يزيد مجمل عدد السوريين المقيمين في كندا اليوم عن 75 ألف شخص، جاء أغلبهم عبر برامج إعادة التوطين التي بدأتها الحكومة الكندية، واتسعت مع وصول الحزب الليبرالي، بقيادة جاستن ترودو، إلى السلطة. ويُعتبر هذا العدد قليلاً، مقارنة مع بلدان أخرى مثل تركيا، التي يوجد فيها ما يقارب أربعة ملايين سوري، أو ألمانيا التي يوجد فيها نحو مليون لاجئ، أو البلدان الأوروبية الأخرى.
يُعد المجتمع الكندي واحداً من أكثر المجتمعات المتنوعة عرقياً وإثنياً، ويطغى فيه التنوع الديموغرافي على التجانس، وهذا واحد من العوامل الأساسية التي تشجع الشرائح المتنوعة في هذا المجتمع على العمل بفاعلية، وممارسة نشاطاتها السياسية والدينية بحرية معقولة، رغم وجود حساسيات ونقاشات ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، لها علاقة بالسكان الأصليين وحقوقهم وطريقة تعامل الدولة معهم.
الوجود السوري اليوم هو جزء من هذه المكونات المشاركة في تشكيل هوية المجتمع الكندي، وقد تكون هذه معلومة بديهية، إلا أنه يجب الإشارة إليها في ظل بقاء السوريين في أماكن أخرى ضمن هوامش المجتمعات «المضيفة»، وعدم حصولهم على حقوق المواطنة بالتقادم، وهي الحقوق التي من شأنها خلق أو نسف القدرة على البروز والتحرك والمبادرة في البلدان التي يقيمون فيها.
يجب الإشارة أيضاً إلى أن كندا اتخذت موقفاً حازماً ضد النظام السوري منذ بداية الثورة، وقطعت علاقتها الدبلوماسية معه، باعتباره نظام إبادة، ويندر أن يتواجد خطاب رسمي أو شعبي تصالحي معه، إلا في بعض الأوساط اليسارية. لكن هذا المسار الرسمي اتخذ منحى آخر مع إعلان نية الحكومة تعيين قنصل للنظام السوري في مونتريال، وهو القرار الذي تراجعت واعتذرت عنه بعد ضغط نشطاء سوريين. هذه المعلومات جميعها مهمة، لرسم ملامح الوجود السوري في كندا، وفهم المجال الحيوي الذي يتحرك النشطاء السوريون ويقدمون أنفسهم فيه.
حراك البواكير والأسئلة الراهنة
بدأت ملامح النشاط السياسي السوري في كندا، مع بداية الثورة عام 2011، حين بدأ النشطاء السوريون والمتعاطفون مع القضية السورية بتنظيم احتجاجات وإقامة ندوات للتعريف بالثورة وجرائم النظام للمجتمع الكندي، الذي يبدو أن فيه نسبة لا يُستهان بها تعرف القليل عن تفاصيل ما يجري خارج هذه القارة، عبر العناوين العريضة التي يتم تداولها في وسائل الإعلام المحلية.
ومر هذا النشاط السوري بمراحل عدة، وتأثر بما يجري على الأرض في سوريا، من الحماس الثوري في البدايات، إلى عسكرة الثورة وظهور التيارات الجهادية، ثم التدخل الدولي، واستعادة النظام للمناطق الخارجة عن سيطرته.
سنسلط الضوء سريعاً في هذه المادة على مدينتي تورنتو ومونتريال المركزيتين، اللتين تضمان العدد الأكبر من تجمعات السوريين، الذين يحاولون التواجد والتأثير في المشهد.
بدأت محاولات التنظيم في مدينة تورنتو مع بدايات الثورة، من قبل الأشخاص والتجمعات الفلسطينية السورية، التي كانت تمتلك خبرة طويلة في مجال الحشد والمناصرة، وضمت الاجتماعات الأولى في جامعة تورنتو نشطاء سوريين وفلسطينيين ومن جنسيات مختلفة، أسسوا تجمّع التضامن مع سوريا، بهدف حشد الحركة الطلابية، وإجراء نقاشات حول ما يُمكن فعله، فنظّموا وقفات احتجاجية، وأقاموا محاضرات لأكاديميين وخبراء يتحدثون عن الشأن السوري.
