يتجه العالم الحديث اقتصادياً نحو خطط التنمية المستدامة من خلال الصناعات النظيفة والأنظمة الإيكولوجية، التي تهدف إلى ضمان حياة أفضل للأجيال القادمة. لكن التنمية المستدامة تأخذ أبعاداً عدة، ولا تقتصر على المجال الاقتصادي فحسب، بل تشمل أيضاً مجالات اجتماعية وثقافية. تهدف الاستدامة اجتماعياً على سبيل المثال إلى حياة اجتماعية عادلة تستوعب احتياجات الفرد المتنوعة، وتؤمّنُ بنىً تحتية وظروفاً معيشية صحية وآمنة. أما مفهوم الاستدامة الثقافية فهو يتخذ أوجه عدة منها ضمان استمرارية العمل الثقافي لأطول مدة ممكنة، بما يسمح بحدوث تغييرات ملموسة في البنية الاجتماعية وضمان استقرار العاملين في هذا المجال. يبدو هذا الحديث حلماً أفلاطونياً في المنطقة العربية، التي لا تزال تشهد حروباً وثورات في بلدان يدفع فيها الإنسان حياته ثمناً لتحصيل أبسط الحقوق والحريات، أما العاملون في المجال الثقافي في المنطقة العربية، فهم يعرفون جيداً مدى صعوبة العمل الثقافي المستقل، والتوازن القلق الذي يحاول أن يجده أصحاب المؤسسات الثقافية المستقلة، أو العاملون في الفنون بشكل عام، فيما يختبرون التهديد المهني والمعيشي بشكل شبه يومي.
الفنون والتمويل: أنماط إدارة الموارد والمقاربات البديلة لمفهوم الاستدامة في العمل الثقافي والاجتماعي، هو عنوان دراسة أعدّتها الباحثة والفاعلة في مجال الإدارة الثقافية رنا يازجي، ومعها الباحث المساعد وائل سالم، كما ساهم في إنجازها زين صالح، وذلك بتمويل من مؤسسة فورد. وقد استمر العمل على إعداد هذه الدراسة، التي صدرت مؤخراً، لمدة لا تقل عن سنة ونصف، واعتمدت بشكل أساسي على دراسة حالات وأمثلة مختلفة من 19 مؤسسات ثقافية في أماكن مختلفة من العالم، وذلك من خلال البحث المكتبي والمقابلات الطويلة مع مدراء هذه المؤسسات الثقافية والممولين لها. وتخبرنا يازجي عن بدايات هذا البحث: «بدأت الدراسة من التجربة العملية والعمل في المجال الثقافي على مدى سنوات طويلة، بالإضافة إلى العمل مع العديد من الشباب ومؤسسي المبادرات التي تحاول الاستمرار في العمل طويل الأمد. وبعد سنوات التجربة الطويلة، بدأتُ ألاحظ أن آلية التفكير في الدعم المادي كانت تعتمد بشكل أساسي على وجود تمويل يأتي من ممولين دوليين. ولهذا التفكير أسباب عدة، منها شحّ مصادر التمويل الحكومي وتنصّل القطاع الخاص من المسؤولية الاجتماعية للشركات، ولا يخفى علينا غياب السياسات الثقافية الديمقراطية الشفافة التي تسمح بحرية الإبداع في المنطقة العربية عموماً، في الوقت الذي يموّل في القطاع الحكومي أنشطة ثقافية معينة، ويمنع ويضيق على القطاع الثقافي المستقل فرص الحصول على التمويل الدولي، وعندها حتى تمويل الأفراد يصبح أمراً صعباً، لذلك يظل العمل الثقافي طويل الأمد غير مستدام. أما في الوقت الحالي، وبسبب تغيّر الظروف السياسية والاقتصادية وآليات العمل، صار من الضروري إعادة النظر في طريقة التفكير بمصادر التمويل هذه. وهذا ما دفعني لبدء الدراسة الاستكشافية، التي تسمح لنا بالتعلم من تجارب الآخرين في دول أخرى. ومهما كانت هذه التجارب صغيرة أو كبيرة، إلا أنه من المجدي التفكير فيها. كما أننا لا نقصد بأي حال من الأحوال أن تكون هذه التجارب قابلة للنسخ أو إعادة التنفيذ حرفياً، لكننا يمكن أن نستلهم منها ما هو مفيد لنا دون الحاجة للبداية من الصفر في هذا التحول البنيوي والإداري».
