يتصاعد الحديث عن الهويات بازدياد مضطرد مؤخراً؛ ازديادٌ يبدو كما لو أنه يحقق نبوءة الفيلسوف الفرنسي أندري مالرو عن أن القرن الحادي والعشرين سيكون روحانياً، أو أنه لن يكونMalraux, André. (1972): La Légende du siècle. وبينما نحن على أبواب العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يبدو التعاطي مع تعقيدات الهوية في العصر الحديث مختلفاً عما بدت عليه في القرن الماضي، إذ كانت النزعات الفلسفية تجنح سابقاً نحو قراءة إشكالية الهوية باعتبارها مركباً اجتماعياً، وبذلك تُسحب منها صفة الإطلاق. اليوم، يبدو أن السياق ينحو تجاه التعاطي مع الهوية على أنها مطلق، على أنها ذات أو «روح» خالدة، على أن لها خواص معينة عابرة للواقع أو البنى التحتية، التي تنسج الهوية في علاقتها بالمعطيات الاجتماعية والاقتصادية، وبالمعطيات التاريخية. هكذا تكتسب هوية المرء طابعاً روحانياً، بحيث تلتصق التصاقاً وثيقاً، لا بالموقع الاجتماعي أو التاريخي أو بالبعد أو القرب من مركز الامتيازات، بل بماهية خالدة لذات تتمتع بالديمومة. وفي هذا الإطار يأتي الحديث عن العربAlghoul, Diana. (2020): Arab veganism: Back to their roots or copying the West? The New Arab. أو عن شعوب شمال إفريقياBouzit, Fedwa. (2019): Growing Up a Vegetarian in Morocco. Heinrich Boell Stiftung Middle East. مثلاً، باعتبارها أمماً نباتية «الماهية» حتى مجيء الاستعمار الغربي، وكذلك الحديث عن الجنسانية والهويات الجندرية السائلة في إفريقياNtshinga, Thandiwe and Sejake, Mamello.(2017): Re-Imagining an Africa Where Gender and Sexuality Is Fluid. OkayAfrica. حتى مجيء المستعمر الأوروبي الأبيض، الذي قام بتخريب ما كان «نموذجياً» وتجسيداً حقيقياً للأمة و«روحها» الخالدة.
إذن، كان يشيع النظر إلى هذه الصفات التي تشكل الهوية على أنها انعكاس لواقع ما، فيما تجنح اليوم لأن يتم التعامل معها بوصفها صانعةً للواقع: على نحوٍ ماهويّ (essentialist)، تصبح الهوية بشكل متسارع هوية روحية متمايزة، على نحو يحقق نبوءة مالرو بشكل من الأشكال.
وفي هذا السياق تأتي المظلومية في ارتباطها العضوي بالهويات، حيث يبدو فعل العودة إلى الهويات في العصر الحالي نابعاً من إحساس «الحامل الاجتماعي» لهوية ما بالظلم، على عكس صعود الهويات في سياق الحداثة، الذي جاء بخطاب هويات متزامن مع نوع من الشعور بالاختلاف والتميز. لا يقتصر الحديث هنا عن الهويات المُضَطهَدة تاريخياً كالسود والملونين وأصحاب الميول الجنسية المرفوضة مجتمعياً والنساء، بل يمتد تشكل الهوية على أساس المظلومية ليشمل الورَثَة التاريخيين للهويات المُضطهِدة، تلك الهويات التي قامت تاريخياً على ادعاءات التفوق العرقي في حينها. نتحدث هنا عن الرجل الأبيض غيري الجنس، الذي كان يرى بأنه على قمة الهرم.
يقدم الرجل الأبيض غيري الجنس اليوم مسوغات ارتباطه بهويته، وانحيازه للنزعات اليمينية، باعتبارها احتجاجاً على المظلومية التي يتعرض لها مجتمعه من قبل المهاجرين واللاجئين والخطاب النسوي والكويري، وبناءً على إحساسه بتضعضع ثقافته أمام اجتياح أفكار العولمة والكوزموبوليتانية. في أدبيات اليمين المعاصر، يبدو الإسلام بعبعاً انتصر على الهوية الأصيلة لأوروبا المسيحية، ويظهر خطاب اليمين اليوم كما لو أنه ردة فعل مرتبكة وخائفة ممن يسرقون العمل ويدمرون الثقافة. هو خطاب المظلومية ذاته، الذي يقدمه المسلمون في أوروبا، معكوساً.
