معتدلة ورصينة، وكأنها ليست هي، لا يجد المتجول في برلين في هذه الأيام معالم هلعٍ خاصة متعلقة بفيروس كورونا، خارج بعض الرفوف الفارغة في أقسام المنظفات في السوبرماركت أو محلات العطورات. الناس حذرون، ولكن ليس أكثر. لا ترى الكثير من الكمّامات في الشوارع، ولا سلوكيات عنيفة اجتماعياً ضد مشكوكٍ بمرضهم، من النوع الذي نسمع عنه في مناطق أخرى من العالم. البعض تحدَّثَ عن حالات هروب الناس من جانب شخص كان يسعل أو يعطس في وسائل النقل العامة، لكنها تبقى حالات ضمن نطاق ما هو منطقي، إلى درجة أن المرء يكاد يعيب على برلين اتزانها… له يا برلين!
في الحقيقة، تشكل مسألة فيروس كورونا حقل تجربة وملاحظة هائل لمتابعة السلوكيات البشرية، العامة والخاصة؛ الجماعية والفردية. يُقال ويُكتب كلام كثير عن هذا الأمر الآن، وسيُقال وسيُكتب أكثر بكثير. ولا مجال في هذه السطور للحديث عن الموضوع بطبيعة الحال، لكن يجدر قول إنني أجد النقاش حول «الهلع» نفسه مهماً: هل الهلع مُبرَّر، أم مُبالغٌ فيه؟ وباعتبار أن كلمة «هلع» تحمل شحنة سلبية بحد ذاتها، فالأسلم استبدالها بمصطلح أكثر حيادية، مثل «قلق»، قبل طرح السؤال مجدداً: هل القلق الذي نراه أو نسمع عنه أو نعيشه مبرر؟ أم ثمة مبالغة؟ وكردِّ فعلٍ أولى، وجدتُ نفسي أجيب: ليست المشكلة في القلق، المشكلة في الوقوع في غرام القلق. لكن، هنا، اضطررتُ للتوقف، إذ تذكرتُ أن صياغة «ليست المشكلة في كذا، بل في الوقوع في غرام كذا» قد استخدمتها أكثر من مرة مؤخراً، كتابةً وحديثاً. وفي حين ما زلت أراها صياغةً مفيدة، وصالحة تماماً لما نتحدث عنه الآن، إلا أنني سأتحفّظ على استخدامها. المشكلة ليست في استخدام هذه الصياغة، بل في الوقوع في غرامها.
في الحقيقة، ثمة أسباب خطيرة وجدّية للقلق، فدون إجراءات وقائية قاسية، يمكن لهذا الفيروس أن يتسبب في انهيار منظومات صحية كاملة في أكثر الدول تطوراً. ورغم أن آثار إصابته على الناس الأصحاء معتدلة، إلا أن هؤلاء يمكن أن يتحولوا إلى نواقل موت لأشخاص غير أصحاء، أو كبار في السن، من أقربائهم أو أصدقائهم، أو الراكبين بجانبهم في الميترو.
شخصياً، أحاول إيجاد معادلة قائمة على اتخاذ أفضل وأكبر قدر ممكن من الاحتياطات، لأنني في الحقيقة قلِق؛ مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن -ومنطقي- من عوالم وطقوس الحياة الطبيعية، دون المساومة على أي ميليمتر ممكن وغير مثبت خطره علمياً منها، إذ ثمة نصائح وإجراءات غير منطقية ولا علمية، قائمة على مبدأ «سدّ الذرائع»، المحبوب بشدة من قبل السلفيين والطبقات الوسطى. ثمة فعل مقاومة هنا يجب أن يُخاض، لأن البشرية، عدا القلق الواجب والشرعي والمطلوب، تقدم في هذه الأيام طبقات وطبقات من الهَبَل. منها، على سبيل المثال، أن الحضارة الإنسانية، عام 2020، تعيد اكتشاف… غسل اليدين!