من يتخذ قرار التمويل ؟
استطاعت دراسة الحالات والنماذج المختلفة الخروج بتصنيف لهذه المؤسسات وفق أنماط تمويلها، وذلك بالاستناد إلى معيارين؛ المعيار الأول هو أصحاب القرار في توزيع الموارد، والمعيار الثاني هو مصادر التمويل. وبالاستناد إلى المعيار الأول، تنقسم المؤسسات إلى النمط التشاركي للتمويل والنمط الفردي المؤسساتي. والنمط التشاركي هو الذي تقرر فيه الجماعة، أو القطاع الثقافي بشكل أوسع، توزيع الموارد دون أن ينحصر القرار في يد المؤسسة، أو لجنة تحكيم داخلها، كما في النمط الفردي المؤسساتي.
يطرح النمط التشاركي إشكالية جوهرية في عملية اتخاذ القرار في المؤسسات الثقافية؛ من يتخذ قرار التمويل؟ ومن يمتلك سلطة منح مشاريع ثقافية معينة دعماً مادياً دوناً عن غيرها؟ وهي مسألة شائكة فعلاً في آلية التقدم للمنح الإنتاجية وطلب التمويل، التي يشعر كثير من المتقدمين، أفراداً أو مؤسسات، أنها عملية غامضة إلى حد ما، وأن المعايير التي يتم وفقها اتخاذ القرار ليست معايير واضحة كلياً.
الجانب المثير للاهتمام في نمط التمويل التشاركي أنه يعتمد على آلية تصويت تختلف عن الآلية التقليدية، التي اعتدنا عليها في المؤسسات الثقافية المسؤولة على إعادة توزيع الموارد القادمة من مانح دولي أو حكومي. فهي عملية تشاركية تمنح المؤسسات والأفراد المتقدمين للمنحة حق التصويت واتخاذ القرار بخصوص المشاريع التي ستموَّل في الدورة القادمة، ومن بينها مشروعهم الخاص، وذلك بدلاً من الاستعانة بلجنة تحكيم خارجية لاتخاذ القرار بشأن الحاصلين على المنحة.

في هذا السياق، تستعرض الدراسة تجربة شبكة clubture، وهي شبكة من المؤسسات الثقافية في كرواتيا، تهدف إلى تبادل البرامج الثقافية، بحيث تتقدم ثلاث مؤسسات على الأقل بمشروع مقترح، يتم تطبيقه في ثلاث مدن مختلفة في كرواتيا. ويتم التصويت على هذه المشاريع من قبل المتقدمين أنفسهم، حسب معايير وشروط تضمن عدالة توزيع الموارد، وأحقية التصويت. أما الهدف الآخر من آلية التصويت هذه، فهو وضع الفاعلين الثقافيين في موقع المسؤولية وتحمل نتائج توزيع الموارد المالية فيما بينهم، بالإضافة إلى رفع مستوى الديمقراطية والشفافية: «لا مانع من أن يدافع كل شخص عن مصالحه. ما هو غير مقبول هو المصالح المخبأة، في حين أنه من المقبول التعبير عن المصالح باعتبارها مصالح مشروعة، ودعوة الجميع لإدراك هذه المصالح باعتبارها مصالح عامة، ثم البحث عن حل يناسب الجميع»، كما يرد في الصفحة 28 من الدراسة.