ولكن ما الذي يمكن أن يحققه خطاب المظلومية؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتحرر المظلوم من الظلم عبر خلق خطاب يربط بين كينونته «الأصيلة» إن أمكن الحديث، وبين فعل الظلم كمكون لها؟
يحذر محمود ممدانيMamdani, Mahmood. (2003). Making Sense of Political Violence in Postcolonial Africa. Socialist Register. من الوقوع في فخ المظلومية، الفخ الذي يشبّهه بعالم القط والفأر؛ ثنائية معتدٍ ومعتدى عليه، تجعل من الفأر غير قادرٍ على تصور عدو آخر غير القط، ولا يمكن للقط في الوقت نفسه تصور وجبة ألذ من الفأر. وبإسقاط مقولة ممداني على الحالة السورية، يمكن لنا أن نرى كيف أن كثيراً من دعوات التطبيع مع إسرائيل جاءت من موقع أنه ليس للسوريين اليوم عدوٌ خلا النظام، فيما يدخل سوريون كثر إلى «سوق» التضامن الدولي من موقع أنه ليس في العالم من ضحايا كمثل السوريين. يرى ممداني أنه عبر تلك اللعبة يرسخ القط تصورات الفأر عن نفسه، وتتم قولبة الفأر والقط في تلك الثنائية حديّة الأطراف، وعندما يُشكّل القط وَسمَ الفأر عن نفسه، فإنه بذلك يضمن استمرار العالم على اعتباره عالم القطط، حتى لو استطاع الفأر هزيمة القطط في إحدى المعارك لاحقاً.
بهذا، تُشكّل المظلومية العصب الأساسي للهوية، تأسر المظلوم في داخلها وتصوغ مفردات خطابه ورؤيته، ليس نحو الآخر فقط، وإنما نحو ذاته أيضاً. هي رؤية للذات لا يمكن إلا أن تصب في إطار فهم ماهويّ للهوية؛ فهمٌ يقطع مع كل التراكم الفلسفي الذي أدى في النهاية إلى تفكيك النزعة التي ترى في وجود شيء ما عنصراً جوهرياً، تلك النزعة التي منها يشتق الفهم الاستعلائي والفاشي والطائفي لوجود جماعة ما، الفهم الذي يؤدي إلى قولبة الجماعة وانطوائها على ذاتها. يقول فوكو في معرض تعقيبه على هذا النكوص في سياق الهويات الجنسية: «عندما يكون السؤال الذي نطرحه على ذواتنا هو، هل يماثل ذلك الفعل هويتي أم لا، فإننا إنما نقوم بإعادة إنتاج منظومة قيمية تشابه المنظومة القديمة للذكورية غيرية الجنس»Michel Foucault. (1996) [1984]. Sex, Power and the Politics of Identity..
ومن المكان نفسه تأتي قراءة جوديث باتلر النقدية لسياق الهوية، ورغم أنها تُحسب على التيار النسوي والكويري، إلا أن باتلر لا تخفي قلقها من صعود هذا التصور الماهوي للهويات. تقول باتلر في مؤلفّها؛ Imitation and gender insubordination (التقليد والتمرّد الجندري): «أنا لست على اتفاق مع نظريات المثليات أو نظريات المثليين، حيث أرى بأن التصنيفات الهوياتية تميل إلى أن تكون أدوات لهيئات الرقابة التنظيمية»Butler, Judith. (1990). Imitation and Gender Insubordination.
الهويات المظلومة والتعاطف مع الجلاد
يشابه الخطاب الهوياتي اليوم بمجمله ذلك التصور القديم عن الذات بوصفها جوهراً، يحدده انتماءٌ جندري أو إثني أو ثقافي ما، علاوة على ذلك، فإن خطاب الهويات يميل إلى تشكيل سلطات رقابة ومعاقبة إلى حد ما، خطاب يحظى فيه صاحب/ة سردية المظلومية الأكثر توفيقاً بالتعاطف الذي يعود ليشكل نقطة عمياء عند قراءة وتحليل حدث ما. يبدو المشهد كأننا في سوق تُباع فيها المظلومية بقليل من التعاطف، تعاطفٌ يمتد ليشمل جناة اليوم لمجرد كونهم ضحايا البارحة.
تخلق المظلومية وخطابها فضاءً ضبابياً يعمل على تمييع المسافة بين المجرم والضحية، إذا تميل النفس البشرية إلى خلق ميكانيزمات معينة تعمل كنقطة عمياء في إطار التعامل مع مجرم فيما لو اتضح أنه تعرض لاستغلال أو ظلم أو تعنيف في الماضي أو الحاضر. من الواضح تماماً أنه بعد كل حادثة إطلاق نار جماعي مثلاً، يهرع كثيرون لتقصي تاريخ المجرم منذ طفولته، باحثين عن أي حدث يمكنه تفسير النزعات الإجرامية، وهذا ما يحدث عادة في كل مرة يقدّم فيها مغتصب ما روايته عن تعرضه للاغتصاب في سن مبكرة مثلاً. وما يبدأ عادة كمحاولة للفهم أو التفسير، ينتهي في غالب الأحيان ليصبح محاولة تبرير.
