سطت سنوات الثورة السورية على الجانب الأعظم من اهتمامنا وطاقتنا، وأسست لمرحلة جديدة، بدا فيها ما قبل 2011 ظلاً في الخلفية، وأخذ في التلاشي، رغم الدور الأساسي لتلك المرحلة في إيصالنا إلى ما نحن فيه اليوم.
ونحتاج اليوم إلى مزيدٍ من الحديث عن مرحلة ما قبل الثورة، بأكبر قدر من العمق والاقتراب، ووضع ما جرى في 2011 في سياق تاريخي أشمل، يُتيح لنا ولسوانا فهم الخط العريض لتاريخ هذا البلد، الذي تحول خلال خمسين عاماً، بأهله ومقدّراته، إلى رهينة للثقافة العسكرية والبعثية التي حاولت ابتلاع المجتمع وتشويهه، ودفعته في النهاية إلى الانفجار غضباً، مثل بقية الشعوب العربية التي رزحت طويلاً تحت حكم العسكر والأنظمة الديكتاتورية المتشابهة.
في هذا السياق، تأتي رواية الصديق نبيل محمد، دورة أغرار، الصادرة عن منشورات المتوسط مؤخراً، لتُسلط الضوء على ما كان يجري في أجواء المؤسسة العسكرية والإعلام في «سوريا الأسد»، خلال الفترة السابقة لاندلاع الثورة السورية، تزامناً مع الأخبار الواردة عن ثورات الربيع العربي آنذاك، في مصر وتونس وليبيا.
تعرض هذه الرواية حياة عائلة الضابط أبو حسام، التي تعيش في العاصمة دمشق، وبطلتها بنت هذا اللواء، شوشو، أو شهيرة، التي تحلم بالدخول إلى عالم الإعلام وتقديم برنامج «بدو يكسّر الدنيا»، تستضيف فيه المشاهير، لتصبح بدورها واحدة منهم، يباهي بها أبوها الضابط أمام رفاقه الضباط، مثلما «يباهي بخصيتيه حين يجلس بأقدام مفتوحة قرب الضباط الأصغر منه، ويمتنع عن ذلك قرب الضباط الأعلى رتبة».
الرواية هي «زوم إن» على الأجواء العسكرية، والضباط وأحاديثهم الفيّاضة بـ«الحكم العميقة» التي ترسم صورة الوطن المنشود، حيث يتعاظم الولاء للقيادة التي «تتولى زمام الأمور في مراحل تاريخية حرجة من الصراع مع العدو الغاشم». وهي في الحقيقة أجواء الفساد العسكري، والترفيعات، والمحسوبيات، والخوف على الرتبة، وامتهان العساكر، وبناء تصورات مضحكة عن النضال والوطنية: «تنقل أبو حسام بين مختلف القطع العسكرية الميدانية في الجيش، كان شهيراً بصرامته وقدرته الفائقة على منع المجندين من النوم يومين متتاليين بسبب إتقانه فن العقوبات المستمرة التي كانت بنظره السر في جعل العسكري قوياً وصبوراً ومحباً لجيشه وقائده. يُعتبر أحد مكتشفي عقوبة قياس طول ساحات التدريب وعرضها باستخدام عود ثقاب، وأحد المطورين على الجاموقة… هو الضابط الوحيد الذي كثيراً ما كان يمارس العقوبة مع مجنديه. كثيراً ما كان ينسى أن ما يفرضه هو عقوبة وليس تمريناً رياضياً أو تدريباً عسكرياً، فيقوم باتباع ما يأمر به.. لقد نزل في الجاموقة خطأً وهو يُعلّم المجندين كيفية الغوص بها، وقد انبطح على الرمل الساخن أكثر من مرة بسبب اندماجه التام مع العقوبة. عشرات التشكيلات العسكرية في لبنان وسوريا تعرف اسمه».
دخول شوشو إلى هذا الوسط لم يكن مسألة غاية في التعقيد، فعلاقات والدها اللواء ستسهل لها ذلك. هي ابنة اللواء، التي لا ينبغي عليها الكفاح كثيراً للوصول إلى مسعاها، خلافاً لعامة السوريين، الحاضرين رمزياً بشخصية الشاب مدين، المُقعد على كرسيه المدولب، والذي يكافح بمرارة لإنجاز أبسط الأمور، مثل الخروج من المنزل، والدخول إلى الحمام، وذلك بعد أن صدمته سيارة ابن ضابط آخر، ثم تمت تسوية القضية وامتصاص غضبه عبر إيجاد وظيفة له بدوام مؤقت، في «دار الأسد». سيكون الأسدان، «الأب القائد»، و«الأخ القائد»، كما يسميهما اللواء، حاضران في تسمية معظم الأماكن، وفي أغلب الحوارات، مثل التماثيل التي تتوسط الساحات والميادين. هما موجودان في كل «قلب كل شيء بسوريا»، التي هي بدورها، «قلب العروبة الصامد، وقلعة الصمود والتصدي»، وفق ما يحلو للواء أن يقول دائماً.
