رغم انتشار الهلع على صفحات فيسبوك بعد إعلان وزير الصحة في حكومة النظام السوري، يوم الثاني والعشرين من شهر آذار (مارس) الجاري، عن تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا في سوريا، إلا أن الخبر لم يكن مفاجئاً لكثير من السوريين في مناطق سيطرة النظام، بقدر ما كان تأكيداً على المخاوف المنتشرة بينهم، لا سيما مع الإجراءات المتلاحقة التي أعلنها النظام في الفترة الأخيرة، بما فيها إجراءات جاءت قبل ساعات من التصريح عن أول إصابة في سوريا، ومن بينها إعلان مديريات الصحة في عدة محافظات عن تجهيز مشافٍ لاستقبال الحالات المشتبه بإصابتها، وتجهيز بعضها الآخر للحجر الصحي.
وكان وزير الصحة قد قال إن الشابة المصابة قادمةٌ من بريطانيا إلى سوريا عبر لبنان، وإنها موجودة الآن في دمشق، إلا أن تناقضاً في التصريحات الرسمية بخصوصها قد حصل، إذ قال وزير الصحة إنها كانت من ضمن الموضوعين في الحجر الصحي، ليعود مدير صحة ريف دمشق ويقول إنها لم تكن من ضمن المحجورين، كما أنه لم يصرح عن المشفى الموجودة فيها. لكن ما أطلق موجة هائلة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، كان إعلان وزير الصحة بعد أقل من ساعة أن المُصابة تتماثل للشفاء. ويمكن بسهولة لمن يتابع تعليقات السوريين في الداخل، بمن فيهم مؤيدون للنظام، أن يرى مدى تدني ثقة عموم السوريين بالنظام وإعلامه ومؤسساته، التي يبدو أنها تسعى لإخفاء كثير من الحقائق التي يعرفها الجميع، مثل كثافة الحركة العسكرية الإيرانية في سوريا، وخطوط تنقلاتها بين سوريا وإيران ولبنان والعراق على نحو لا يتم ضبطه. ولعل انعدام الثقة هذا هو ما دفع النظام للإعلان، عبر صفحة وزارة الداخلية، في الثالث والعشرين من شهر آذار الجاري عن وجوب استقصاء الأخبار المتعلقة بانتشار المرض من المصادر الرسمية فقط، وعن أنه سيتم رصد ومتابعة كل من يقوم بنشر أخبار كاذبة وملفقة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، من شأنها إثارة الخوف والهلع لدى المواطنين، وملاحقتهم واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
موجة إشاعات في حمص
قبل حوالي عشرين يوماً من الآن، كُنّا قد حضرنا أنا وزميلاتي في العمل عزاءً لوالدة إحدى الزميلات، التي أُخبرنا بداية أنها توفيت جراء جلطة دماغية، لكن أثناء التعزية عرفنا أن المرأة السبعينية توفيت نتيجة «ذات الرئة» التي أصيبت بها قبل فترة قصيرة، لتتوفى بعد أيام من وضعها في العناية المركزة. دبّ الهلع فينا نحن اللواتي حضرنا العزاء، وقمنا بمراسم التعقيم والتطهير اللازمين لهكذا أمر، رغم أن ذويها أكّدوا أن المتوفاة كانت خالية من الأمراض، وأن الأطباء أكدوا إصابتها بذات الرئة.
لن نعرف أبداً إن كانت السيدة التي توفيت مصابة بكورونا، أم أنها ذات الرئة فعلاً، حيث لا يوجد حتى الآن أي مشفى أو مركز صحي داخل مدينة حمص لديه إمكانية كشف هذا المرض، رغم إعلان مديرية الصحة مؤخراً عن تجهيز مشفى الوليد لاستقبال الحالات المشتبه بها، وعن تجهيز مركز في حي بابا عمرو للحجر الصحي؛ بل يتردد أن الكشف الدقيق على المرض لا يوجد إلا في دمشق بتكلفة 350 دولاراً، كما ذكر أحد العاملين في مجال الصحة هنا، إضافة إلى أن الإشاعات والمعلومات، التي تتناقلها الألسن وصفحات فيسبوك ومكالمات الأقارب اللاجئين في الخارج هي المصادر الأساسية للمعلومات بالنسبة لأهل المدينة، في ظلّ شح المعلومات من الإعلام الرسمي.
قبل إعلان نظام الأسد المفاجئ عن إجراءات لمنع تفشي المرض، ثمّ إعلانه أخيراً عن وجود إصابات مؤكدة وصل عددها إلى خمسة حتى كتابة هذه السطور، تعالت الأصوات هنا مطالبة بالحديث بشفافية عن حقيقة وجود إصابات في سوريا وعن عددها، وبدأ يظهر، للمرة الأولى، تذمر علني من وجود الإيرانيين الكثيف في البلاد، بينما بلدهم واحدة من البؤر التي عصف بها المرض أكثر من غيرها. كان من غير المألوف أن تجاهر عدة صفحات مؤيدة بالمطالبة بإيقاف الرحلات الإيرانية البرية والجوية إلى سوريا، وعلى وجه الخصوص الرحلات البرية عبر العراق، التي يؤكد أصدقاء قاطنون في دمشق أنها لا تزال مستمرة حتى الآن.
