لا تزال التفاهمات الروسية التركية حول الاتفاق الأخير غائمة، إذ لم يتم الإعلان عن أي آليات تطبيق مطمئنة لسكّان إدلب وريفها، غير أن التحليلات تتفق في معظمها، بحسب ما فُهِمَ من الاتفاق، على أن المناطق شمال وجنوب طريق حلب- اللاذقية (M4)، بعمق ستة كيلومترات في الاتجاهين، ستكون تحت إدارة مشتركة روسية تركية، مع تسيير دوريات مشتركة أيضاً لضمان سير الاتفاق.
ووفقاً لهذا الفهم، فإن الاتفاق يعزل قرى وبلدات جبل الزاوية وأريحا عن بقية المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في الشمال السوري، خاصة مع تواجد قوات النظام التي تحيط بهذه المنطقة من ثلاث جهات باستثناء الجهة الشمالية، الأمر الذي يُثير مخاوف السكان من احتمال خسارتها أو حصارها عند انهيار الاتفاق، الذي يرون أنه غير واضح المعالم، بالإضافة إلى انعدام الثقة بروسيا والنظام اللذين لطالما خرقا جميع الاتفاقيات، وهو ما يحصل فعلياً الآن، إذ ما تزال قوات النظام تستهدف مناطق من جبل الزاوية بشكل متقطع شبه يومي.
تغيب الحياة عن معظم هذه القرى والبلدات بعد حملات النزوح خلال الأشهر الماضية من العام الحالي، وتفيد الأحاديث التي أجرتها الجمهورية مع عدد من سكان المنطقة بأن المتواجدين فيها ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول يشمل أولئك الذين لم يغادروا قراهم وبلداتهم أصلاً خلال الأشهر الماضية، وهم قلّة من الشبان في القرى البعيدة عن خطوط التماس أو في مناطق على أطراف المنازل السكنية التي تتعرض للاستهداف، أغلبهم من الذين رفضوا الخروج من مناطقهم بغرض الدفاع عنها، أو بغرض حراسة منازلها من السرقات المحتملة، بالإضافة إلى بعض العائلات القليلة التي لم تمتلك القدرة على النزوح بسبب الظروف الاقتصادية التي تعيشها.
القسم الثاني هو العائلات أو الشبان الذين نزحوا لكنهم ما يزالون يترددون على قراهم بشكل متقطع، ومنهم موسى الأسعد من إحدى قرى جبل الزاوية، الذي قال إنه يتردد برفقة بعض الأشخاص بشكل أسبوعي للاطمئنان على منازلهم من جهة، ولجلب بعض الحاجيات لعائلاتهم النازحة من جهة أخرى، خاصة وأن ظروف النزوح الأخيرة لم تترك لهم الفرصة لاصطحاب معظم ما يلزمهم، وهو ما يشرحه الأسعد قائلاً إن أفراد عائلات كثيرة، منهم أفراد عائلته، خرجوا بثيابهم فقط نتيجة القصف. كذلك يعود بعض المزارعين للاطمئنان على مواسمهم ورعاية حقولهم، أملاً في الحصول على مواسمها إن استمرّ تنفيذ الاتفاق.
أما القسم الثالث فهو يشمل قلّة من العائدين إلى بيوتهم بعد توقف المعارك، إذ شهدت بعض القرى والبلدات عودة جزئية لبعض العائلات. وقال فريق منسقو الاستجابة إن عدد العائدين في عموم قرى ريفي إدلب وحلب قد بلغ 34766 نسمة حتى التاسع والعشرين من آذار (مارس) الماضي، وذلك من إجمالي عدد النازحين البالغ نحو مليون نسمة خلال الحملة العسكرية الأخيرة، أي أن العودة لا تتجاوز ما نسبته 3.34% من النازحين.
