«أول ما كان يخطر في بال من يسمع بالغوطة الشرقية هو الأشجار والمروج كثيفة الخُضرة، ونهر بردى الذي يتدفق على أطرافها، لكن تلك الصور التي ارتسمت في مخيلة السوريين تبدّلت اليوم، بعد أن تحوّلت تلك البقعة الخضراء إلى ما يشبه الصحراء»؛ هكذا يصف المزارع أبو عمر حال الغوطة بعد تسع سنوات من الثورة.
شكّلت الغوطة الشرقية على مرّ السنين خزاناً زراعياً تستمد دمشق منه غذاءها، ولعبت دوراً مهماً في تحريك عجلة الاقتصاد فيها، مع تنوع محاصيلها واستخدام قسمٍ كبيرٍ منها في مجال الصناعات الغذائية، إضافةً إلى أنها كانت متنفساً طبيعياً لأهالي العاصمة. وكانت المساحات الزراعية في الغوطة تزيد عن 5600 هكتار عام 2010، إلا أنها فقدت خلال السنوات القليلة الماضية أكثر من ثمانين في المئة من أشجارها، نتيجة يباسها أو قطعها أو إحراقها. هناك بلدات لم تسلم فيها أي شجرة، حتى وصلت نسبة الضرر فيها إلى مئة بالمئة على غرار بلدة المليحة، وفق ما قال محمد محي الدين، رئيس دائرة الزراعة في الغوطة الشرقية، لوكالة فرانس برس.
ويسعى النظام لترويج أن الحياة تعود إلى طبيعتها في الغوطة، بما في ذلك القطاع الزراعي، وفي هذا الإطار، تحدثت مديرية زراعة ريف دمشق التابعة لحكومة النظام عن أن الفلاحين بدأوا بزراعة أراضيهم، وعن أن هناك 3 آلاف دونم مزروعة بالقمح و1200 دونم مزروعة بالشعير، إضافةً إلى مساحات كبيرة مزروعة بالأشجار المثمرة مثل المشمش والإجاص ومساحات من الخضروات مثل الفول والخس وغيرها.
وأفادت المديرية مطلع العام الماضي 2019 أنها استصلحت نحو 23 ألف دونم من الأراضي الزراعية بالريف الدمشقي، أكثر من نصفها في الغوطة الشرقية، وأنه تم توزيع نحو 400 ألف شتلة مجانية من المزروعات الصيفية على الفلاحين. بينما قالت رئاسة الوزراء في حكومة النظام إنها طلبت من وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي دعم الغوطة بالآليات اللازمة لفتح وتأمين الطرق الزراعية، وتقديم القروض للمزارعين من المصرف الزراعي.
تحدثت الجمهورية إلى مهندس زراعي في دوما، رفض الكشف عن اسمه، وهو ينفي منح النظام أي مساعدات أو خدمات للمزارعين في الغوطة، فـ «المصرف الزراعي لم يمنح أي قروض للفلاحين، كما أنه لم يكن هناك أي عمليات استصلاح للأراضي كما أدّعى النظام، وإنما قام بعض المزارعين باستصلاح أجزاء من أراضيهم على نفقتهم الخاصة».
من جهته، يقول الصحفي غياث الذهبي، وهو أحد أبناء الغوطة، إن «الضرر الذي لحق بالقطاع الزراعي في الغوطة خلال تسع سنوات، نتيجة القصف والحرق والقطع الجائر للثروة النباتية، أدى إلى تحويل أجزاء كبيرة من الغوطة إلى ما يشبه صحراء، فلم يتبقَ من أشجار الغوطة سوى 10% مما كان متواجداً في العام 2010».
عقبات حوّلت الفلاح من منتجٍ إلى مستهلك
بعد سيطرة النظام على الغوطة الشرقية في نيسان 2018، بدأ بعض الفلاحين باستصلاح أراضيهم، إلا أنهم اصطدموا بصعوباتٍ كثيرة. يقول مزارع من سكّان بلدة مسرابا، فضّل عدم ذكر اسمه: «أغلب المزارعين ليس لديهم المال لكي يقوموا باستصلاح أراضيهم، كما أن حكومة الأسد لم تقدم أي خدمات أو دعم لمساعدة الفلاحين على إعادة الحياة إلى تلك الأراضي القاحلة».
وأضاف المصدر ذاته لموقع الجمهورية أن «الأراضي الزراعية تضررت كثيراً، ولم تعد تعطي مردوداً جيداً كما كانت سابقاً، إضافةً إلى أن الزراعة من جديد تتطلب تكاليف كبيرة، حيث تصل تكلفة حراثة الدونم الواحد إلى 10 آلاف ليرة سورية، والغرسة إلى 2500 ليرة، علماً أن الدونم يستوعب 30 غرسة تقريباً، تصل تكلفتها إلى 75 ألفاً».
