قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم أمس التاسع من آذار (مارس) إن «2020 ليست 2015»، وذلك في سياق حديثها عن أزمة اللاجئين على الحدود التركية اليونانية. وجاء كلام ميركل هذا خلال منتدىً اقتصادي ألماني يوناني عُقِدَ في برلين، ليكون تعبيراً بالغ الوضوح عن أنه ليس ثمة احتمال في أن تفتح ألمانيا حدودها أمام موجة لاجئين جديدة على غرار ما فعلته عام 2015، وتعبيراً عن أوروبا قد تغيرت خلال السنوات الخمس الماضية، وعن أن ما حملته هذه السنوات ليس إلا مزيداً من الجدران على حدود الاتحاد الأوروبي.

يرفع الاتحاد الأوروبي إذن جدراناً من سياسات الحدود وتقييد اللجوء والهجرة على حدوده، في عالم تتكاثر فيه جدران الفصل الإسمنتية الحقيقية على الحدود بين الدول. وإذا كانت أوروبا لم تشرع في بناء جدران إسمنتية على حدودها بعد، إلا أن الإجراءات التي تتخذها اليونان على حدودها بدعم من الاتحاد الأوروبي لا تختلف كثيراً، حتى أن اليونان أعلنت عن نيتها بناء ما أسمته جداراً عائماً قبالة شواطئ جزرها، لمنع وصول المهاجرين إلى أوروبا من تركيا، في ترجمة ملموسة للسياسات اليمنية العنصرية.

جاءت إجراءات اليونان المتشددة هذه في أعقاب احتشاد آلاف اللاجئين على حدودها مع تركيا، بعد أن أعلنت السلطات التركية أنها لن تمنع طالبي اللجوء على أراضيها من التوجه إلى أوروبا، وذلك رداً على ما اعتبرته تقصيراً من الاتحاد الأوروبي في دعمها في ملف إدلب، التي قد يؤدي استمرار المعارك فيها إلى موجة لجوء جديدة إلى الأراضي التركية. ويواجه المهاجرون واللاجئون، من جنسيات متنوعة، على الحدود التركية اليونانية منذ أكثر من أسبوعين ممارسات بالغة العنف والقسوة من كلا الطرفين التركي واليوناني، فالجانب التركي كان يسعى بشتى الوسائل إلى دفعهم نحو الحدود، فيما يقابلهم الجانب اليوناني بقنابل الغاز ووسائل الردع الأخرى.

كان العالم قد تابع مشاهد مشابهة خلال العام 2015، وهو ما أدى وقتها إلى فتح الحدود أمام موجة من اللاجئين إلى أوروبا، كانت ألمانيا هي الدافع الرئيسي لاستقبالهم، عندما قالت أنجيلا ميركل عبارتها الشهيرة: «نحن نستطيع أن ننجز ذلك»، وهو ما أعقبه مشاهد لقطارات تنقل آلاف اللاجئين من دول جنوب وشرق أوروبا إلى ألمانيا.

يتكرّر احتشاد اللاجئين على حدود أوروبا الآن، لكن نقلهم إلى قلب ألمانيا لم يتكرر، وقد أثارت مشاهد احتشاد اللاجئين تلك انقساماً حاداً في الرأي العام الألماني، عبِّرت عنه صحيفة يونغ فرايهات الأقرب للتيار اليميني، التي نشرت نتائج استطلاع رأي حديث يشير إلى أن 48% من الألمان المشاركين يؤيديون استقبال ألمانيا للاجئين، في حين أن 49% كانوا رافضين لهذا الأمر. ولا تصلح استطلاعات الرأي هذه طبعاً لتأكيد أن هناك تغيراً في الرأي العام الألماني، حتى أن استطلاع رأي جرى عام 2016 كان قد جاء بنتائج قريبة من استطلاع الرأي الحديث، مع فارق ضئيل جداً لصالح الموقف المؤيد لاستقبال اللاجئين وقتها، في مقابل فارق ضئيل جداً لصالح الرأي الرافض لاستقبالهم اليوم. ولكن رغم هذا، فإن الدوائر المعادية للاجئين تستغلّ استطلاعات الرأي هذه كي تقول إن الشعب الألماني لم يعد راضياً عن سياسة الأبواب المفتوحة، وهو ما يتكئ عليه السياسيون لتبرير رفض استقبال موجات جديدة من اللاجئين، على ما قالت أنجيلا ميركل نفسها يوم أمس، عندما تحدثت عن أن «المواطنين بمقدورهم أن ينتظروا من رجال السياسة أن يتمكنوا من تنظيم الهجرة واللجوء، وتوجيه حركة الهجرة وتقليصها».