تروي ديانا إينسEnns, Diane. (2012). The violence of victimhood، بروفيسورة الفلسفة في جامعة ريرسون في تورونتو، بأنها خلال تدريسها لمادة الفلسفة السياسية، وبعد قراءة كتاب: ذكريات مقاتل ولد، لمؤلفه اشمائيل بياه، وهو مجرم ارتكب جملة جرائم بحق المدنيين في سيراليون، بعد أن تم اختطافه في سن الثانية عشر وانضم إلى الميليشيات الدموية، قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة ونشر سيرته الذاتية؛ تروي إينس أن طالبين فقط من أصل ما يزيد عن مئة طالب/ة، تمكنوا من الحفاظ على موقفهم في تحميل بياه مسؤولية جرائمه، والبقية لم يتمكنوا عملياً من الاستمرار في رؤيته كمجرم، إذ تفوّقَ الشعور بالتعاطف والشفقة تجاه الطفل المُختطَف على مواقفهم القيمية تجاه ضحايا الجرائم التي ارتكبها في ذلك الوقت ولاحقاً. يمثّل ذاك الصف الدراسي نموذجاً عن كيف أن التعاطف ينجح في خلق نقطة عمياء تحول دون تقديم محاكمة قيمية لسلوك إجرامي.
لا تقتصر آلية التعاطف هذه على مستوى الأفراد كما هو الحال في موقف الطلاب من اشمائيل بياه، بل تعمل على مستوى الجماعات أيضاً، وتبدو هذه الآلية من أهم الأسباب التي تدفع كثيرين في الغرب للتعاطف مع إسرائيل وتبرير جرائمها المتلاحقة وسلوكها الاستعماري الاستيطاني العنصري، ونرى ذلك حتى عند جان بول سارتر، الذي كان يرى أن قتل أوروبي هو ضرب عصفورين بحجر واحد؛ هو تخلّص من مُستَعمِر وتحرير مُستَعمَر في الوقت نفسهSartre, Jean-Paul (1961). Preface to Frantz Fanon’s “Wretched of the Earth”. لكن «راديكالية» سارتر هذه تختفي بشكل كامل، ولا نرى لها أي أثراً عند مراجعة مواقفه تجاه دولة إسرائيل، إذ يعود حينها ليتماهى مع كثيرين من فلاسفة عصره الأوروبيين في تبرير سياسات وسلوك إسرائيل، في موقف يبرر لذاته ويستمد شرعيته أساساً من الشعور بالذنب أو التعاطف تجاه ضحايا الهولوكوست؛ مظلومية يبدو أنها كفيلة حتى اليوم بتبرير أي سلوك عنصري أو اجرامي ترتكبه الدولة الإسرائيلية.
ينبه سلافوي جيجيك في هذا السياق من نزعات «أنسنة» الجنود الإسرائيليين Žižek, Slavoj. (2010). A Soft Focus on War، وهو ما يراه ظاهرة ثقافية معاصرة في صناعة الأفلام وأيضاً في الحياة اليومية في إسرائيل، ظاهرة تعمل بشكل واعٍ وغير واعٍ على تبرير كل انتهاكاتهم وجرائمهم بحق الفلسطينيين. نرى نقاطاً عمياءَ مشابهة عند الحديث عن الملونين والسود والمثليين والنساء اليوم، نقاطاً ضبابيةً تعمي وتحجب قدرة الأشخاص على اتخاذ مواقف متناسقة مع منظوماتهم القيمية والسياسية.
الهويات والصراع الطبقي
يقول القيادي في حركة الفهود السود فريد هامبتون في إحدى محاضراته، بأن «الطبقة المسيطرة تستخدم العنصرية كأداة استغلال للطبقات العاملة». خطاب هامبتون هذا، قبيل اغتياله على يد شرطة شيكاغو، كان يمثل الوعي العام لحركات مناهضة العنصرية في صعودها الحدي في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان من مرتكزات ذلك الخطاب في حينها توحيد الطبقات المُستغَلَّة، من البيض والملونين، ضد الطبقة المسيطرة. لم تأت تلك المحاولة أُكلها، فقد بقيت المسافة بين العمال البيض والعمال السود واسعة، وازدادت الهوة اتساعاً مع الإفقار الذي تعرضت له جماهير ما يسمى «القمامة البيضاء» (White Trash) منذ نهايات القرن الماضي وحتى الآن.
