لا نعرف إن كان بإمكاننا التجرؤ والقول إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية، التي يلتزم بها معظم سكان الكوكب، من أقصاه إلى أقصاه، في بيوتهم دفعة واحدة. شوارع كثيرة تكاد تكون مُقفرة كما يظهر من نوافذ الجميع، ومن يتبرم من الحجر الصحي ولا يريد الالتزام به قد لا يجد مكاناً ليذهب إليه، حتى في مدينة لم يتم فرض حظر التجول فيها بعد، فأغلب الأماكن العامة مغلقة، والناس تترصد من يسعل أو يعطس لتنقض عليه بسهام العيون الحارقة، فيما الهوس من لمس الأشياء والأشخاص يتزايد، مع تصاعد خوف الإنسان من أن تُدَكَّ حصونه من حيث لا يدري، عبر حركة خاطئة يلمس فيها وجهه دون تعقيم يديه.

تتصاعد في خلفية هذا الوضع الاستثنائي جملة من المشاعر السلبية في قرارة كل منا، جماعات وأفراد، لأننا لم نتأقلم بعد مع هذا الوضع الجديد، الذي لا نعرف كم من الوقت سيستمر. وبناء على ذلك، من المهم أن نفكر أكثر في ما يمكن أن تسببه هذه العزلة التي نعيشها اليوم، والمترافقة مع مشاعر القلق من عدم اليقين، والخوف من المرض، فضلاً عن الأعباء المادية والنفسية من احتمال انقطاع الدخل بسبب الشلل الحاصل في معظم القطاعات. نحاول أن نفكر في كل هذا علّنا نتجاوزه بأقل الخسائر الممكنة، إلى حين اكتشاف مَخرَج ما لهذه البلوى.

لعلّ أهم ما يجب أن نتسلح به اليوم هو المعلومات الصحيحة، التي تُمكّننا من التحرك في الحيز المنطقي، حتى لا نبالغ فنصاب بالهوس، ولا نستهتر فنصاب بالفيروس. تَوافُرُ المعلومات على نطاق واسع هذه الأيام، والتغطية الإعلامية الكثيفة حول الفيروس وكيفية الحماية منه، تقلّلان قدرة من يريد الكتابة على الإتيان بجديد، وهذا عظيم ويصب في مصلحة التقليل من الإصابات واحتواء المرض.

الأمر الإشكالي في هذه الفترة هو ما يُمكن أن تسببه العزلة وغياب النشاطات الاجتماعية من آثار نفسية على الناس. في حديث له مع الجمهورية، يُعلّق الأخصائي النفسي بيركو سلمو على ذلك بالقول إن «علم النفس ما زال بحاجة إلى بيانات ودراسات أكثر عن حالات مشابهة، حتى يمتلك القدرة على توقع ما الذي يمكن أن تخلقه هذه العزلة الاستثنائية من اضطرابات، عدا اضطراب ما بعد الصدمة الذي يمكن تَوَقُّعُ حدوثه، فهذا حدث غير معهود تواجهه البشرية على نطاق واسع، وهذه العزلة لها عناصر مختلفة عن عزلة السجن على سبيل المثال. ولكن هناك احتمال أن تتعزز اضطرابات سابقة، مثل الاكتئاب، والقلق المعمم، والوسواس القهري المعروف اختصاراً بـ OCD، والذي كنا كمُعالِجِين نتعامل معه عبر دفع المريض إلى التقليل من مخاوفه. إلا أن التعليمات والإرشادات العامة في الوقت الحالي جاءت لتجعل حجج علم النفس ضعيفة في التعامل مع هذا الاضطراب، ذلك أن أموراً مثل غسل اليدين والنظافة العامة تُعتبر ضرورية للحفاظ على الصحة العامة».