نرى في الرواية سوريا التي كنا نعيش فيها، بكل الأفكار والمفاهيم البالية والبليدة التي فرضتها العقلية العسكرية. وكما في طوفان أميرلاي، ترشح من محاولات اللواء الفاسد، ورجل الأعمال الموالي للنظام، ومسؤولي الدولة، كوميديا تعكس السذاجة والرخص في تحديد ما هو وطني، كـ«مُلتفّ حول القائد»، وما هو غير وطني، ويصب في صالح القوى الإمبريالية، التي تُعتبر سوريا على «خط المواجهة» الساخن معها.
سوريا تلك، التي تظهر في المباني المتسخة، والإسمنت السوفييتي، ودوائر الدولة المتهالكة، والبزة العسكرية، وفروع الأمن، والمؤسسات الاستهلاكية، ودعايات فواز الجابر، والمدارس ذات الأسوار، وكتب القومية، ومخصصات الوقود، يحاول الكاتب الغوص فيها، عبر شخصياته، واضعاً أمام أعيننا ذلك الكوكب الذي يبدو بعيداً اليوم، والذي انسلخ عنه ملايين السوريين، بفعل الثورة لاحقاً، ليتحول إلى براميل وصواريخ وأسلحة كيماوية وزنازين وموت تحت التعذيب، حين أراد الشعب الانتفاض على البلادة. هذا الكوكب سيصبح مثاراً للاستهزاء لدى معظم السوريين في جلسات المنافي، رغم ذلك الشعور بالحسرة، الذي يخلقه تمكّنُ النظام من انتزاع السيطرة مجدداً على معظم الخريطة السورية، وإعادتها إلى حظيرته، فارضاً ذلك «التجانس» الذي حلم به، عبر إخضاع المجتمع للبسطار مرة أخرى، مقابل تقديم البلاد على طبق من ذهب لتتقاسمها الدول والجيوش.

تدخل شوشو إلى الوسط الإعلامي السوري بقوة، وسنعرف عبر احتكاكها بالعاملين والمشرفين والمدراء خبايا وقصص هذا الإعلام، الذي سيتألق ببلاهته وإجرامه بعد انطلاق الثورة، كذراع ضاربة للنظام، تخترع نظريات سقوط المطر لكتم أخبار المظاهرات، وتطلب من ضحايا المجازر المخضبين بالدّم تجريم أنفسهم على الهواء. تعرض الرواية ما يدور في أروقة هذا الإعلام، الذي كان منذ تأسيسه مادة للترفيه والتسلية بالنسبة لمن يمتلك الحد الأدنى من المنطق والقدرة على المحاكمة. سنرى سامر، البيغ بوس لقناة الوداد ورئيس مجلس الإدارة، هو ابن أحد المسؤولين الكبار، الذي يحاكي طبقة رجال الأعمال المقربين من النظام، وتربطهم علاقات عائلية ببشار الأسد، وهي الطبقة التي ظهرت مع استلام الأخير للسلطة نتيجة توريث حيتان النظام القديم النفوذ والثروات لأبنائهم. الطبقة التي تعيش حياة مُترفة وباذخة، بعد السطو على اقتصاد البلاد، والتمكن من وضع القطاع الخاص في الجيب، عبر سياسة المافيا الرسمية، بما في ذلك وسائل الإعلام الموازي، التي بدأت بالظهور خلال السنوات القليلة السابقة للثورة، وتبنت «خطاباً وطنياً»، يجعل التمييز بينها وبين الإعلام الرسمي صعباً، ففوهة المدفع ستخرج من هذه القنوات جميعها على السواء، حين يخرج السوريون إلى الشارع، وسيتنافس هذان الإعلامان، الرسمي والخاص، على التحول إلى أدوات فعالة في يد «السلطات المعنية»، للتوجيه ونشر البروباغندا الحربية، إثر اندلاع الثورة، بعد أن كانا قد أسسا قبلها قلعة حصينة، لا تظهر فيها وسيلة إعلامية واحدة تعارض السلطة.
