد المحاضرة. في إحدى المرات، ولسبب ما، قررت صبية كتابة محاضراتها على شكل حوار مسرحي، حيث تمثل كل شخصية وجهة نظر تجادل الأخرى، وعند توزيع الأدوار، كان دوري هو الجوقة؛ وكانت جُمل الجوقة مقتضبة للغاية، في غالبها تعابير صوتية مثل ياهووووو أو واوو أو هاهاهاها.
يومها لم أعرف ماذا يجب أن يكون موقفي. لستُ ألمانية، ولستُ أفضل من يتكلم الألمانية؛ لكني حتماً أستطيع قراءة جملة كاملة أطول من واوو أو ياهو! لكن -مع افتراض حسن النية- ربما فكرت زميلتي بتفادي الحرج لي ولها، واختصار دقائق من القراءة البطئية أو التأتأة عند الكلمات الغريبة، وبدوري لم أعبر عن أي عتب أو امتعاض، لكن ذلك سبَّبَ لي حزناً وألماً، وتطلعتُ إلى اليوم الذي تنتفي فيه الإشارات إلى أصولي الأجنبية من لغتي الألمانية، إلى اليوم الذي ألفظ وأقطّع فيه الكلمات ذوات العشرة أحرف وما فوق بالسلاسة ذاتها التي يلفظها بها زملائي الألمان؛ اليوم الذي أعرف فيه جنس كل كلمة بالفطرة دون العودة إلى المعجم أو غوغل، ودون أن أستخدمها بشكل خاطئ. مع الوعي الكامل بهاجس شخصي بعدم الوقوع في فخ الاندماج، ومع اعتقادي بأن الرغبة في طمس الجذور هي بالدرجة الأولى رغبة عنصرية بيضاء؛ إلا أن دور الغريب أو الأجنبي ليس دوراً يمكن التلذذ والاستمتاع بلعبه، لا سيما عندما تُضاف إليه سمة جديدة وهي الطفل الصغير الكبير الذي لا يزال يتعلم أصواتاً مثل واوو وياهووو، ويحتاج إلى مراعاة خاصة في المجموعة.
يستمر رعب اللغة عند كتابة موضوعٍ بحثيٍّ أو عند الإجابة على أسئلة تُرسل لنا مساءً حول نص ما، وهنا يبدأ السباق مع الزمن لأن الوقت الذي يحتاجه الطالب الذي يدرس بغير لغته الأم أطول من الوقت الذي يحتاجه الآخرون، ويؤثر ذلك بشكل مباشر على جودة إخراج الأوراق البحثية والوظائف وشكلها العام. وكان البروفسور قد أكدّ لنا في أكثر من مناسبة أن جودة العمل مؤشر على صفاء الذهن والتمكّن من المعرفة، وهذا كلام دقيق فعلاً؛ لكن كيف لي أن أتمتع بصفاء الذهن وسط كل عوامل التشويش الخارجية وما تسببه من قلق وتوتر، صارت عوارضه الجسدية تظهر عليّ بحسب تشخيصات ذاتية غير طبية، وغير دقيقة ربما.
بعد يوم طويل في الجامعة، تعود «التلميذة الجديدة» إلى البيت مع شعور ثقيل بالذنب، فإذا تأخرت المحاضرة، أحمّل نفسي ذنباً فأقول بيني وبين نفسي إن التأخير ربما يرجع إلى الطاقة سلبية التي أحضرتها معي من البيت، وعندما يحلّ الصمت في نقاش ما في ختام الجلسة أكون أنا السبب على الأرجح، لأن الأفكار الكثيرة في دماغي تحتاج وقتاً طويلاً لصياغتها وتكثيفها ومشاركتها مع المجموعة. واختيار البروفيسور مقعداً مجاوراً لمقعدي في حلقات النقاش، يتسبب لي دائماً بتعرّق كثيف.
وعندما توجه البروفيسور لي بالسؤال عن رأيي في الفن المفاهيمي، أجد نفسي في مكان شائك، لأني لست من المعجبين بهذا الفن ولا أتقبله، لكن في الوقت ذاته ليس لدي ثقة برحابة صدر البروفيسور، لذلك حاولت أن أجيب بأن الفن المفاهيمي يُساء فهمه أحياناً، وبعد محاولات اللفّ والدروان لتمويه الموضوع، انتهى بي الأمر لقول أشياء لستُ مقتنعة بها تماماً.
هذه بعضٌ من السلوكيات في قاعات الدراسة، تسببت لي على مدار الفصل بصداع رأس، وساعات من النوم غير العميق وازدياد في ضربات القلب. وكل ما أرجوه هو ألّا ينتهي بي الأمر بوجع الأسنان الذي أصاب التلميذة الشابة عند يونسكو، والذي أضعف قدرتها البدنية على تحمل محاضرات الأستاذ ولغته الأستاذية، فقام بقتلها في النهاية.