كانت الجهود عامة تتمحور حول نقل النشاط من ردود الفعل العفوية على التحولات الكبرى في سوريا، إلى التأسيس المنظم الفاعل. والآن، مع ازدياد عدد السوريين القادمين، هناك توجه نحو توسيع الآفاق التي يمكن العمل ضمنها بطريقة أكثر ثباتاً وديمومة، بعد توزع السوريين في منافيهم، وتراجع احتمالات حصول التغيير المأمول في الداخل السوري، ترجمةً للانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة القضية، بما يُعزز أهمية دعم السوريين في شتاتهم، ومحاربة محاولات تعويم النظام فيه.
أحصنة «السلام» الطروادية
تتركز معظم الجهود في الأوساط السورية المعارضة اليوم على تحسين وضع اللاجئين القادمين مؤخراً، إضافة إلى محاربة البروباغندا المروجة للنظام السوري عبر المنابر الكندية، والحرص على عدم توجه الحكومة الكندية مع الوقت إلى التطبيع معه، بعد سيطرته على مناطق واسعة في سوريا، وتَكلُّلِ بعض مساعيه بالنجاح في إعادة علاقاته الدبلوماسية مع دول كانت قد قاطعته سابقاً.

الناشط في تجمّع التضامن مع سوريا، سلام السعدي، قال في حديث لموقع الجمهورية إن «الزخم في النشاط المعارض كان موجوداً في السابق، ولكنه تراجع بعد العام 2014، وصولاً إلى سقوط حلب وشيوع مشاعر الإحباط، وتراجع الآمال الكبيرة بحصول التغيير داخل سوريا. وأصبحت الجهود الحالية متركزة على منع محاولات الترويج للنظام عبر المنابر الكندية، بعد أن سيطر على معظم الخريطة في سوريا، وتبقًى له إعادة علاقاته الدبلوماسية إقليمياً ودولياً، حتى يعود إلى نقطة الصفر. وتُعتبر الجهود الرامية إلى الضغط على المنظمات والمؤسسات التي تفتح منابرها لمؤيدي النظام والمروجين له أساسية في عمل التجمعات المناصرة للقضية السورية في كندا. معظم هؤلاء يحاولون التسلل إلى المشهد عبر شعارات السلام ومناهضة الحرب والإمبريالية، بهدف تبييض صفحة النظام السوري، وتكرار البروباغندا التي يستخدمها حول محاربة الإرهاب والتطرف. وقد حصل أن تواصلنا مع عدة جهات كانت تسعى لإقامة محاضرة لصحفية أميركية مؤيدة للنظام، وتمكّنا من إلغاء عدد من نشاطاتها المخطط لها».
وأضاف السعدي أن تجمع التضامن مع سوريا أصدر بياناً، أمس، يدين فيه استضافة أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي في مدينة تورنتو للصحفية الأميركية آبي مارتن بغرض عرض فيلم لها عن غزة، وذلك بسبب مواقفها المؤيد لروسيا ونظام الأسد. وقال التجمع في بيانه، إنه «يدين دعوة المدافعين عن الأسد، تزامناً مع تصعيد قواته والقوات الروسية حملة القصف في إدلب، ما تسبب بنزوح مئات آلاف المدنيين». مشيراً إلى أن «منظمي النشاط إما يجهلون المجتمعات والسياسة العربية، أو أنهم فقدوا البوصلة الأخلاقية».
يحاول مؤيدو النظام إذن، اختطاف الأضواء عبر تبني الشعارات التي ترفعها التيارات الكندية المناهضة للحروب أو ذات التوجه اليساري، والاستفادة من تعقيد المشهد السوري، لتصوير النظام كضحية للمطامع الغربية، وخصيم للقوى المتطرفة، بهدف حثّ الرأي العام على التعاطف معه، ما يزيد من أهمية حضور السوريين المعارضين للنظام، أفراداً وتجمعات، في موقع قوة، كي لا تتكلل هذه المساعي بالنجاح مع الأيام.