هو الوسط الإعلامي، الذي يعمل مُكملاً للماكينة العسكرية في الاقتحامات، ويسابقها في الفساد المشوب بلوثة من الكوميديا، استطاعت عين الكاتب التقاطها، في علاقة الضابط بمجنّده، القائمة على الاستغباء والبلف وشراء الإجازات بوحدات الموبايل، وعلاقة البيغ بوس مُدعي الثقافة والنخبوية، بموظفي القناة، البارعين في المنافسة والمكائد، ثم في علاقة الوزراء والمسؤولين بعامة الشعب. كل هذه العلاقات ترتبط بخيط متين وتتجه إلى مركز واحد، يوزع عليها الإسفاف بالتساوي، وهو الرئيس الشاب، الذي استلم دفة القيادة من والده، ومن ورائهما حزب البعث، بمنطلقاته النظرية العتيدة، التي استطاعت إلقاء هالة من الرداءة على امتداد خريطة البلاد.
تمكنت الرواية من رصد الأنماط التي خلقتها «سوريا الأسد»، وسلّطت الضوء على مصائرها التي تتدافع، وصولاً إلى نقطة التحول الكبرى، وهي الثورة السورية، التي يصمت عندها الجميع كمن تلقى صفعة مفاجئة، مع بدء عموم السوريين بالخروج عن عصا الطاعة، عبر أصواتهم الصادحة في الشوارع، ناسفين نهج النظام التاريخي في تدجين المجتمع، وسيكون هذا، بالضرورة، خلافاً لما كان يحلم به اللواء، الذي «يبتسم كارهاً التنويعات في أثاث المنزل. كؤوس ملونة وصحون متنوعة وفناجين. علب محارم تحمل أسماء مختلفة لا تنتمي لما عاشه هو وزملاؤه عندما كانوا ضباطاً صغاراً.. يتحسّر على فناجين القهوة ذات الشكل والواحد وعلب محارم كنار الموجودة من شرق سوريا إلى غربها في كل منزل، وكبريت الحصان، ذو الغلاف المميز الذي يباع قسراً مع بونات الأرز والسكر، كان يعشق ذلك التشابه فقد كان كل الناس مثل بعضهم وكل أثاث وأدوات المنزل من نبع واحد».
من ضاحية الأسد، حيث تعيش شوشو، إلى المزة 86، حيث تعيش خالتها، تضيء الرواية على تلك الأحياء، التي حاوطت العاصمة بعد استلام حافظ الأسد للسلطة، وكانت مسكناً للضباط والعاملين في الجيش والمخابرات. تدور ثمة نقاشات بين الضابط أبو حسام، وسومر، ابن خالة ابنته شوشو، الرافض للالتحاق بالمؤسسة العسكرية وزج الطائفة العلوية بهذا السلك الفاسد، هي حوارات تُعرّج على الاختلاف الطبقي وتضارب الرؤى في تلك الدائرة الضيقة، لتمتد وتصبح أكثر حدة مع ورود أنباء الثورة المصرية، وتصاعد التوقعات بامتداد موجة الربيع العربي إلى سوريا، حيث سُيبدي سومر حماسه لإسقاط مبارك، ويتوقع امتلاء ساحة الأمويين على طريقة ميدان التحرير، فيما سيكون الضابط متسلحاً بنظرية المؤامرة، متوعداً بـ«تفعيس» من يتجرأ على معارضة القيادة إذا لزم الأمر.
اللواء، الذي يتوعد بسحق من يتمرد على النظام، ينسى أنه لا يملك الصلاحات لفعل ذلك، فهو قد تسرّح من الخدمة العسكرية، بسبب رفض ابنته شوشو الزواج من ابن «اللواء المغوار»، المسؤول عن جدول الترفيعات في قطاع الجيش، إضافة إلى إصابته بمرض السكري وتراجع حالته الصحية. كل هذه الانهيارات تتزامن مع بعضها في حياة عائلة الضابط أبي حسام خلال فصل الرواية الأخير، الذي يحمل اسم «العجز». فشوشو أيضاً، التي أصبحت نجمة، ستتورط بالدخول في حديث سياسي، تناولت فيه ما يجري في مصر بعد سقوط مبارك، وتساءلت إن كان من المتوقع انتقاله إلى سوريا، فاتُّخذ قرار بإيقاف برنامجها. فيما أصبحت أمها على الكرسي المدولب، بسبب حادث تعرضت له، وهو الكرسي المدولب ذاته الذي كان الشاب مَديَن أسيراً له، وتمكن من التخلي عنه في المشهد الأخير، مع الأخبار التي تذاع عن بدء الاحتجاجات في محافظة درعا. حينها، ستقرر عائلة الضابط التخلي عن طبق الفول الشامي، الذي واظبت على تناوله في يوم الجمعة، عائدة إلى حصنها القديم، ذلك أن يوم الجمعة، من الآن فصاعداً، سيحمل تسميات مختلفة، لا يحبها اللواء المُغتاظ، الذي يأمر بتغيير القناة إلى الفضائية السورية: «قال كرامة قال».