لم يستطع ذلك الخطاب في حينها جذب عناصر الطبقة العاملة البيضاء، وبقي جمهوره ينتمي عموماً إلى الطبقة الوسطى البيضاء. وعلى أي حال، فإن هذا الخطاب تلاشى مع الزمن لمصلحة خطاب «التقاطعية» (intersectionalism)، الذي تخلى عن الطبقة العاملة البيضاء وهمَّش من فكرة الاستغلال الطبقي لعناصرها. ومن خطاب هامبتون، تم الانتقال إلى خطاب يعادي حركات احتجاج، محركها الأساسي هو التفاوت الطبقي في المجتمع، مثل حركة السترات الصفراء، على أساس الانتماء الإثني و المناطقي للمحتجين، أو على أساس غياب النقاش النقدي حول الموقع الاثني والامتيازات الجهوية لدى جمهور المحتجين، لنصل إلى نتيجة تعاكس تماماً مقولة هامبتون الشهيرة، وننتهي إلى خطاب يقول إن العنصرية تستخدم الخطاب الاقتصادي-الطبقي لاستغلال الملونين. أذكر أن أحد قدامى الشيوعيين في مدينتي طرطوس قد أعرب لي، مع بداية الثورة في سوريا، عن أنه ليس من الممكن لمدينة دوما أن تعمل على «تمدين» حاضرة كدمشق. في العمق، ينتمي التحليلان إلى الماكينة الذهنية نفسها، التي تغفل دور ما هو طبقي لمصلحة ما هو ثقافي وحضاري.
كنتُ شخصياً في أولى مراحل وصولي إلى أوروبا عام 2012 متحمساً جداً لهذا الخطاب، ويبدو جلياً أن خطاب الثورة السورية بالمجمل في حينها كان قد بدأ ينحو تجاه ربط قضية الشعب السوري بالمظلومية، وعرض صورنا كضحايا على الشاشات. وكان أن تشربتُ خطاب الهويات المظلومة متسرعاً، وأكاد أجزم أن جزءاً من تلك العملية كان نتاج رغبة دفينة بالتشبث بروح خالدة لهوية ما، تستطيع أن تقاوم كل الاهتزازات التي كانت تتعرض لها «هويتي» في دوائر الهجرة في دول المنفى. وفي لحظة ما، شعرت بأنني قد بنيت لنفسي قصراً من الإحساس بالتعرض للظلم من «الآخر»، قصراً أصبح من الصعب اقتحامه. ولم تساهم تلك العملية إلا في خلق مستنقع يفصل بيني وبين الآخرين، ومساحة مظلمة كنت فيها فأراً يزدادُ توتراً مع زيادة إحساسه بحجم تلك الهوة. ولعلّ المرور في ذلك المستنقع كان ضرورياً كي أتمكن لاحقاً من كسر تلك الثنائية، بحيث لا أرى نفسي كجزء من ثنائيةٍ أنا فيها المظلوم الأبدي.
ويبدو أن هناك تصاعداً في وتيرة الأصوات التي تعرب عن السأم الشديد من خطاب الهويات، لا نتحدث هنا عن تصاعدها بين من خسروا امتيازاتهم التاريخية مع انتصار وانتشار منظومة جديدة لتوزيع الثروة والسلطة قائمة على «التعددية»، بل أيضاً عمّن شعروا بأن هذا التوزيع كان لمصلحة شرائح طبقية معينة ضمن فئات الملونين والسود والمثليين والنساء، بهدف إدخالهم في النموذج الاقتصادي السائد، بحيث بقيت الأزمة العميقة الكامنة في انقطاع قدرة العصب الاقتصادي الرأسمالي عن الوصول إلى الفئات الأكثر تضرراً وتهميشاً. هناك، يكمن نوع مختلف من التعددية، لا يرى نفسه معنياً من الأساس بكل هيستيريا التقاطعية السائد، هناك حيث يقبع فقراء البيض وعموم الفقراء من غير البيض وأيضاً أصحاب الجنسانيات «غير النمطية»، وكثيرون غيرهم ممن لا يمتلكون المؤهلات الخطابية واللغوية الكافية التي يمتلكها «أقرانهم» من أبناء الطبقة الوسطى، والتي تؤهلهم بشكل تلقائي للحصول فرص العمل المنتشرة في المنظمات والشبكات التي «تعمل» على رأب الصدع التنموي الحاصل ما بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، والتي من الواضح تماماً أنها تحقق لأصحابها عوائد كافية لتحقيق عبور طبقي معين.