عندما رفعت السلطات السورية الحظر عن موقع فيسبوك مع بدايات الثورة، كانت تعلم حجم التأثير الذي سيمارسه مؤيدوها من خلاله: تدفق هائل في منشورات الإنكار لما يحصل، وشيطنةُ الحراك ومواجهةُ «التضليل الإعلامي». أصبحت كلمة «فوتوشوب» مرادفاً لكلمة «كذب»، وفي أوساط حزب البعث في دمشق، بات طفلٌ هو حفيد شهناز فاكوش، عضو القيادة القطرية للحزب آنذاك، مشهوراً بسبب تكرار جدته الحديث عن عبقريته في اكتشاف أن صورة العلم ذي النجوم الحمراء يمكن زجّها في أي صورة حقيقية، باستخدام برنامج الرسام.
أثبتت السنوات التالية حكمة قرار إتاحة فيسبوك، فقد أصبح، عدا كونه منبراً لتمجيد الجيش وشتم المعارضين واستعراض سوء أوضاع اللاجئين، مكاناً للتنفيس عن اليأس من أوضاع تزداد سوءاً، والأهم، ساحة كلامية حامية الوطيس لمهاجمة الفساد، بسيف الرئيس، الذي يحفظ كثيرٌ من المؤيدين عن ظهر قلب كلامه حول الإصلاح والفاسدين، وحول دور المواطن في عدم السكوت عن تجاوزاتهم. وعليه، أصبحت صفحات فضح الفساد فاكهة التصفحّ اليومي في عالم المؤيد الغاضب من «دواعش الداخل الذين يسرقون انتصارات الجيش وأحلام الشهداء»، مع غياب أي إشارة مباشرة إلى مسؤولية الرئيس نفسه عن تنصيب الفاسدين، وإذا تهوَّرَ أحدهم ملمحاً إلى شيء من هذا القبيل، يغدو مشكوكاً في وطنيته.
مع صفحة نور حلب اختلف الأمر بعض الشيء، فالصفحة التي يعلن صاحبها عبد الحميد عدنان حرباً على الفساد بسيف الرئيس، باتت كابوساً لبعض المؤيدين المحسوبين على الشخصيات المفضوحة، وبلغ الكابوس أوجه قبل شهرين، عندما بدأ نور حلب يتناول مؤسسات في محافظة طرطوس، في خطاب «بهدلة» لم يعهده القائمون على هذه المؤسسات، ممن اعتادوا على جمهور عريض من المتملقين وماسحي الجوخ.
كان عبد الحميد عدنان المقيم في دبي قد كتب في العام الثاني من الثورة مقالاً شتم فيها الحرية «التي دمرت البلد»، وبدأ في العام الماضي استهدافاً ممنهجا ًلشخصيات وزارية وحزبية وحتى أمنية، عبر منشوراته ومقاطع الفيديو التي يبثها، مناشداً الرئيس في كل مرة للمحاسبة بيد من حديد، ومردداً أن مصادره صادقة وغير كيدية، وأنه يمتلك وثائق وتسجيلات تثبت الرشاوى والتلاعب. إلا أن إثباتاته تلك لم تخرج مرة عن كونها استعراض وثائق رسمية لا تدين أحداً بشكل قاطع، منها أوامر صرف روتينية، وصور عن شكاوى يسري التحقيق فيها، إلا انها تؤكد على الأقل أن مصادره موجودة في قلب تلك المؤسسات، ليبدأ كابوس الارتياب ينغص يوميات المسؤولين ومن يدورون في فلكهم. وعندما طال الاستهداف مسؤولين في طرطوس، اشتدت حمى التبليغات عن الصفحة وتم إغلاقها، ليستعيدها عدنان قبل بضعة أيام، لكن بعد حذف جميع المنشورات ومقاطع الفيديو التي تطال مسؤولي طرطوس، لتذهب معها مئات التعليقات من الطراطسة الذين احتفوا بنور حلب على أنه البطل الذي سينتقم لهم من الفاسدين في محافظتهم.
تقول إبنة أحد الموظفين في مديرية كهرباء طرطوس: «ما أن ظهر منشور في هذه الصفحة يخص المديرية، حتى بدأ البعض يتصلون بوالدي ليسألوه حول صحة ما كُتب. كان المنشور يدور حول استئجار شاليه لصالح أحد الموظفين وضيوفه. ولما نفى والدي علمه بشيء، اتهمه أصدقاؤه بمحاباة المدير وأنه يريد التستر عليه. في طرطوس، طالما أنك تتحدث عن الفساد بلسان طويل فأنت جريء وشجاع، وصادق حتماً، وإذا استخدمت أخباراً من قبيل استئجار شاليه لاستقبال الضيوف ليلاً، ومنهم نساء، وأرفقت منشورك بصور موظفات في المديرية، حتى لو لم يكن لهنّ صلة بالمكتوب، ستضمنُ حتماً مصادقة الجمهور على كل كلمة، ولن يطالبك أحد حتى بدليل واحد».