كما تحتاج الأرض إلى مبيدات حشرية أصبحت باهظة الثمن، وتُباع بالدولار، ويصل سعر الليتر إلى حوالي 60 ألف ليرة الآن، إضافةً إلى فقدان السماد الآزوتي الذي يعتبر ضرورياً للتربة، ويستعيض عنه الفلاحون بالسماد المُركّز باهظ الثمن، أو السماد الطبيعي (روث الحيوانات)، لكنه غير مُجدٍ وبطيء الفعالية.
يقول المزارع نفسه إن «تكلفة إعادة زراعة الدونم الواحد قد تصل إلى 200 ألف ليرة، علماً أن المزارع سيضطر للانتظار خمس سنوات حتى تبدأ الأشجار بالإنتاج، وبالتالي لم تعد الزراعة تؤمن مصدر دخل للفلاح، وإنما بالكاد تؤمّن له قوت عائلته، حيث يضطر لشراء مستلزمات الزراعة بالدولار، ويبيع الإنتاج بالليرة السورية وبأسعارٍ منخفضة».
وتتقاضى حواجز النظام أيضاً إتاوات مقابل السماح للفلاحين بالمرور ونقل إنتاجهم إلى أسواق دمشق، اضافةً إلى ندرة اليد العاملة مع تهجير كثيرٍ من السكان واعتقال آخرين أو سوقهم للخدمة العسكرية. كذلك فإن المازوت المخصص لتشغيل المولدات لري الأراضي غير متوفر، وباهظ الثمن في السوق السوداء، وبالتالي فإن كل تلك العقبات السابقة حوّلت الفلاح من منتجٍ لكثير من المواد الغذائية إلى مستهلك لها.
في السياق ذاته، يعاني المزارعون في الغوطة من انتشار الألغام في الحقول والأراضي الزراعية، وأفاد مركز الغوطة الإعلامي أن عدة أشخاصٍ، بينهم أطفال، قُتلوا نتيجة انفجار ألغامٍ في عدة مزارعَ بالغوطة. وأوضح المركز أن المسؤولية تقع على عاتق قوات النظام، التي سمحت للفلاحين بالعودة إلى أراضيهم دون أن تقوم بإزالة الألغام منها، موضحاً أن قوات النظام، ومنذ بدء هجومها على مطار مرج السلطان في تشرين الأول 2015، قامت برفع سواترَ ترابية وزرع الألغام بينها.

وأعلن النظام عبر إعلامه نهاية العام الماضي أنه تمكن من تنظيف 24 قرية وبلدة من الألغام، وتفجير 163 طناً منها، إلا أن الصحفي غياث الذهبي أفاد أن تلك «التصريحات غير واقعية، وهدفها تشجيع الناس على العودة إلى مناطقها، وإظهار النظام بمظهر الحريص على أرواح المواطنين، لكن في الحقيقة ما يزال هناك كثيرٌ من الألغام، وتسبّبت بمقتل حوالي 15 مدنياً منذ سيطرة النظام على الغوطة».
كذلك تعرّضَ كثيرٌ من المدنيين في الغوطة لإصابات جرّاء انفجار مخلفات رصاصٍ متفجر، كانت عالقة في جذوع الأشجار وأغصانها، وتنفجر عند إشعال الحطب الذي يتم قطعه من تلك الأشجار بغرض التدفئة في الشتاء.
عوامل غيّرت شكل الغوطة
لكن كيف تغيّر شكل الغوطة وتحوّلت واسعة منها من جنة خضراء إلى ما يشبه الصحراء؟ يقول المزارع أبو عمر من أهالي بلدة دير العصافير: «تتركز معظم الأراضي الزراعية ضمن الغوطة في منطقتي المرج والقطاع الجنوبي، إلا أن النظام سيّطر على منطقة المرج في 2013، التي كانت غنيةً بالمزروعات وعلى رأسها الحبوب، ومن ثم سيطر على معظم أراضي القطاع الجنوبي في 2016، وقام بتدمير خضرة المنطقة، بعد أن كانت غنيةً بالأشجار الكثيفة، لا سيما المشمش والجوز».
وعمد شبيحة النظام إلى قطع كامل أشجار الغوطة في المرج والقطاع الجنوبي، وبيع أخشابها في أسواق دمشق، رغم أن تلك المناطق تحوي أشجاراً عمرها عشرات السنين، ويمكن لأي شخصٍ إلقاء نظرةٍ على تلك المنطقة عبر خرائط Google Earth على الانترنت، ليكتشف كيف أصبحت بعد أن كانت أرضاً خضراء في العام 2010.