وأدت الضغوط من أجل إلغاء عدد من النشاطات المروجة للنظام في تورنتو، واستجابة المنظمين لها، إلى تعزيز موقف الناشطين المعارضين، بعكس مؤيدي النظام أو المتعاطفين معه، فقد بدأ هؤلاء بمراجعة أنفسهم مع إدراكهم أنهم في موقع أضعف، وبدؤوا يشعرون بالحذر من إعلان تأييدهم للنظام أو حضور المناسبات المروجة له، إن حصلت.
هذه الغلبة للحضور السوري المُعارض في مدينة تورنتو، خلقت مناخاً عاماً لا يتجرأ فيه من يؤيد النظام أو يسعى للمصالحة معه على تلميع صورته والحديث عن شرعيته بفم ملآن. وهو مناخ يفرض على من يحمل أفكاراً كهذه أن يقدمها تحت أغطية مستعارة، غير إشكالية، وقادرة على استقطاب من «لا يحب التحدث في السياسة»، لبناء أرضية موازية لا تضم أصحاب الموقف الصارم من نظام الأسد، قد يُبنى عليها مشاريع مستقبلية تصب في صالح الأخير.
هناك تجمع سوري واحد على الأقل في تورنتو من هذا القبيل، يحظى بشعبية مُتزايدة نوعاً ما، ويُعرف عنه حتى الآن أنه نشاط دوري، يحاول القائمون عليه إسكات الأصوات التي تُدين جرائم النظام «لعدم خلق حساسيات بين الحضور»، وذلك بهدف «جمع السوريين بعيداً عن آرائهم السياسية»، بحسب أصدقاء كانوا يحضرون هذا النشاط وانسحبوا منه لاحقاً، حين شعروا بميول غير ظاهرة قد تصل مع الوقت إلى التطبيع مع النظام عبر استخدام عناوين «السلام والمحبة». ورغم أنه لم يظهر في هذا التجمع حتى الآن أية إشارات مباشرة إلى تأييد النظام الصريح، إلا أن الأمر الإشكالي فيه هو أنه يعيد تشييد جدران الخوف والرقابة في نفوس السوريين، تاركاً باب التأويل مفتوحاً حول مغزى هذه التوجهات.
مع كل هذه المعطيات، ومع إدراك أن المزاج السياسي، الرافض للنظام اليوم، قابلٌ للتقلّب تبعاً للظروف، تزداد أهمية العمل على المدى الطويل لتأسيس أرضية صلبة تمنع اختراقات النظام وممثليه ومؤيديه، وهو ما يناقشه النشطاء في تجمّع «المساحة»، الهادف لمقاربة الرؤى والآراء، بغية إيجاد الطريقة المُثلى للعمل السياسي المنظم في المستقبل.
مونتريال والقنصل المُقال
على العكس من تورنتو، تضم مدينة مونتريال، الفرانكوفونية، شرائح أوسع من مؤيدي النظام، لتكون بذلك الغلبة الديموغرافية لهم، على حساب الوجود المُعارِض، الذي لا يُعتبر فاعلاً ومنظماً من الناحية السياسية مثلما هو الحال في تورنتو، فالنشطاء المعارضون في مونتريال هم أفراد، وليسوا فاعلين كتجمّعات، وفق أصدقاء يعيشون في المدينة.
وتضم مدينة مونتريال حركة ثقافية سورية قوية، إذ يتواجد فيها الكثير من الفنانين المعروفين (معظمهم معارضون للنظام)، إلا أن هذه الحركة لم تُترجَم لتصبح نشاطاً سياسياً، وبقيت فاعلة في ميادين أخرى غير السياسة بشكل مباشر.
