يشيع في أوساط الثورة السورية، خصوصاً في الشتات والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، نوعٌ من نكران سوريا نفسها بينما يكون القصد نزع الشرعية عن سوريا الأسد، أو مجرّدَ التذكير بموجبات الثورة على نظام الحكم فيها. ويتخذ هذا النكران في العادة شكلين أساسيين؛ أولهما اعتبار مناطق سيطرة النظام أرضاً عدوةً بكل ما فيها من بشر وحجر وعمران ومدنيين ومقاتلين، وثانيهما نكران كل وجه إيجابي للحياة والعمل في سوريا قبل الثورة، وكأن كل ما فعله أهل البلد منذ سيطرة الأسدية عليه، من علم وثقافة وفن وحياة، إنما هو أسديٌ منسوب إلى نظام الحكم.
وليس النكران المقصود هنا هو ذاك الذي يعتبر أصحابه أن سوريا ليست كياناً قابلاً للبقاء والتحول إلى دولة وطنية حقيقية، لأن لهذا النقاش مجالاً آخر يتعلق بالاجتماع السياسي والمفاهيم الدستورية. كذلك ليس المقصود نكران سوريا لأسباب إيديولوجية، من قبيل إنكار استقلالها لصالح ضرورة اندماجها في كيانات أكبر عربية أو إسلامية مثلاً، أو إنكار وحدتها لصالح تقسيمها إلى كيانات أصغر على أسس قومية أو إثنية أو طائفية. لكن النكران المقصود هنا هو تلك التعبيرات والكتابات التي تحط من شأن البلد وأهله قبل الثورة، أو تحط من شأن المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام ومؤسساته بعد الثورة، دون أن تستند إلى تصورات إيديولوجية أو نقاشات سياسية أو دستورية.
ويشمل النكران الذي يحاول هذا النص مجادلته تعبيرات مباشرة، من قبيل الكتابات والأحاديث التي تدافع عن ضرورة القطيعة الكاملة مع مناطق سيطرة النظام وسكانها، أو تلك التي لا تجد في سوريا منذ العام 1970 حتى قيام الثورة عام 2011 سوى الحزن والألم والفشل والانهيار الاجتماعي والثقافي والسياسي التام، بما يصل في حالات كثيرة إلى نكران أو تجاهل نضالات ما لا يحصى من السوريين والسوريات في مواجهة النظام قبل الثورة، ونكران كفاح ما لا يحصى منهم لأجل عيش كريم لا تلوثه الأسدية بفسادها وانحطاط قيمها وأخلاقها واقتصادها، وبما يشمل أيضاً ردود فعل تحتقر كل تعبير عن الحنين إلى الحياة في سوريا قبل الثورة، وترفض كلّ كلام فيه حسرة على البلاد التي تم تدميرها والحياة التي تم تحطيمها.
كما يشمل هذا النكران أيضاً تعبيرات غير مباشرة، وربما غير مقصودة، من قبيل تصنيف قرى سوريا وبلداتها ومدنها إلى «عدو» و«صديق» بحسب الجهة التي تسيطر عليها، على ما نراه في مجموعات افتراضية عديدة لتداول الأخبار، أو من قبيل وصف مناطق سيطرة قوات النظام ومؤسساته بأنها «مناطق النظام». صحيحٌ أن تعبيرات «عدو» و«صديق» تنطلق من توصيف ذي أبعاد عسكرية، وأن الدافع وراء استخدام عبارة «مناطق النظام» هو الاختصار في أحيان كثيرة، إلا أن هذه التعبيرات تترك أثراً مديداً على تصورات جزء من جمهور الثورة السورية وأنصارها لبلدهم وماضيهم، وتالياً مستقبلهم.
ليست التصورات التي تقف خلف هذه التعبيرات، أو تنتج عنها، تصورات صائبة، لا في سوريا ولا في غيرها، إذ لا يمكن لسلطة مهما بلغت هيمنتها أن تبتلع تماماً حياة سكان البلاد التي تحكمها ومصائرهم وإنجازاتهم، كما أنه ليس مفيداً ولا صائباً تحويل العداء لسلطة ما إلى عداء للمجتمع الذي تحكمه. وليس هذا القول مبنياً على تصورات تفصل بين السلطة والمجتمع، لكنه لا يستسلم في الوقت نفسه إلى المماهاة بينهما، بل هو يستند إلى نظرة تعتبر أن تاريخ الحضارة البشرية، في أحد وجوهه، تاريخٌ من بناء السلطات والصراع معها في آن معاً، بحيث تُنتِجُ المجتمعاتُ السلطاتِ التي تحكمها، وتقاومها وتغيرها عبر عمليات تاريخية معقدة تحضر فيها العوامل الثقافية والاقتصادية والسياسية.