أحد المتابعين لما جرى في أروقة جامعة طرطوس بعد منشورات طالت رئيسها وبعض موظفيه، أكَّد لنا أن منشورات نور حلب كانت فعّالة في أسلوبها، وليس بسبب عنصر الحقيقة فيها، فقد اعتمد الهجوم في المقام الأول على إثارة خيال القراء بالحديث عن «شوالات المصاري» التي تم إدخالها في الظلام، ووجود جناح للمبيت ذي مدخل مستقل، إضافة إلى نشر صور لموظفات بالماكياج الكامل، وفي كل ذلك إيحاءات جنسية تستدعي اللايكات تلقائياً من جمهور محتقن متلهفّ «يحب الفاينة»، لتبدأ تعليقات الطراطسة «نادبة الجنود الذين ماتوا ليعيش هؤلاء، وداعية بطول العمر لصاحب المنشور».
يضيف: «المهزلة بدأت من الدور السلبي للمكتب الإعلامي الذي رد في البداية بالوثائق على منشور نور حلب، ليتبين أنه فتح على الجامعة رياح التشهير والاتهام بتزوير الأوراق الرسمية، لتشهد الجامعة خلال أيام قليلة توزيع أوراق مجهولة المصدر على الموظفين تتضمن معلومات حول نور حلب، جرى وصفه فيها بالشاذ جنسياً والمرتبط باستخبارات قطر وأردوغان، وغير ذلك من ملامح الوصفة الأمنية المعروفة لترويع المؤيدين ودفعهم إلى إلغاء إعجابهم بالصفحة المندسة. وترافق ذلك مع موجة منشورات تذكر مناقب المسؤولين الذين تم المساس بهم، والشهادات التي حصلوا عليها، وعدد الشهداء في أسرة كل منهم، إلا أن ذلك لم يحقق تراجعاً في أعداد اللايكات الطرطوسية على المنشورات اليومية، وخصوصاً الفيديوهات التي شهَّرَ فيها عدنان بموظفين وموظفات بأسمائهم».
وينقل حسين، اسم مستعار، عن أحد موظفي الجامعة أن الشهر الأخير من العام الماضي كان عصيباً؛ «الكل معصّب وما حدا بيتحكى». وقد تحولت أحاديث الموظفين إلى همس خائف، وبدا الاكتئاب على بعض الموظفات اللواتي تم استهدافهنّ، حتى أن إحداهنّ تخلّت عن منصبها وبدأت إجراءات تجديد جواز سفرها للهجرة إلى كندا؛ «كانت معظم الأحاديث تتساءل عن هويات مسربي المعلومات، وكل من له ثأر مع موظف ما أصبح يحاول التشهير به على أنه الجاسوس. قبل هذا الشهر، كانوا يتابعون الصفحة باهتمام ويهللون لما يَرِدُ فيها، وعندما وصل البلل إلى ذقونهم كفروا بها وأطلقوا على صاحبها أوصافاً لم نسمعها منذ بدايات الازمة، كـ”عرعوري” مثلاً».
تقول إلهام، وهو اسم مستعار لطالبة في جامعة طرطوس: «أسمع بوجود رشاوى كما في كل جامعة سوريّة. لم أتعرض شخصياً للابتزاز، ولا أعرف إن كانت هناك صفقات تجري من تحت الطاولات، لكن إذا كان الجميع بريئاً كما يبدو من منشوراتهم الشرسة التي تردُّ على نور حلب، فلم الخوف منه أصلاً، ولم هذا السعي المحموم لتمجيد الشخصيات المستهدفة وكأنها آلهة؟ صفحة نور حلب مستفزّة في إهاناتها غير الموثقة بالأدلة، لكن ردود أفعال هؤلاء المسؤولين أكثر استفزازاً، فهم لم يعتادوا إلا على من يمسح أحذيتهم ويصطاد الهدايا ويَكيل المديح لهم. إنهم مصابون بلوثة الفيسبوك. همهم الأكبر صورتهم وما يُكتب عنهم، ولذلك كانت صدمتهم بتشويه صورتهم عميقة إلى درجة تثير الضحك. لم يؤذني أحدٌ منهم، لكني لا أتعاطف معهم. لقد بلغ جبنهم حدَّ أن موظفي كليتنا راحوا يتبادلون التهاني عندما تم إغلاق الصفحة، بل ونسب بعضهم إلى نفسه شرف هذا الإنجاز!».
يستعد المسؤولون في طرطوس للفيديو القادم الذي أعلن نور حلب عن مضمونه مسبقاً، والذي سيتناول فيه انتخابات قيادة فرع حزب البعث التي جرت الأسبوع الماضي، متوعداً بكشف كواليس الانتخابات من مصادر «موجودة في قلب الحدث».