كانت قوات النظام السوري قد سيطرت على مدينة سراقب مطلع شهر شباط فبراير الماضي، وذلك لأول مرة منذ العام 2012، وهي المدينة ذات الموقع الاستراتيجي المطل على تقاطع طريقي حلب دمشق (M5) وحلب اللاذقية (M4)، والتي تضم قبل كل هذا عدداً كبيراً من المدنيين وتحتفظ بمكانة خاصة في الحراك الثوري السوري منذ عام 2011. وليس مؤكداً أن سيطرة النظام على سراقب كانت هي الحدث الذي دفع أنقرة للتحرك، خوفاً من سقوط كامل محافظة إدلب بيد الأسد ومن ورائه موسكو، لكن التحرك العسكري التركي الداعم بشكل جدي لفصائل المعارضة كان قد بدأ بعد هذا الحدث على أي حال، وكان من بين نتائجه استعادة الفصائل سيطرتها على المدينة في الخامس والعشرين من شباط.
اليوم، وبعد تأكيد موعد القمة بين كل من أردوغان وبوتين في موسكو يوم الخميس المقبل، فإن النظام استطاع السيطرة مجدداً على سراقب بدعم روسي وإيراني واسع وحاسم.

قبل ذلك، كان الردّ الروسي الأول على التحرك التركي قد أدى، عبر قصف مباشر للطائرات الروسية أو عبر قصف مدفعي من قوات النظام، إلى مقتل أكثر من ثلاثين جندياً تركياً خلال الأسبوع الماضي، وهو ما اعتبرته أنقرة خطاً أحمر، دفعها إلى نقل العمليات العسكرية إلى مستوى جديد تضمّنَ قصفاً موسعاً لقوات النظام، ودعماً لفصائل المعارضة التي تحولت بعد سيطرتها على سراقب إلى محاور ريف إدلب الجنوبي، لتستعيد السيطرة على عدد من القرى والبلدات هناك، ضمن معارك لا تزال مستمرة حتى اللحظة.
ورغم تعرض قوات النظام لضربات قاصمة استهدفتها خلال الأيام الماضية عبر غارات طائرات درون تركية، إلا أنّ موسكو اليوم عادت لتنشر تصريحات قالها بوتين خلال لقاء صحفي مع وكالة تاس الروسية، أكد خلالها أنّ بلاده «لا تريد حرباً مع أي طرف»، وأنها تريد تجنب الصدام مع باقي الأطراف في سوريا، ليبدو أن الرئيس الروسي، الذي يعبد القوة، يفضل عدم التصعيد أكثر من ذلك، بعد تصريحات حكومته العدائية التي تلت استهداف الجنود الأتراك.
ويبدو أن الإصرار التركي، الذي صاحبته ضربات موسعة شملت مواقع في عمق مناطق النظام مثل مطار النيرب العسكري، قد أفضى إلى تراجع موسكو نسبياً عن تصريحاتها المتشددة، ذلك أنها لا تريد بكل تأكيد حرباً مع أنقرة كما أن أنقرة لا تريد حرباً معها، وهو رهان لا يزال ناجحاً حتى اليوم، إذ لطالما استغلّت موسكو عدم رغبة أي طرف دولي أو إقليمي بالدخول في حرب معها، لتتوسع عسكرياً في سوريا من خلال حرب إبادة وتهجير شاملة.
وبالمقابل، فإن اندفاعة تركيا في مواجهة النظام ستبقى محدودة حتى في مداها الأقصى، إذ يصرّ السياسيون الأتراك على إعادة النظام إلى حدود اتفاقية سوتشي الموقعة في خريف عام 2018، وهو ما يعني أن حدود العملية العسكرية لن يتجاوز تلك الخطوط التي رسمها اتفاق أردوغان وبوتين في منتجع البحر الأسود في روسيا، قبل أكثر من عامين.
في ظل هذه التضاربات الحادة التي ترسمها العمليات العسكرية على الأرض وضربات الدرون، تتجه المعادلة في شمال غرب سوريا إلى أن يُعاد تجميدها عند تاريخ أيلول 2018، وهو الشهر الذي وقع فيه الرئيسان التركي والروسي اتفاقية سوتشي التي ثبتت حدود محافظة إدلب والأرياف المحيطة بها (مناطق من ريفيّ حماة وحلب)، وهو ما يعني أن الصدام غير المباشر بين أنقرة وموسكو في إدلب لن يتحول إلى حرب بين الدولتين المطلتين على البحر الأسود، ويعني أيضاً أنّ أولويات أنقرة الآن في سوريا هي الحفاظ على الوضع القائم، إلى أن يتم الوصول إلى حل سياسي مقبول يعطيها ما ترى أنه ترجمة فعلية لنفوذها العسكري والسياسي في البلاد.
قد لا يكون التقدم العسكري للنظام هو أهم ما تريده موسكو من سوريا، وهو ما قد يجعلها تفسح مجالاً لبعض العمليات العسكرية التركية في إدلب، لكنّ انسداد المسار السياسي أمام شروط موسكو يدفعها إلى التوجه لتوسيع سيطرتها العسكرية في سوريا بهدف فرض رؤيتها الأحادية. يطمح بوتين إلى فرض سلطته المطلقة على بلادنا، وذلك من خلال إدارة ملف المساحة الأوسع منها، واحتفاظه بمفاتيح إدارة علاقات نفوذ وسيطرة الدول الأخرى فيها، والإبقاء على النظام الحالي تحت الانتداب الروسي المباشر، واستلام أموال إعادة الإعمار لهندسة سوريا من جديد، وهو ما يحتاج إلى موافقة واشنطن التي لا يبدو أنها بصدد إعطاء بوتين مثل هذه الصلاحيات المطلقة.
ما تملكه جميع الأطراف في سوريا اليوم هو نفوذ مُجمّد حتى توافق واشنطن على ترتيبات نهائية للأوضاع فيها، ذلك أن الولايات المتحدة وإدارتها الحالية ليست في وارد قلب سياساتها في المنطقة، ومن بينها سياسة تجميد الأوضاع في سوريا مع زيادة الضغط السياسي والإقتصادي، كجزء من حملة الضغوط المشددة على إيران.
يحاول الجميع تجاوز هذا الجمود من خلال المعارك العسكرية، تجد روسيا في إدلب الهدف الأسهل غير الخاضع للحماية المباشرة من قبل الولايات المتحدة أو تركيا، فيما تريد أنقرة تغيير ذلك إذ تعتبر أن شمال غرب سوريا حصتها نتيجة اتفاق وقعته مع موسكو في سوتشي. وبغض النظر عن نتيجة المعارك في إدلب اليوم، فإن النتيجة النهائية ستكون رسم حدود أقرب للثبات بعد التدخل العسكري التركي، بما يضمن تجميد الوضع الراهن إلى أن تقول واشنطن كلمتها النهائية.