ومع وصول الخوف الكوني إلى سوريا، طالعنا النظام بإقراره تدابير العزل لحماية «مواطنيه» من خطر انتشار المرض، بما في ذلك تأجيل السوقيات للتجنيد واستلام دفاتر خدمة العلم حتى الثاني والعشرين من نيسان. كما أن وزارة الصحة أعلنت أنها طلبت من السفير الصيني في دمشق إرسال فريق طبي إلى سوريا للاستفادة من تجربتها في احتواء كورونا والتدابير التي أجرتها في هذا المجال. وترافق ذلك مع انتشار شائعات عن احتمال تمديد العزل المفروض، وعن احتمال فرض حظر التجول في الفترة القادمة، وهو الأمر الذي تم تنفيذه لاحقاً بشكل جزئي من السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً، ما جعل الناس يشعرون بخوف مضاعف من الخطر المحدق بهم، رغم ما أعلنته الأخبار الرسمية عن الإجراءات الوقائية، وعن وجود حالات قليلة حتى الآن.
مؤخراً، طلبتْ إحدى الزميلات أن نحضر لها زجاجة «معقم كحولي»، لأنّه «مقطوع عندهم». بالفعل، أحضرتُ لها ما طلَبتْ. يقال الكثير عن فقدان المعقمات والكمامات وارتفاع أسعارها. والواقع، من حيث ما يمكن معاينته هنا، أن ارتفاع الأسعار حاصل كما في جميع أنحاء سوريا، حيث سعر علبة المعقم الكحولى بسعة 750 مل 3500 ليرة سورية إن وجدت، وسعر خمسين كمامة هو خمسة عشر ألف ليرة، وكل هذه الأسعار تمضي نحو الارتفاع بطبيعة الحال، مع تناقص وجودها في بعض المناطق حسب شدة الطلب عليها، ومنها المنطقة التي تقطنها زميلتنا تلك.
زميلتنا هذه من الطائفة العلوية، وقد يبدو الحديث عن الطوائف في هذا المقام نشازاً أو غير ذي فائدة، لكن ما يدفعني إلى الحديث بهذا الشأن هو واقع أن أكثر الخوف الحاصل هنا هو الخوف من العساكر، لا سيما أولئك الذين يحتكون مع الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين، وتحديداً الموجودين حالياً على تخوم إدلب وريفها، وكثيرٌ من هؤلاء من العلويين. من المؤكد، بطبيعة الحال، أن بين هؤلاء العساكر من هم من غير العلويين، لكن ما يحصل جاء نتيجة إشاعة مصدرها أحد العاملين الصحيين في أحد المشافي هنا في حمص، تتحدث عن إصابة بعض العسكريين وذويهم بالفيروس. وبطبيعة الحال لن يصيب المرض أناساً دون غيرهم، لكن الأمر يُحسب بمقدار الاحتكاك مع من يُظنّ بأنهم حاملي الفيروس، ويبقى الكلام كله في إطار إشاعة تتناقلها الألسن، وتنعكس تأثيراً مباشراً على أرض الواقع في ظل غياب الشفافية والمعلومات الموثوقة والمؤكدة.
حتى الآن، نتكلم عنّا نحن الأناس العاديون الذين يعيشون في النور، وتحت ضوء الشمس، أمّا أولئك الذين لم يروا الشمس ولم يلفح وجوههم ضوؤها منذ آماد طويلة، فإن لهم حديثاً آخر.
يوميّاً، كنت أمرّ أمام سجن حمص المركزي، وأمام مقرّ فرع المخابرات الجويّة. ويوميّاً، أحاول أن أتصور ما الذي يحصل خلف أسوار الموقعين، لا سيما فرع المخابرات الجوية، الذي كُتِبِتْ على جدرانه كثيرٌ من الشعارات التي تمجد حب القائد وحرصه على «مواطنيه». لا يمكن لأحد أن يعرف مصير المعتقلين إن، لا قدّر الله، وصل المرض إليهم. وكما طالت الإشاعات المتعلقة بالمرض أهل المدينة، كذلك طالت الإشاعات أهل السجون، ولربما يجدر بالمرء ألا يذكرها طالما أنها غير مؤكدة، وأن يفترض ويدعو أنّ المرض لن يطالهم أبداً، حيث لا عزاء الآن للأسر التي لديها ابن/ة أو زوج/ة أو أخ/ت في المعتقل.