بدايات على طريق الاستدامة
أما بالاعتماد على معيار مصادر التمويل، تنقسم المؤسسات إلى أربعة أنماط؛ نمط التمويل الجماعي، نمط الاقتصاد الموازي، نمط الاستدامة الذاتية، نمط المنح المالية. ويستند كل واحد من هذه الأنماط المذكورة إلى دراسة حالات لمؤسسات عربية أو دولية، ولا يوجد متسع هنا لتفصيل كل نمط من هذه الأنماط، لكن إحدى التجارب العربية التي استفادت من التطورات النوعية في مجال الشركات الناشئة، والتي تعتمد في عملها على شبكات التواصل الاجتماعي بهدف تمويل عملها بطريقة التمويل الجماعي، هي مؤسسة بسيطة في مصر، وهي مؤسسة ناشئة تلعب دور الوسيط في تصميم حملات لدعم فئات من المجتمع، أو دعوات لتغيير في السلوك الاجتماعي إلكترونياً. وهي تعتمد على التمويل من مختلف أفراد المجتمع، لكنها وجدت بديلاً عن تمويل العمل الجماعي بالمال الخاص، واستعاضت عنه بالتفاعل الاجتماعي على منصات السوشيال ميديا، الذي يُترجَم إلى نقاط، ومن ثم إلى أموال تُقدّمها المؤسسات الداعمة والمعنية بالحملات والمشاركة فيها، والتي تروج لها مؤسسة بسيطة.
أبعد من الحلول الإدارية
ينطوي سؤال الاستدامة بالنسبة للمؤسسات الثقافية غير الربحية في المنطقة العربية على صعوبات ومعوقات كثيرة، تبدأ من التقلبات الاقتصادية وشحّ مصادر التمويل، وصولاً إلى الصدام مع بنى مؤسساتية ومعوقات اجتماعية وسياسية تقف في وجه العمل الثقافي، وبالأخص الدول التي تحكمها ديكتاتوريات، أو التي لا تزال تعيش ثورات أو حالة من عدم الاستقرار.
وقد تنوعت الإجابات والخطط حول كيفية استدامة تمويل هذه المؤسسات، وذلك في المقابلات التي تم إجراؤها، في سياق هذه الدراسة، مع مدراء المؤسسات المانحة في المنطقة العربية، مثل مؤسسة المورد الثقافي وآفاق ومؤسسة اتجاهات- ثقافة مستقلة. كانت جميع الإجابات تصب في محاولات وخطط لتنويع مصادر التمويل، بين ممولين دوليين وأفراد ممولين، والتشجيع على الاستثمار في المجال الثقافي، الذي يُعَدُّ استثماراً مستقبلياً على مستوى المجتمع، والذي لا يقل أهمية ونفعاً عن أشكال الاستثمار الأخرى.
لا تحاول الدراسة تقديم حلول لمشاكل التمويل، كما أن استدامة العمل الثقافي لا تتعلق بالتغييرات الإدارية التي يجب أن تتبعها المؤسسات الثقافية، ولا بخطوات محددة موجودة مسبقاً، بل على العكس، وهو ما تحاول الدراسة إثباته، ذلك أن الاستدامة الثقافية تحتاج إلى تغيير على مستوى الذهنية وآلية التفكير بالدرجة الأولى. تجيبنا رنا يازجي بهذا الخصوص على سؤالنا عن التغييرات المطلوبة من جانب الممولين، من أجل تحقيق هذا التغيير في آلية التفكيروالتمويل: «شخصياً، أعتقد أنه من غير المجدي إعادة النظر بشكل جذري في آلية التفكير باستدامة مصادر التمويل، دون إعادة النظر أيضاً في بنية المؤسسات الثقافية وشكل الحوكمة فيها. وقبل الحديث عمّا هو مطلوب من الممولين الدوليين من تغييرات في شكل التمويل، يجب علينا العمل بشكل جماعي كقطاع ثقافي، وليس كمؤسسات أو أفراد. لا بد من تشكيل تكتلات تعمل معاً من أجل أكبر عدد ممكن من الفاعلين الثقافيين حول هذه المفاهيم الجديدة، من أجل مخاطبة الممولين. وبالتالي لا تقع مسؤولية التغيير على عاتق الممول الدولي، بل تبدأ أولاً من القطاع الثقافي ومن رؤيته الجديدة. بهذه الطريقة يصبح الممول هو الطرف المحاور والشريك في هذا التحول البنيوي، مع الحذر قدر الإمكان من الدور الوصائي الذي يمكن أن يلعبه الممول. بكلمات أخرى، ألّا يفرض الممول شكلاً واحداً من أشكال إدارة المصادر والتمويل، وألّا يتوقف عن تمويل المؤسسات الأخرى التي تُدار بالطرق التقليدية على سبيل المثال. التنوع هو أساس أي منظومة حيوية، وبرأيي فإن المطلوب أولاً من القطاع الثقافي صياغة رؤيته وتكوين معرفته، ومن ثم التعامل مع الممول كمحاور وشريك بدون تدخل أو وصاية».