لكن حدثاً لافتاً حصل في أيلول 2019 في المدينة، استطاع فيه النشطاء المعارضون إثبات وجودهم، بعد أن أعلنت الحكومة عن قرار بتعيين وسيم الرملي كقنصل لتسيير الأمور في القنصلية السورية هناك، ما أدى إلى استنفار في الوسط السوري في عموم كندا رفضاً لهذا القرار، انتهى بتراجع الحكومة الكندية عن قبول تعيين الرملي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن القنصلية الموجودة في مدينة مونتريال فخرية، وتعمل إلى جانب قنصلية أخرى في مدينة فانكوفر، ولم تُغلق بعد 2011، إذ كانت تُسيّر أمور الأوراق والجوازات عبر تجميعها وتحويلها إلى السفارة السورية في كوبا. وقد تعاقب على إدارتها عدد من الأشخاص، أُقيلوا في السابق بسبب تهم بالفساد، أو من قبل النظام، وكان وسيم الرملي المرشح الأخير لاستلام هذا المنصب.
ويُعرَف عن وسيم الرملي في المدينة أنه رجل أعمال كندي-سوري، مؤيد من الطراز الثقيل للنظام، ويضع صورة بشار الأسد على سيارته، وزار سوريا أكثر من مرة، وأثار قرار تعيينه عاصفة من الغضب في الوسط السوري المعارض، لأنه يرسل رسائل سلبية للغاية عن توجهات الحكومة الكندية، فُسِّرَت كانعطافة في تعاطيها مع النظام الذي كانت تقاطعه وتدينه.
الناشطة مزنة دريد تابعت القضية منذ بدايتها والتقت بوزيرة الخارجية لشرح أبعاد الموضوع، ما دفع الأخيرة إلى التراجع عن القرار والاعتذار عنه ووصفه بأنه خطأ غير مقصود. وقالت مزنة في حديث لموقع الجمهورية إن «قرار تعيين الرملي المُلغى ربما جاء بسبب اعتبارات لها علاقة بالانتخابات التي كانت جارية في ذلك الحين، وقد كان وقعه كالصاعقة علينا نحن النشطاء المعارضون، دفعنا للبحث عن وسائل للضغط، لذلك قمت بمراسلة المعنيين في الخارجية، وتكللت هذه الجهود بالنجاح بعد أن استطعنا الاجتماع بالوزيرة».
وأضافت مزنة: «عبّرت عن مخاوفي للوزيرة بتحول مونتريال، وكندا عموماً، عبر هذا القرار، إلى مكان غير آمن لسوريين قطعوا آلاف الأميال لإيجاد بقعة لا تُرفع فيها صور الأسد، ويتفرعن فيها الشبيحة، إذ أن قراراً كهذا يضعنا نحن اللاجئين هرباً من وحشية الأسد في موقع ضعف، ويضع مؤيديه في موقع قوة». مُشيرةً إلى أن القرار تم التراجع عنه في النهاية، وأعلنت وزيرة الخارجية الكندية أنه كان «صادماً، وأنها لم تكن مطلعة على هذه الموافقة، وقد أمرت بمراجعته فوراً».
مثّلت هذه الحادثة ذروة صراع الإرادات بين مؤيدي النظام ومعارضيه في المشهد الكندي. ورغم الشعور الأولي بالرضى عن استجابة الحكومة، إلا أن شعوراً مُرافقاً بالقلق تسرب إلى النفوس من احتمال تغير المزاج السياسي الرسمي في أي لحظة.
هذا التغير في أولويات الحكومات في البلاد الجديدة التي نعيش فيها، يُعتبر وارداً تبعاً لتغير موازين القوى في سوريا، وقد كان على وشك الحصول في كندا لولا الضغوط المضادة، ما يزيد من أهمية العمل على التنظيم وبناء هياكل وأرضيات صلبة قادرة على الاستجابة والضغط تحت أية ظروف غير متوقعة. إذا كان جنود النظام قد تمكنوا من السطو على البلاد، علينا اليوم أن نحرس منافينا من محاولات اختراقها وتهديدنا فيها، فالذهاب إلى كواكب أخرى ليس سهلاً كما هو معروف.