وأوضح سلمو أن «العزلة عموماً قد تكون عَرَضَاً ناتجاً عن الإصابة بأمراض نفسية، ما يدفع المصابين إلى فرض العزلة على أنفسهم. ولكن عزلة اليوم المفروضة على معظم سكان العالم، هي من نوع آخر، فهي غير ناتجة عن الإحباط والاكتئاب، وهناك قدرة ورغبة لدى الناس على التواصل مع الآخرين عن طريق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. هي عزلة مادية وليست نفسية». لافتاً إلى أنه «ليس كل الأشخاص قادرين على التواصل الافتراضي والشعور بالحصانة من آثار العزلة، وهناك احتمالات قائمة بأن تؤدي إلى أنواع مختلفة من الاضطرابات النفسية، ومن هنا ينبغي العمل على وضع جداول روتينية يومية للتكيف مع هذا الوضع والاستفادة منه. ذلك أن الروتين له آثار إيجابية على المزاج والصحة النفسية، ويُنصَحُ بوجوده في حياة الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب مثلاً. ونعني بالروتين هنا أن يكون الوقت اليومي مقسماً على عدة مراحل، تُملأ بنشاطات مختلفة، مثل القراءة، والتعلم، والرياضة، والتواصل مع الآخرين عبر الإنترنت… إلخ».

وقال سلمو، ناظراً إلى النصف الملآن من الكأس إنه «ينبغي أخذ المشاعر الإيجابية المرافقة لهذه العزلة بعين الاعتبار، مثل الشعور بالتضامن ووحدة المصير حول العالم. إضافة إلى أن فعل الانعزال آت من حرص الشخص على حياة الآخرين، وينطوي ذلك على شيء من النبل الذي يخفف من وطأة الأثر النفسي السلبي للعزلة. فيما يُعد من يلزم منزله محظوظاً لوجود هذا المنزل ووسائل التعقيم والحماية». لافتاً إلى أنه «في حدث تاريخي مثل هذا هناك فرصة متاحة أمام كثيرين لمساعدة الآخرين الذين يحتاجون المساعدة، ما يعطي دفعة من المشاعر الإيجابية، وهي الأمر الذي نحتاجه اليوم، ويساعدنا على التقليل من احتضان الأفكار السلبية، وبالتالي حمايتنا من الضرر النفسي المُحتمل في أوقات كهذه».

ضمن المساعي لتعبئة الوقت، الذي يبدو ثقيلاً في مواجهتنا هذه الأيام، ظهرت مبادرات عدة لتسهيل التعليم عن طريق الانترنت، فيما فتحت مكتبة الاسكندرية محتواها على الإنترنت لتمكين الناس من القراءة مجاناً. وهناك العديد من المبادرات الأخرى التي بإمكان من يرغب الوصول إليها، منها راديو الحي، الذي «جاء كمشروع تَشَاركي في زمن الحجر الصحي، للراغبين بالاستماع للموسيقى والتفاعل مع القائمين على الراديو، وحتى المبادرة لإدارة فترات معينة من البث لمن يستطيع على ذلك»، وذلك بحسب سنا مصطفى، التي شاركت في إعداد إحدى الفقرات على هذا الراديو.

عزلة هذه الأيام أيضاً هي فرصة لمراجعة كثيرٍ من الأمور العالقة في حياة معظمنا، والالتفات إلى المشاريع المؤجلة، التي كان زحام الحياة قادراً على حرماننا من تخصيص وقت لها. وربما قد يكون مفيداً مراجعة كل النمط الذي كان سائداً وحاكماً لحياتنا، التي قد لا تعود على ما كانت عليه في السابق، وهو النمط الذي كنا نراوح فيه بين التوتر والضنى، ونشتكي فيه من غياب المعنى (هنا مقال مونولوج فيروس الذي ينظر إلى المصيبة من زاوية مختلفة). وفي النهاية، كل الامتنان للطواقم الطبية والعاملين الصحيين الذين يقاتلون خارج حصون منازلهم، محرومين من العزلة التي يستطيع غيرهم الاحتماء بها.