قُدِّمَت هذه الدراسة وطُرحت نتائجها للنقاش العام في جلسة نظمتها مؤسسة نورس الثقافية، واستضافت اللقاء Bosch Alumni Network في برلين في السابع من شهر آذار (مارس) الحالي. وكانت أهمية الجلسة أنها سمحت بمناقشة إمكانية إحداث التغيير في المؤسسات الحالية، ومدى واقعية وإمكانية تطبيق مقترحات جديدة، وذلك من خلال تحفيز المشاركين في الجلسة على تطوير نماذج خاصة، كلٌّ حسب النمط الذي يختاره، ومحاولة تطوير نموذج مبدئي لمناقشة الجوانب والمحاذير في كل نمط من أنماط التمويل المذكورة في الدراسة. وقد دفعنا ذلك إلى سؤال يازجي عن واقع الفنانين في الشتات، وعن صعوبات التمويل التي تواجههم والتصورات الممكنة لإنجاز أعمالهم ومشاريعهم الثقافية؛ أجابت يازجي: «إن صعوبات التمويل الحالية ستنحسر جزئياً وتتخذ أشكالاً أخرى، وذلك مع ازدياد معرفة الفنانين بالبيئات الجديدة التي انتقلوا إليها من نواحي مختلفة، وازدياد اطلاعهم على المؤسسات الداعمة في الدول الجديدة. هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإنه يجب أن يسعى الفنانون للتضامن، وهناك العديد من آليات التضامن التي يجب العمل على تعزيزها بين مجموعات الفنانين المهاجرين، والتي لا تسمح فقط باستمرار العمل الثقافي ضمن مؤسسات، بل أيضاً تساعد على تأسيس منظومة حيوية متكاملة غير ذاتية أو فردانية، تضمن استمرار وثبات العمل الثقافي والفني الجماعي والمؤسسي. وبالعودة إلى النقطة الأساسية حول التغيير الجوهري في الذهنية؛ نحن بحاجة في البداية إلى الإيمان بالقيم الأساسية، أما التقنيات فهي الجانب الأسهل من العملية. الأهم هو بناء منظومة تفكير تسمح باستدامة العمل الثقافي الجماعي والدفاع عنه». وأضاف وائل سالم تعليقاً عند الحديث عن ضرورة تعزيز آليات التضامن بين الفنانين في الشتات: «عند الحديث عن التضامن، لا نجده ضرورياً بين الفنانين المهاجرين فحسب، بل أيضاً في علاقتنا مع الفنانين والناشطين الثقافيين في داخل سوريا. عند إعداد هذه الدراسة، لم نفكر يوماً بأن هذا التغيير قابل للتحقق خارج سوريا فقط، بل على العكس، نجد أن هناك العديد من الأنماط والنماذج التي تسمح بإعادة بناء علاقة متينة بين الفنانين في سوريا، وتعزيز التضامن بين الفنانين داخل البلد وخارجه، من أجل استعادة فعاليتهم الثقافية وبناء شبكة حيوية فيما بينهم».