أين هو ناشر يوفال نوح هراري ليقترح عليه إصدار كتاب أو كتابين عن الموضوع؟
أيضاً، ثمة أحاديث وردود فعل في الأجواء تجعل المرء «يُدافع» عن أمراض أخرى ذات هيبة ووزن وتاريخ، تُزدرى وتُهمل اليوم لصالح الـ«نوفو ريش». كل ما ليس كورونا لم يعد مرضاً، وكل مريض هو كورونا -مريب ومخيف- حتى يثبت العكس. تسمعً عن شخص قد أصيب -لنقل- بسرطان الإيدز اللويحي، فتُهوّن من الموضوع: المهم أنه ليس كورونا. ما أقوله مبالغة تسخيفية حادة، تتحدث عن سلوكيات أفراد لا يجب أن تُحاكم بهذه القسوة، أعترف؛ لكن شيئاً من هذا يحصل على مستوى السياسات الصحية العامة في كل دول العالم الآن في الحقيقة، عبر مزجٍ بين رد فعل حازم وضروري ومطلوب وصحيح، وبين إجراءات تنظر نحو ردود فعل الإعلام واستطلاعات الرأي وتعبيرات الهلع العامة أكثر من أخذها بكلام ذوي الخبرة والعلم. وسيكون لهذا الأمر تبعات في المستقبل القريب جداً.

على وسائل الإعلام، وفي بعض الأماكن العامة أيضاً، نجد بروشورات وبوسترات تدعو للتوقف مؤقتاً عن المصافحة، وهذا في الحقيقة أحد الإجراءات المنطقية والمطلوبة، فالمصافحة ناقل من الدرجة الأولى لفيروس مثل كورونا. وإذ كان من المنطقي أن نعترف بمشروعية أفكار الذين يتساءلون إن كانت جائحة كهذه ستغيّر شكل العلاقات الإنسانية إلى الأبد، مثل إزاحة المصافحة كأسلوب للسلام بين الناس، أجد من الضروري تذكيرهم أن المصافحة قد تغيّرت فعلاً (وربما إلى الأبد) حتى وهي باقية، فلم يعد كافياً أن تصافح (أو أن تعانق، أو أن تقبّل)، إذ يجب أن تضيف للحركة عبارة: «رغم أن هناك كورونا، لكن..»، فبدون العبارة أنت مُريب، ولا يُسمح لك بالمصافحة أو العناق أو التقبيل. أيضاً، لا يتمكن المرء من حبس سخريته من مقترحات هذه البروشورات، التي تشير إلى أنماط إلقاء سلام بديلة عن المصافحة، مثل رفع اليد إلى الصدر مع انحناءة خفيفة، أي ما يُعرف في بلادنا بوضعية شكر الله سعيكم/ عظّم الله أَجركم. كما أن هذه البروشورات لا تقدم حلاً للحرج الذي يشكّله أن يمدّ الطرف المقابل يده ولا تستجيب له، كما حصل مع أنغيلا ميركل نفسها. كان لدينا حلّ لهذا الحرج سبق أن طُرح في أوج الصحوة الإسلامية المباركة في صيغتها العمرو خالدية أوائل الألفينات، حين كانت الطبقات الوسطى والوسطى العُليا تحاول إيجاد توافق سلوكي بين مقتضيات الحداثة ولغتها وطرق تعاملها و«كولنتها»، وتزمت ديني صاعد بقوة، وجُلُّ تركيزه بالذات على العلاقة بين الذكور والإناث. حينها، طُرحت فكرة أن يحمل الشباب معهم سكاكر في جيوبهم، وحين تمد فتاة يدها مُصافِحةً، يضع الشاب قطعة سكاكر في يدها دون أن يلمسها، وبذلك يكون قد تمنّع عن مصافحتها دون أن «يُخجّلها»، مع مسحة لطف تُعبّر عنها قطعة السكاكر. لكن حلاً كهذا غير ممكن اليوم، فالعالم المتقدم عاش في السنوات الأخيرة نزعة متصاعدة بعنف ضد السكّر، وتجاوز الأمر تشدد أخصائيين في التغذية بنوا فرضيات علمية مناهضة للسكّر (يُعرَفون بحركة الأنتي-شوغار) إلى ما يشبه الحَرَم الديني. سمعة السكر أسوأ اليوم من سمعة الكوكايين… وخصوصاً في برلين.