تقول سيدة تسكن بالقرب من قرية بزابور شرقي جبل الزاوية، إن السبب الرئيسي وراء عودة بعض العائلات يرجع إلى الظروف الصعبة التي عاشوها في رحلة نزوحهم، إذ انعدمت فرصة الحصول على منازل للإيجار، وإن وجدت فهي بأسعار مرتفعة لا يمكن تأمينها، إضافة إلى صعوبة الحياة في المخيمات العشوائية وقلّة الخدمات، وتصف ما عاشته بأنه «حياة الذل»، وهو ما دفعها وعائلتها لاتخاذ القرار بالعودة، خاصة مع الهدوء النسبي الذي تعيشه المنطقة.
كذلك يقول محمد الصبحي، أحد النازحين سابقاً من ريف إدلب الجنوبي إلى جبل الزاوية، إنه اضطر للعودة من مكان نزوحه الثاني إلى مكان نزوحه الأول في جبل الزاوية، وذلك نتيجة عدم قدرته على تأمين مكان خاص بالمواشي التي يمتلكها، والتي تمثل مصدر رزقه الوحيد، ونتيجة الأكلاف الباهظة التي يحتاجها من أجرة للمكان وطعام للمواشي، بينما حقق له فصل الربيع في جبل الزاوية مكاناً مستقراً لمهنته في الوقت الحالي.
وسائل الحياة معدومة
لا تتوافر في القرى والبلدات التي هُجِّرَ منها سكانها أي مرافق عامة أو خاصة، كذلك أقفلت المحال التجارية والخدمية، ولا توجد أي نقاط طبية عاملة أو مشافي أو مدارس أو أفران خبز أو شبكات انترنيت، وتغيب الكهرباء والمياه وتنتشر الأنقاض في مختلف الطرق الرئيسية وليس هناك أي وسائل نقل عامة، وهو ما يحول دون عودة مرتقبة للسكان.
وتعتمد العائلات المتواجدة هناك على آبار المياه للحصول على مياه الشرب، وكذلك يعتمد بعضهم على ألواح الطاقة الشمسية للكهرباء، بينما يحصلون على الخبز من خلال التوجه نحو الأفران في المناطق شمال الطريق وتأمين حاجياتهم لأيام قليلة. يقول مصطفى العلي إن عدداً من أبناء قريته بليون، والقرى المجاورة لها، يذهبون أسبوعياً على دراجاتهم النارية لتأمين ما تحتاجه العائلات القليلة في المنطقة، وغالباً ما يتم تأمين هذه الحاجيات لمدة أسبوع تجنباً لكلفة الطريق المرتفعة.
أما المدن والقرى القريبة من الطريق M4 فقد شهدت عودة جزئية للحياة، ففي أريحا على سبيل المثال هناك فرن خبز عاد للعمل، وأعادت بعض المحلات التجارية فتح أبوابها من جديد، كذلك بعض بائعي الخضار واللحوم والفاكهة، وفيها شبكة إنترنيت عاملة.
تقول سيدة من قرية سرجة، الواقعة على أطراف جبل الزاوية قرب أريحا، إنها ومنذ عودتها إلى القرية تتجه رفقة زوجها إلى أريحا لتأمين ما يحتاجونه، وتخبرنا أن كل شيء متوافر في أريحا، فيما تخلو قريتها من «أي خدمات سوى بائعي البنزين والدخان».
يقول عمر صلوح، رئيس المجلس المحلي في أريحا، إن نحو سبعمئة عائلة عادت إلى المدينة خلال الأيام الماضية، إضافة إلى عودة جزئية لبعض العائلات التي تزور المدينة لساعات أو أيام ثم ستعود إلى أماكن نزوحها، وإن المجلس قام بتأمين بعض الخدمات الأساسية كأعمال النظافة وفتح الطرقات وإزالة الأنقاض، وبعض الإصلاحات الجزئية في المرافق العامة.
يضيف الصلوح إن عودة الكهرباء (الأمبيرات) والمياه مرتبطة بوضوح الرؤية بالنسبة للوضع الأمني، إذ «لا يمكن التكهن في المدى المنظور بما يمكن أن يحصل، وفيما إن كانت الاتفاقية ستُطبّق فعلاً أم لا»، رابطاً عودة الأهالي بضمان الأمان وعدم دخول جيش النظام إلى المدينة.