ويتردّد كلام كثير آخر عن وجود إصابات بين المدنيين يجري التكتم عليها، وهم الآن متواجدون في بعض مشافي المدينة، وذلك نقلاً عن عاملين فيها، إضافة إلى إشاعات أخرى عن وجود بعض الإصابات في ريف حمص الشمالي. وأثناء تواجدي هناك منذ فترة قريبة، استطعتُ الذهاب لعدّة صيدليات بحثاً عن كمامات، لأتفاجأ بخلوّ جميع الصيدليات التي زرتها منها، لأن «اللبنانيين» نزلوا وأخذوها جميعاً من الصيدليات، حسب ما أخبرني الناس هناك. ومن المعلوم أن كثيراً من اللبنانيين يأتون إلى مدينة حمص وريفها بشكل متكرر، ومن معابر غير نظامية أحياناً، للتبضع بسبب انخفاض الأسعار مقارنة بالأسعار داخل لبنان. كذلك، تَحدَّثَ عدة أشخاص من ريف حمص الشمالي عن شخصٍ قيل إنه توفي بسبب كورونا، كما تم الحديث عن وضع عائلة في الحجر الصحي المنزلي. ولا يمكن التأكد من صحة هذا الكلام بأي طريقة، ويبقى كل ذلك في إطار إشاعات لا يجد الناس مفرّاً من تداولها في ظل التعتيم الشديد، لكن ما يمكن قوله أن الناس خائفون جداً، لا سيما مع تدني الرعاية الصحية هناك، وقلة توافر الأدوية والتحاليل العادية والأطباء، إذ يرفض الكثير من الأطباء الذهاب إلى الريف، ما يضطر الأهالي للسفر إلى مدينة حمص عند الحاجة لإجراء تحاليل أو زيارة طبيب مختص غير متواجد لديهم.
لا أحد هنا يثق بالنظام، حتى المؤيدون أنفسهم، إلى درجة أن بعضهم، بما في ذلك بعض الصفحات المؤيدة، يتناقلون مقالات من صفحات معارضة لمعرفة حقيقة الوضع، والوصول إلى معلومات أكثر دقة. كما أنه عند الحديث مع بعض المؤيدين، كان الواحد منهم إذا شعر بالأمان يهمس قائلاً بخوف «إنّ الدولة يستحيل أن تُصرّح عن العدد الحقيقي، وأنّه توجد إصابات كثيرة»، والمتفائل بينهم يقول «إنّي أُفضَّلُ أن تبقى الدولة تكذب علينا، لأنّه لا يوجد لدينا إمكانيات». عند الحديث مع زوجة ضابط في الجيش، قالت بكل وضوح إنها لا تثق بـ «الدولة» لأنهم «لن يقولوا الصدق ببساطة»، وقالت إن أخاها في أوروبا يتصل بها ويخبرها عن أعداد المصابين الحقيقيين. وفي مشهد آخر، أرسلت لنا مسؤولة في مكان عملي، وهي مؤيدة عتيقة للنظام، مقالاً في جريدة عنب بلدي يحكي عن وجود إصابات، وأوصتنا باتخاذ الإجراءات اللازمة. لم يعد خافياً الكذب والتعتيم وإخفاء الحقائق من قبل النظام، وكلّنا هنا نعلم ذلك، وأولنا أنصار النظام. لكن أحداً لا يجرؤ على الكلام، كما أن أحداً لا يعلم على ماذا نحن قادمون في مقبل الأيام بما يخص انتشار المرض. لعل هذا الأمر بالذات ينطبق على أهل الأرض جميعاً، لكن الأكيد، أنّ هذه هي المرة الأولى التي نتفق فيها نحن السوريون، في الداخل والخارج، أنّه ليس لنا في هذه الظروف «غير رحمة الله».
منذ فترة، كنتُ قد عاتبتُ بعض القراء في إحدى مقالاتي لكونهم بعيدين، لكن الزمن له قولٌ آخر دائماً؛ ها هو الوباء الذي فاجأ الجميع بانتشاره، وكأنه يسخر من أهل الأرض كلهم، جعلنا جميعاً على كفتين متوازيتين من الخوف والهلع وشبح الاقتراب من الموت. يحزّ في نفسي قول ذلك، لكن انتشار الوباء وهلع فقدان من نحبهم جعل كثيراً من إنسانيتنا على خطوة واحدة من الترقب والرعب؛ الخوف الآن يسحق المسافات بين من يسكنون سوريا ومن يسكون خارجها، بل بين البشر جميعاً. والأهم، أنه يسحق الاختلافات بين البشر أيضاً، لكن هذا الأمر ليس القاعدة، لن يكون الحزن نفسه إذا ما أصاب المرض من أمعن بالسوريين قتلاً وتهجيراً. وها هم أهل الشمال، لا سيما النازحون منهم، يعيشون الخوف مخاوف، والظلم ظلمات. وحدهم، هم والمعتقلون، المنسيون في فوضى هذه المعمعة الكونية، يملكون تعريفاً آخر للخوف والرعب والموت.