في إسبانيا، يتواتر هذه الأيام قول إن فيروس كورونا جاء إنقاذاً للعائلة الملكية. وسبب ذلك أن الأيام السابقة لاندلاع الأزمة الفيروسية قد شهدت ظهور فضيحة جديدة لخوان كارلوس الأول، ملك إسبانيا السابق، والذي تنحى عن العرش لصالح ابنه قبل ست سنوات متأثراً بسلسلة فضائح تخص حياته العاطفية الحافلة، وأسفاره الترِفة في زمن الأزمة الاقتصادية وسوء إدارته لمشاكل داخل العائلة المالكة. إذ عُرف أن السلطات السويسرية تُحقق في حوالة مالية حجمها 100 مليون دولار سبق أن تلقاها خوان كارلوس في حساب بنكي سويسري عام 2008 (وكان ملكاً) من الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود. والحوالة ذات المبرر غير المُصرَّح عنه، مع وجود حساب بنكي خاص للملك أصلاً (غير المصرّح له بالملكية الخاصة حسب القوانين الإسبانية، وهو يتلقى بنداً سنوياً وعلنياً من الموازنة العامة، ويعيش في أملاك هيئة الذخر الوطني)، بحد ذاتها مشاكل قانونية، ولكن الفضيحة تستمر حين عُرف أن الملك قد دفع من ذلك الحساب 65 مليون يورو لعشيقته الشهيرة، كورينا لارسن، ومليون آخر لعشيقة أخرى مقيمة في سويسرا. الموضوع يحمل كل العناصر كي يكون فضيحة كبرى في إسبانيا، وقد تكون له تبعات قانونية في سويسرا (في إسبانيا يحظى هذا الملك، نتيجة لدوره في بناء النظام الديمقراطي بعد فرانكو، بحصانة استثنائية مطلقة وفق الدستور)، لكنَّ ما كان يمكن أن يكون أكبر فضائح العقود الأخيرة في إسبانيا نُسي وأُهمل في وسائل الإعلام الكبرى وفي أحاديث الناس، عند مجيء كورونا.
ثمة هزل شعري، يلقيه علينا القدر، حين ينجو ملك إسباني بوربوني من فضيحة مجلجلة بفضل فيروس يعني اسمه باللاتينية، وبالإسبانية «التاج». القدر، نفسه، يبدو متواطئاً من أجل أن يتمكن آل بوربون من العيش لقرون وقرون «دون أن يتعلموا، ودون أن ينسوا»، حسب المقولة القديمة الدارجة عنهم، والتي استخدمها كارل ماركس في كتاباته. أيضاً، يستوجب الموقف تحية لآل سعود على جهودهم، الجمهورية دون علمهم ولا إرادتهم، من أجل تقويض الملكيات التقليدية وزعزعة استقرارها، وكلنا ثقة أن ولي العهد، محمد بن سلمان، سينقل هذه الجهود إلى مستوىً غير مسبوق من الفعالية والنجاح.
تشير تقديرات علماء الأوبئة أن الإجراءات التي تتخذها غالبية دول العالم، إن جرت بفعالية وأتت ثمارها، أي تأخير انتشار الفيروس قدر الإمكان وتوزيع أعداد المصابين على أطول فترة زمنية، بدل إصابتهم جميعاً في آنٍ معاً، فوق قدرة الأنظمة الصحية على الاستيعاب، فإنها ستتمكن من السيطرة على الوضع، في إسبانيا على سبيل المثال، في وقت قدره ما بين شهرين وخمسة أشهر. أرجو ذلك، وأدعو للتعاون الكامل مع إجراءات الوقاية المتّبعة. لكن، طالما أن 2020 «مو مصلية عالنبي»، ولا نعلم ماذا سيجري في المستقبل، أرفع ضغطاً ما عن ضميري باعتراف أنه لم يكن لدي في السابق، ولا الآن، ولا في المستقبل القريب على ما يبدو، أي شيء ذي معنى أكتبه عن برلين.