من جهته، يقول أحمد زنكلو رئيس المجلس المحلي في قرية أورم الجوز غرب أريحا، إن عدد العائلات التي عادت إلى القرية نحو مئتي عائلة، تم إحصاؤها في الأسبوع الماضي، وإن المجلس المحلي قام بالتواصل مع المنظمات الإنسانية لتأمين مقومات حياة للعائدين من غذاء واحتياجات أساسية، وتنظيف البلدة وإزالة الأنقاض، إلا أنهم لم يحصلوا سوى على الوعود.
يضيف زنكلو أن ثمانين بالمائة من أبناء البلدة يعيشون تحت خط الفقر، خاصة مع النزوح الذي استنزف مواردهم، وهو ما يدفعهم للتردد بالعودة، فالمواد الطبية غير متوفرة، كذلك شبكة المياه التي توقفت عن الضخ. وتعتمد العائلات المتواجدة حالياً في أورم الجوز على الآبار الخاصة وشراء الصهاريج، ويتوقع زنكلو عودة الأهالي في حال حصلوا على تطمينات بعدم دخول قوات النظام إلى المنطقة بموجب الاتفاق، بالإضافة إلى تأمين الخدمات الأساسية لهم.
الأهالي لن يعودوا
يقول من تحدثنا معهم إن العودة مرتبطة بوعود وضمانات غير متوافرة، وأنها يجب أن تبنى على الثقة، وهو أمر مستحيل في ظل الظروف الحالية، إذ تنعدم الثقة بالجانب الروسي، وكذلك بقدرة الحكومة التركية على حمايتهم في حال خرق الاتفاق.
في حديثه، يُرجِع أحد أهالي قرية بليون في جبل الزاوية عدم العودة إلى خوف السكان من الحصار، فـ«معظم العائلات لم تنزح هرباً من القصف الذي اعتادت عليه طوال السنوات التسع الماضية، إنما للخوف من الحصار الذي بدأت ملامحه بالظهور مع التفاف قوات النظام حول مناطق جبل الزاوية». وهو يرى أن الاتفاق بشكله الحالي يعطي الفرصة لقوات النظام بحصار المنطقة دون معركة، خاصة مع فرض المنطقة منزوعة السلاح وهو ما سيؤدي إلى غياب المقاومة أيضاً، التي وإن لم تكن ستنجح في صدّ النظام، فإنها على الأقل ستؤخّر تقدمه وتمنح الوقت الكافي لنزوح السكّان.
يرى آخرون أن تأمين الدعم اللازم لإعادة البنية التحتية والمرافق العامة سيشكل حافزاً على العودة، فمعظم السكان يعيشون حالة من انعدام الدخل وفقدان فرص العمل، إذ تؤمن المخيمات جزءاً من الاحتياجات الأساسية للنازحين كالسلل الغذائية والنظافة، إضافة للماء والكهرباء، وتلك الخدمات الأساسية مفقودة في قراهم بعد تدميرها خلال المعارك الأخيرة.
عودة الأهالي هي الحلّ الوحيد للتخفيف من قسوة الظروف التي يعيشها مئات الآلاف في المخيمات، غير أنها تحتاج إلى ضمانات دولية واضحة بخصوص الحدود التي من الممكن العودة إليها، وإلى ضمانات بعدم خرق الاتفاق، وهو ما كان غائباً عن الاتفاقيات القديمة كافة. كذلك تحتاج عودة الحياة إلى ترميم وإعادة إعمار المرافق العامة والخدمية، وهو ما يحتاج دعماً أممياً، وذلك بهدف التخفيف من حدة الكارثة التي تتفاقم في الشمال السوري، خاصة مع الخطر القادم بانتشار فيروس كورونا، وغياب القدرة على مواجهته نتيجة الازدحام في المخيمات ومراكز الإيواء.