على الرغم من الهيمنة الهائلة للأسدية على المجتمع وبناه وعلاقاته حتى العام 2011، إلا أن عشرات آلاف السوريين قاوموا طويلاً هذه الهيمنة ودفعوا أثماناً باهظة، تراوحت بين الموت والتعذيب والسجن والتضييق الأمني والحرمان من العمل. لكن الأمر لا يتعلق فقط بمقاومة هيمنة النظام بالمعنى المباشر، بل يتعلق بالحياة نفسها، التي عشناها وعاشها آباؤنا وأمهاتنا قبل الثورة؛ الحياة الحقيقية، التي كنا نعيشها فنكبر ونتعلم ونعمل ونطعن في السنّ ونموت، ونتألم ونفرح ونحزن ونضحك ونبكي، ونكره ونحبّ ونتزوج وننجب، ونكتب وننتج فناً ومسرحاً وأدباً وموسيقى ودراما.
لم تكن تلك الحياة الحقيقية كلّها تمرداً، مقصوداً أو غير مقصود، على هيمنة النظام، لكنها لم تكن كلّها خاضعة له ومُستسلِمة لخططه وتصورات أركانه وقادته، بل كانت مزيجاً من هذا وذاك، يحاول النظام إدارتها وفرض نفسه عليها في كل وقت عبر مؤسساته وأجهزته الأمنية، فينجح أحياناً ويفشل أحياناً، لتكون النتيجة حياة بالغة التنوع والصخب؛ تنوعٌ عملت الأسدية على تغطيته باللون الواحد الكالح للبدلة العسكرية في زمن حافظ، ثم باللون الباهت لربطات العنق في عهد بشار، وصخبٌ عملت على تغطيته بفرض صوتها المنضبط الموحد الذي أصبح بعد تكراره لسنوات وعقود أشبه بالصمت المخيف.
يشيع كثيراً أن يتم وصف سوريا تحت حكم الأسد بمملكة الصمت، لكن سوريا كانت عامرة بالحياة خلف ذلك الصمت، الحياة التي نستطيع أن نعثر على معالمها في البيوت والساحات والشوارع والأسواق والمدارس والجامعات والأعراس والمكتبات والمساجد والكنائس. وإذا كان النظام لم يسمح طوال سنوات حكمه لهذه الحياة أن تطل برأسها كما تستحق عبر الصحافة والكتابة والفن والأدب والدراما والبحث الأكاديمي، إلا أن هذا لا يعني أنها لم تكن موجودة، ولا أن سوريا كانت فعلاً سوريا الأسد؛ سوريا الأسد هي نظام الحكم السلطاني الدموي الذي يجلّل حياتنا بالألم والعار، أما سوريا فهي بلادنا وأهلها، الذين ثارت قطاعات منهم لتخليص البلد وأهله من سوريا الأسد.
ربما يكون الأمر مختلفاً قليلاً بعد الثورة، ذلك أن أنصار النظام، ومنهم قطاعٌ عريضٌ من سكان مناطق سيطرته اليوم، ليسوا مجرد مؤيدين أو قواعد اجتماعية لنظام حاكم، بل هم شهود زور على تدمير البلاد وتحطيم حياة قطاعات واسعة من أهلها من أجل بقاء النظام، وهذا ما يجعل مهمة التفريق بين سوريا وسوريا الأسد أكثر عسراً وتعقيداً اليوم، وهو أيضاً ما يدفع إلى الواجهة بتعبيرات تحشر سكان مناطق النظام، وخصوصاً سكان المناطق التي لم تشهد تمرداً في أي وقت، مع النظام وقادته وأجهزته الأمنية وميليشياته الإجرامية في خانة واحدة، هي خانة سوريا الأسد.
