ليس سهلاً تفسير ما يجري بين تركيا وروسيا، إذ لم يسبق أن أعلنت أي جهة بوضوح عن حقيقة الاتفاقات والتفاهمات التي يبدو أنها تنهار بين الطرفين، لكن ما يبدو مؤكداً هو أن روسيا تنتهك اليوم تعهدات كانت قد قدّمتها لتركيا، إذ أن أنقرة ما كانت لتدفع بجنودها على هذا النحو إلى عمق الأراضي السورية لولا تعهدات روسيّة بأن النظام وحلفاءه لن يقوموا باستهدافهم، وإذا بروسيا نفسها تنخرط بنشاط في استهداف هذه القوات.
ستكون مفيدة العودة إلى الوراء قليلاً، إلى أول استهداف مباشر ومتعمد على نحو لا لبس فيه من قبل قوات النظام السوري للقوات التركية، الذي كان على تخوم سراقب في الثالث من شباط (فبراير) الجاري، وأسفر عن مقتل أربعة جنود أتراك، عندما كانت القوات التركية تسعى لاستكمال تثبيت نقاط لها على كل الطرقات المؤدية إلى قلب المدينة، بحيث تمنع قوات النظام من دخولها. كان واحدٌ من آخر الطرقات السالكة التي لم تتمركز فيها القوات التركية بعد هو الطريق الفرعي المؤدي إلى سراقب عبر قرية ترنبة إلى غربها، فاستبقت قوات النظام تثبيت القوات التركية لوجودها هناك بضربة مهدت الطريق أمام قوات النظام لدخول المدينة، وأدت إلى مقتل جنود أتراك.
وبالعودة إلى الوراء في الزمن أكثر، كانت قوات النظام السوري تلتفّ في كل مرة حول نقاط المراقبة التركية التي تعترض طريقها دون أن تمسّها بسوء، ودون أن تحاول القوات التركية الحيلولة دون تقدم قوات النظام بالمقابل. حصل هذا في نقطة مورك بريف حماة الشمالي أول مرة، ثم في نقاط الصرمان وتل الطوقان ومعرحطاط، وعندما وصلت قوات النظام قريباً من سراقب، حاولت القوات التركية نشر نقاطها في محيط المدينة بحيث يصبح الالتفاف حولها أمراً عسيراً، لكن ضربة النظام للقوات التركية قرب ترنبة كانت أسرع، وهي الضربة التي ما كانت لتحدث دون موافقة، وربما تعليمات روسية، الأمر الذي تؤكده الشراكة الروسية الكاملة مع النظام في معركة السيطرة على سراقب.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني دون شك أن تركيا كانت جادة في محاولتها منع النظام من دخول سراقب؛ ولكن لماذا سراقب بالذات؟ لا نعرف على وجه اليقين، لكن الأرجح أن تقدم قوات النظام بدعم روسي بهذه السرعة القياسية كان خارج التفاهمات التركية الروسية، بحيث تم حشر تركيا في وضع حرج جداً، في مواجهة نحو مليون ونصف المليون نازح قرب حدودها، يعيش أغلبهم في العراء ويرتفع عددهم بشكل يوميّ، وفي مواجهة محاولات إفراغ وجود قواتها في إدلب من أي معنى أو فائدة.
لم تتمكن القوات التركية من منع النظام من دخول سراقب، واستمرت عمليات النظام بعدها شمالاً باتجاه ريف حلب، كما ضغطت قوات النظام على محور قميناس الذي تليه مباشرة مدينة إدلب نحو الغرب، وقد أعطى كل هذا انطباعاً أن قوات النظام عازمة على مواصلة حربها حتى السيطرة على محافظة إدلب، كلّها أو جلّها، ما سيعني حشوداً من النازحين بالملايين على الحدود التركية، وما يعني استخفافاً بالجيش التركي وحكومته، وهو ما دفع تركيا إلى اتخاذ موقف أكثر حدة، تمت ترجمته بعمليات عسكرية ضد قوات النظام أفضت إلى سيطرة الفصائل مجدداً على سراقب، وإلى تحسن الأداء العام لها في مواجهة قوات النظام وحلفائه، ثم إلى رد فعل أسدي روسي أسفر عن مقتل مزيد من الجنود الأتراك.
ولكن لماذا تسعى روسيا إلى دعم النظام في عملية كبرى كهذه، تتسبب بأزمة في علاقاتها مع تركيا تكاد تصل حد الحرب الشاملة، وبأزمة إنسانية هائلة محرجة لتركيا والغرب، وتضع الفصائل المناهضة للنظام في موقع الدفاع المباشر عن الوجود، ما يعني قتالاً شرساً يتكبد النظام خلاله خسائر هائلة في الأرواح والعتاد، على ما يؤكد تتبّع مسار المعارك في الأيام القليلة الماضية.