تبدو مواقف ميركل هذه متأثرة بشدة بالضغط الذي يحدثه صعود التيارات اليمينية، التي يساهم خطابها الشعبوي في حشد مزيد من أصوات الناخبين لصالحها، عبر الإيحاء المتكرر بأن مشكلات أوروبا ترجع إلى سياسة استقبال اللاجئين. وبعيداً عن أرقام استطلاعات الرأي، يتجلى هذا الانقسام أيضاً بوضوح في تصريحات السياسيين داخل ألمانيا، وفي أخبار الصفحات الأولى من الجرائد والمنصات الإعلامية الألمانية، التي يركز قسم  كبير منها على تعلم الدروس اللازمة من تجربة ألمانيا مع سياسات فتح الحدود في عام 2015، وعلى أن استقبال مزيد من اللاجئين والمهاجرين هو أسوأ كابوس يمكن أن تعيشه ألمانيا، وهو ما عبَّرَ عنه أحد مراسليّ قناة ZDF الألمانية في نشرة الأخبار، عندما قال إن أوروبا تعيش الآن ما أسماه «ديجا فو» بعد مرحلة من الاسترخاء، وهو التوصيف الذي يعني أن أوروبا تعيش كابوسها نفسه مجدداً.

بالمقابل، تحدّث رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني نوربرت فالتر بوريانس عن ضرورة فتح الحدود وإنقاذ الأطفال على الحدود اليونانية، لأنه «من غير المقبول أن يقف الاتحاد الأوروبي متفرجاً أمام الأطفال الذين يموتون». وقد جاء تصريحه هذا في أعقاب تصريح لوزير الداخلية الألماني هوريست زيهوفر، تحدَّثَ فيه عن إمكانية العمل على قبول الأطفال اللاجئين في مخيمات اللجوء في الجزر اليونانية، ألا أنه عاد وأوضح بعدها أنه لم يكن يقصد أن ألمانيا وحدها المعنية بهذا الأمر، وأنه يمكن أن يحدث فقط بعد «استعادة النظام» على حد تعبيره. ومن أجل أن ينفي أي وعد أو تعهد بمساعدة ألمانيا لاستقبال اللاجئين والمهاجرين، نشر زيهوفر مرة جديدة على حسابه الخاص على تويتر، وباللغة العربية، تغريدة مفادها أن حدود أوروبا ليست مفتوحة أمام اللاجئين.

وقد أثار الحديث الألماني عن ضرورة استقبال الأطفال ضجيجاً ونقاشاً يشرح الكثير عن الأزمة الحالية، فالأطفال الذين يجري الحديث عنهم هم أطفال بلا مرافقين بالغين، لا يتجاوز عددهم 200 طفل في مخيمات الجزر اليونانية، وهو ما يعني أن حلّ قضيتهم لا علاقة له بالأزمة المستجدة على الحدود البرية اليونانية التركية، ومع ذلك فقد تحدثت صحف ألمانية، من بينها صحيفة فرانكفورتر ألغيمانيه المحافظة، عن أن صدور اقتراح استقبالهم عن مسؤولين ألمان لا يعني أن على ألمانيا أن تحتمل هذا العبء وحدها، بل ينبغي على دول الاتحاد الأوروبي اقتسام هذه المهمة. ولا يبدو أن بقية دول الاتحاد الأوروبي منفتحة على هذا الطرح، حتى أن المستشار النمساوي سبستيان كورتز أكدّ أن بلاده لا تنوي استقبال أي أطفال أو نساء هذه المرة، و«أن هؤلاء الآلاف على الحدود سيصبحون ملايين، وأن القسم الأكبر منهم ليسوا سوريين وليسوا لاجئين، خاصة بعد أن أمضوا سنوات عديدة في تركيا».

يبلغ الخطاب العنصري ذروة جديدة في ألمانيا ودول أوروبية أخرى، وبالرغم من خروج مظاهرات في برلين تطالب فتح الحدود يوم السابع من آذار الجاري، وانتشار دعوات على فيسبوك من أجل دعم اللاجئين واستقبالهم، إلا أن الاتجاه العام يسير نحو مزيد من الإجراءات المشددة التي سيتخذها الاتحاد الأوروبي ضد اللاجئين، والتي يبدو أنها ستتخذ منحيين رئيسيين خلال الفترة المقبلة؛ الأول هو التفاوض مع تركيا من أجل إبقاء اللاجئين رهائن فيها أطول مدة ممكنة، والثاني هو دعم اليونان بشتى الطرق لمساعدتها في إغلاق حدودها البرية والبحرية، حتى أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين كانت قد وصفت اليونان بأنها «درع أوروبا»، مؤكدة على ضرورة دعمها في مواجهتها مع طالبي اللجوء، وهي المواجهة التي تتخذ طابعاً يتجاوز الأسلوب الأمني إلى ما يشبه العمليات العسكرية.

في المنتدى الاقتصادي الألماني اليوناني نفسه، تحدثت أنجيلا ميركل عن أن «الشيء الأكثر أهمية هو محاربة أسباب اللجوء حتى يجد الناس في أوطانهم آفاقاً مستقبلية مرة أخرى»، لكن رغم ذلك، لا يبدو أن في جعبة ساسة أوروبا شيئاً سوى التعامل مع أزمة اللجوء والهجرة بوصفها أزمة أمنية تتم معالجتها عبر سياسات الحدود المحروسة بالسلاح، وعبر التفاوض مع دول العبور لتحويلها إلى ما يشبه معتقلات كبيرة.