لكن هذا لا يغير في الأمر كثيراً، لأن ما يمكن قوله بخصوص سوريا قبل الثورة لا يزال صحيحاً بعدها، وهو أن ملايين السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام ومؤسساته متنوعون جداً، بعضهم منخرطٌ حتى النخاع في السلطة ومعادلاتها وخطابها وطريقتها في الحكم، وبعضهم يواصل عيشه بما هو متاح دون أن يكون منخرطاً في تلك السلطة وإن كان مستسلماً لخطابها وطريقة عملها، وبعضهم يقاومها بأساليب شتى لا مجال لحصرها، دون أن تتماهى كلها بالضرورة مع خطاب ثورة 2011 وشعاراتها وأحلامها ومساراتها.
تأخذنا الفكرة الأخيرة بالذات إلى نقاش حاد دار بمناسبة المظاهرات التي شهدتها السويداء أواسط شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، ذهب فيه قطاع من جمهور الثورة السورية إلى احتقار ذاك الحراك الذي جاء رداً على تدهور الأوضاع الاقتصادية، معتبرين أن الاحتجاج على سوء الأوضاع المعيشية دون رفع شعارات مباشرة ضد النظام ومذابحه وسلوكه الإجرامي، إنما هو حراك تافه لا يستحق الاحتفاء به أو التعويل عليه، وصولاً في بعض الحالات القصوى إلى المماهاة بين من قاموا بهذا الحراك وبين النظام وميليشياته وأجهزته الأمنية الإجرامية. لعلّ هذا يصلح مثالاً بارزاً على نتائج النكران المديد لكل ما لا يرتبط مباشرة بثورة 2011 وشعاراتها وخطابها، الذي ينتهي لأن يكون نوعاً من الاستقالة السياسية والتقوقع على الذات.
ليس منصفاً هذا النكران، وهو لا يعبر عن أي حقائق يمكن الاستناد إليها لفهم ما جرى ويجري في سوريا وتفسيره، لكنه فوق ذلك نكرانٌ كارثيٌ سياسياً، فهو يمنح النظام انتصاراً معنوياً ورمزياً لا يُقدَّرُ بثمن؛ يمنحه تاريخ سوريا طيلة أربعة عقود قبل الثورة، ويمنحه شرعية حكم المناطق التي يسيطر عليها في سوريا، وشرعية التحدث باسمها وباسم سكّانها. إذا كان سكان مناطق سيطرة النظام، وخاصة سكان المناطق التي لم تشهد تمرداً جديّاً ومديداً على حكمه، أسديين جميعاً وينبغي مناصبتهم العداء، فأي وجه عادل يبقى للمطالبة بإزالة حكمه عنهم؟!
ليست سوريا كلّها سوريا الأسد، ليس لأن فيها مناطق خارجة عن سيطرة النظام منذ العام 2012، بل لأنها لم تكن كلّها سوريا الأسد في أي وقت مضى، ولن تصير كّلها سوريا الأسد في أي وقت قادم أيضاً. ويساهم التذكير الدائم بأن سوريا ليست سوريا الأسد في إبقاء قضية السوريين في مواجهة الأسدية على قيد الحياة، أما المماهاة بين سوريا الأسد ومناطق سيطرة النظام، فهي ليست إلا هدية يتم تقديمها للأسدية أولاً، وثانياً لسائر القوى التي تحاول حكم المناطق الخارجة عن سيطرته والتسلط على حياة سكّانها.
لقد هُزمت الثورة السورية إذ فشلت في اقتلاع الأسدية وبناء نظام سياسي جديد أكثر عدالة، لكن الصراع مع الأسدية لن ينتهي في أي وقت قريب، وكذلك الكفاح من أجل نظام سياسي أكثر عدالة في سوريا، وهو الهدف الذي لا يشكل الخلاص من الأسدية سوى محطته الأولى، والذي لا يمكن السير نحوه بخطاب حربي يقسم سوريا إلى عالمين متناقضين؛ عالم ثورة 2011 وعالم بقية سوريا قبل الثورة وبعدها.
«سوريا لينا وما هي لبيت الأسد»؛ كان هذا واحداً من أبرز شعارات الثورة السورية في طورها السلمي عام 2011، وكان مئات آلاف السوريين قد هتفوه في الشوارع قبل أن تكون هناك مناطق خارجة عن سيطرة النظام أصلاً. في سوريا التي لنا، وليست للسلالة الأسدية، تاريخٌ ومجتمعٌ ينبغي الدفاع عنهما، وحياةٌ عامرةٌ لا وجه لاختزالها إلى ثنائيات لا وجود لها إلا في تصورات أصحابها.