ليس هناك في إدلب قوة قادرة على تهديد النظام أو روسيا بشكل جديّ، ولم يكن في سلوك تركيا وحلفائها من الفصائل السورية ما يشير إلى نيتهم تنفيذ أي معارك هجومية ضد النظام، أما هيئة تحرير الشام فهي لم تعد أكثر من مشروع تسلطيّ محليّ بالغ الرثاثة، لا تتجاوز أقصى طموحاته أن تُترك له منطقة صغيرة يتحكم بها لفترة من الزمن. كذلك لا تتمتع إدلب بأهمية استراتيجية، إذ لا ثروات باطنية فيها، وهي ليست في موقع يتوسط سوريا بحيث تزعزع سيطرة النظام وحلفائه عليها، أما حكاية الطرق الدولية التي تمر عبرها، فهي أقل أهمية بالمعنى الاقتصادي من أن تُنفق لأجلها كل هذه الأموال في حرب قاسية ومكلفة. أما الذرائع الروسية العلنية المتعلقة بحماية المواطنين السوريين من الإرهاب، فهذه أتفه من أن يتم نقاشها، وتكفي للرد عليها مشاهد مئات آلاف النازحين الذين يُفضّلون العيش في العراء على العودة للعيش تحت حكم الأسد، حيث الترهيب اليومي والقتل تحت التعذيب وسياسات العقاب الجماعي.
لقد تركت دول العالم كلّها لروسيا أن تحمي نظام الأسد كما تريد، وتعاونت تركيا بالذات معها في كبح فصائل المعارضة وإفراغها من أي قدرة مستقلّة على مقارعة النظام، فما الذي تريده روسيا أكثر من هذا؟!
لعلها تريد أمرين اثنين؛ أولهما أن يستسلم جميع خصوم النظام في سوريا ويقبلوا بالحل الروسي على غرار مصالحات درعا وريف دمشق وريف حمص الشمالي، وثانيهما أن يتعاون العالم معها في تثبيت نظام الأسد وتمويله عبر مشاريع إعادة الإعمار والمساعدات الأممية. بغير إنجاز هذين الهدفين معاً، يبدو أنه ليس في مقدور روسيا أن تحصد ثمار حربها في سوريا سياسياً واقتصادياً.
لكن المعضلة الروسية الأسدية تكمن في استعصاء تنفيذ المطلبين معاً، ذلك أن الأول يعني أن تبقى سورياً بلداً مُصدّراً للاجئين الفارين من جحيم القمع والانتقام الذي يعقب اتفاقات المصالحة كما رأينا في درعا وريف دمشق وغيرها، والثاني يتطلّب العكس، أن تكفّ سوريا عن كونها بلداً مُصدّراً للاجئين، لأن الغرب لن يقبل أن يدفع من أجل تمويل النظام السوري، بينما يستمر النظام السوري في تصدير اللاجئين إلى خارج سوريا.
يبدو أن الحلّ الذي توصلّت إليه روسيا بالتعاون مع حليفها الصغير في دمشق هو دفع المشكلة إلى أقصاها، ووضع دول العالم تحت أمر واقع مفاده أنه لا حلّ أمامها سوى أن تقبل بإعادة التطبيع مع النظام وتمويله، ولكن ليس في مقابل حلّ سياسي معقول بالحد الأدنى بحيث يكفّ السوريون عن مغادرة بلادهم في أول فرصة سانحة، بل في مقابل أن يكفّ النظام وحلفاؤه عن قتل السوريين فقط. هكذا يبدو المشهد الآن، يقول بشار الأسد للعالم إنه سيواصل قتل السوريين حتى يتم القبول به حاكماً شرعياً، وحتى يتم تمويل إعادة الإعمار من خلاله حصراً، وتدعمه موسكو في خطته هذه على نحو حاسم دون أن يرمش لقادتها جفن.
ربما نكون أمام وضع غير مسبوق في التاريخ، أن يقوم نظام سياسي بالضغط على دول العالم لانتزاع اعترافها به عبر مواصلته قتل شعبه؛ تقول الرسالة الروسية الأسدية: عليكم أن تعترفوا بانتصارنا سياسياً واقتصادياً، وإلا فإننا سنواصل صناعة الجحيم على هيئة مذابح كبرى وحروب تهجير وأمواج لاجئين، وبعد اعترافكم هذا سنواصل صناعة جحيم من نوع آخر، نقتل فيه السوريين المستسلمين لنا بهدوء، وتقومون أنتم بتمويل مصانع القتل والإذلال الهادئة التي نجتهد في بنائها.