بعد قضم النظام مساحاتٍ واسعة من الأراضي الزراعية بين عامي 2013 و2016، اعتمد الأهالي خلال فترة الحصار على المساحات المزروعة التي لم يُسيّطر عليها الأسد حتى توقيع اتفاق التهجير، وتشمل جسرين، المحمدية، بيت نايم، النشابية، الأشعري، مسرابا، مديرا، بيت سوا، الشيفونية. وقد تم استنزاف موارد تلك الأراضي بشكلٍ كبير، كونها كانت السلة الغذائية للأهالي في ظل الحصار، ما تسبّب بتضررها على نطاق واسع.
يضيف أبو عمر: «اضطر الأهالي خلال فترة الحصار لزراعة الأراضي عدة مواسم متتالية، دون إعطاء أي مجال لإراحة الأرض لموسمٍ كل عامين على الأقل، إضافةً إلى ري المزارع بمياه نهر بردى التي تحوّلت إلى مياه صرفٍ صحيّ، وهو ما أضرّ بالتربة بشكلٍ كبير، فضلاً عن قطع سكان الغوطة لأغلب الأشجار للاستفادة من حطبها في التدفئة».
كما تسبّب القصف العنيف لقوات الأسد والقوات الروسية بإحراق مساحاتٍ واسعة من المزروعات، فضلاً عن قيام النظام بعد السيطرة على الغوطة، بإحراق بعض الأراضي الزراعية بغرض الانتقام من الأهالي الذين ثاروا ضده. وتحدّث موقع صوت العاصمة الإلكتروني عن أن الحرائق تركّزت في البساتين المحيطة بدوما وحرستا، وعن أن سيارات الإطفاء كانت تتعمّد التأخر في كل مرة يحصل فيها حريق، مشيرةً إلى أن مخابرات النظام تقف وراء تلك الحرائق، بغرض تفريغ المناطق الزراعية وإجبار الأهالي على البيع أو فرض الاستملاك الحكومي، ضمن خطةٍ لإدخالها حيّز التنظيم الذي سيشمل مدخل العاصمة الشمالي.
من جهته، يقول غياث الذهبي إنه «تمت مصادرة كثير من الأراضي لأشخاصٍ مطلوبين لأجهزة النظام الأمنية، فضلاً عن قيام أناس مرتبطين بتلك الأجهزة باستملاك بعض الأراضي، مستغلين تهجير أو اعتقال أصحابها».
زراعات تلاشت وأخرى تضاءلت
لا يقتصر تضاؤل المساحات الزراعية في غوطة دمشق الشرقية على فترة الحرب، بل كانت هناك عوامل أخرى سابقة أثّرت على بعض الزراعات التي اشتهرت بها الغوطة على مر مئات السنين، ومنها انخفاض عدد أشجار المشمش فيها، على سبيل المثال، من 2147 شجرة عام 1991، إلى 1936 شجرة عام 2012، وذلك بسبب التوسع العمراني واستخدام مياه الري في المشاريع السياحية بدلاً من الزراعة.
يقول المزارع أبو عمر إن «الزراعة قديمة جداً في الغوطة، إذ تم العثور على واحدة من أقدم القرى الزراعية في موقع تل أسود قرب الغوطة، والتي تعود إلى 7800 سنة قبل الميلاد، وعُثر فيها على على فؤوس ومناجل حصاد تم صنع شفراتها من عظام حيوانية حادة وطويلة مثبتة على قبضات من العظام أو الخشب، إضافةً إلى كميات كبيرة من حبوب القمح والشعير والحمص والعدس القديمة المتفحمة. وما ينطبق على الحبوب، ينطبق بشكل عام على الفواكه مثل أشجار العنب والزيتون والتين والتمر. غير أن بعض الزراعات تلاشت أو تضاءلت في الغوطة خلال العقود الماضية، حيث انقرضت زراعة التفاح منذ 70 سنة، والجوز منذ 20 سنة، فضلاً عن توقف زراعة القنّب، الذي كان يُزرع سابقاً للاستفادة منه في صناعة الحبال، لكن تم منع زراعته لاحقاً كونه قد يستخدم في صناعة الحشيش».
عن الزراعات المنتشرة في الغوطة حالياً، يقول أبو عمر: «يُركّزُ أغلب الفلاحين على زراعة الذرة الصفراء والفاصولياء والخس والفول والباذنجان، والمشمش والتوت والدراق والإجاص والخوخ، اضافةً إلى بعض المساحات المزروعة من القمح والشعير في منطقة المرج»، مشيراً إلى أن «الغوطة تحتاج إلى عشر سنوات لتستعيد غطاءها الأخضر، وخمس سنوات على الأقل حتى تتمكن الأشجار مرة أخرى من الحمل وإنتاج الثمار».
كانت قوات النظام قد سيطرت على كامل الغوطة الشرقية في نيسان 2018، بعد حصارٍ دام نحو ست سنوات وحملات عسكرية عنيفة، انتهت بتوقيع اتفاقٍ تضمَّنَ تهجير 65887 شخصاً إلى الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام، بينما أجرى الذين ظلّوا في الغوطة تسويات مع النظام.