قبل أن يتفتح وعي الرضّع على لغات أهاليهم، يستخدمون الصراخ لغةً موحدةً وفعّالة لاحتياجات وجودهم. وتغيب هذه اللغة البدئية تدريجياً مع تعلم الأصوات المتسلسلة، وتبنى لغتهم من الدوائر المجتمعية المحيطة. ومع هذا فالصراخ، الذي يتفكك ويتحول مع الوقت إلى تواترات صوتيّة تتفاعل مع المحيط حتى تصبح لغةً مُدركة لتلك الدوائر، يعود دائماً إلى حالته الخام عندما تعجز اللغة عن إيصال ما نريد. لا يرتبط هذا العجز بالعمر، بل بالتجربة والدراية باللغة. وفي اللحظة التي نفقد فيها القدرة على النقاش أو الحوار، متشنجاً كان هذا الحوار أم حميمياً، أي على أن نعيد تشكيل الهواء أصواتاً تعكس ما نريد، فإننا نخسر اللغة ونذهب إلى أصوات مكتومة أو صارخة، تعكس العجز الذي لا نفهم كيف انتهينا إليه.
هذه اللحظات الحدّية التي نصل إليها قد تكون قليلة في دوائرنا الأولى، لأن اللغة التي تعلمناها من المحيط لم تحتوِ فقط على أصوات التواصل، بل حملت معها أيضاً تاريخاً متراكماً من الثقافة وطرق التفكير والقوالب الجاهزة من الجمل التي تختصر نتائج مسبقة لأحداث مشابهة، فتُستخدم كمعادلات معروفة لا تحتاج إلى تفاسير أو شرح في تلك الدوائر. وما أن نخرج من دائرة إلى أخرى، فإننا سنواجه حواجز التواصل والتفاعل الإنساني، الموجودة أصلاً ضمن المشتركين باللغة الأم، وتتزايد وتتعقد في التواصل والتعايش مع دوائر من لهجات مختلفة ولغات أجنبية لا تعني معرفتنا بها قدرتنا على التواصل بمستويات متعددة فيها.
لغة مشتركة لا تكفي
عندما انتقلت من دمشق إلى الأردن في عام 2013 بدأتُ بشكلٍ لا إرادي أغير لهجتي «السورية البيضاء»، عندما أتحدث مع الأردنيين، إلى لهجة الجنوب السوري -أصلي العائلي- وعندما كنتُ أتحدث مع الفلسطينيين أيضاً كنت أحور لهجتي إلى لهجتهم، تأثراً بمحيطي الفلسطيني في دمشق خلال سنوات تعليمي الأولى. ولا شك أن هذا الأمر قد ساعد على توسيع علاقاتي وتعميقها.
ولعلَّ سبب ذلك يعود إلى رغبتي في تجنّب آثار النظرة المسبقة الناتجة عن كوني سورياً قدِم إلى الأردن بعد الثورة، فحتى وإن كان سؤال الهوية حاضراً في بداية أي حوار، إلا أن ثمة حاجزاً يتهدّم قبل بناء حكم أولي، يدفع الآخر إلى تغيير طريقة تواصله. الجانب الآخر لردة فعلي اللغوية اللا إرادية كان التفكير المتواصل في الهوية الذاتية، وكيف تتغير مع هذه التبديلات اليومية. وكانت العودة إلى الهوية اللغوية الأولى، لهجة العائلة والحارة، مرتبطة بالإشكاليات العنصرية. أذكر أني فور صعودي لإحدى سيارات الأجرة في عمّان بادرني السائق بشتيمة للسوريين الذين ملأوا البلد، وكيف أن الأردنيين يسعون فقط للزواج بسوريات لا من أبناء بلدهم. حينها كان تواصلي معه مختلفاً تماماً عن تواصلي مع أي شخص آخر هناك، ولأول مرة منذ وقت طويل بدأتُ الحديث باللهجة الشامية الخالصة، مجيباً إياه بهدوء وإحصاءات بالأرقام تلجم عنصريته. تلك الحادثة، وغيرها، كانت أيضاً تدفعني للتفكير بأنّ هناك ثقة متبادلة مع عموم المجتمع تقود إلى هذا التداخل في اللهجات، والحالات التي تطرفت بها إلى لهجة «المنطقة الأم» كردة فعل على تطرّف مقابل، كانت قليلة.
التحول إلى هلامي
مع انتقالي إلى ألمانيا منذ ثلاثة أعوام، بدأت أسئلة اللغة تتكاثر في رأسي مع الوقت، الوقت الذي أصبحت أمضي معظمه دون التواصل مع الآخرين. تحولتُ من شخصٍ يمضي يومه متنقلاً من مكانٍ إلى آخر، متواصلاً مع العشرات في عمّان، ومخلفاً أعداد هائلة من الأصدقاء والمعارف فيها، إلى كائنٍ يقطن بمحاذاة الغابة ولا يتواصل مع الناس إلا في ما ندر. وهذا لأنني غير قادر على التواصل مع سائق الباص حول الطريق، أو حول قضايا الكتابة والعمل مع المسؤولين الثقافيين في المؤسسة التي منحتني الإقامة هنا.
حتى وإن كانت اللغة الإنجليزية لغة تواصل مشتركة مع بعض الأشخاص، إلا أن ثمة تساؤلات أولى كانت تخطر لي عن كيف ينظر إليَّ هؤلاء الذين أحادثهم بالإنجليزية؟ أنا أتحدث بلغة ثانية بطريقة محايدة هدفها إيصال المعلومات، إنه لا يسمع صوتي ولا يعرف مفرداتي التي أستخدم، ولا اللحن والتلوين في الحديث الذي يعكس جزءاً من صوري.
كان في ذهني الكاتب الألماني ألفريد دوبلن، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة إبّان الحكم النازي، حيث تحدث عن هذا الشعور بالعجز والانمحاء في مجتمع لا يعرفك ولا يعرف لغتك، حيث قال: «لا نحتاج إلى الآخرين كي نتنفس أو نمشي أو نأكل أو ننام. ولكننا نحتاج إليهم في التحدث وكي يعكسوا لنا ما قلناه. فاللغة صيغة من حب الآخرين».
تعقيد فكرة اللغة في رأسي جعل من الصعوبة بمكان أن أبدأ تعلم اللغة الألمانية، وكنت أستهجن دائماً ما يدفعني إليه الأصدقاء الذين بدأتُ التعرف عليهم، خاصة الألمان منهم، بنصيحتهم لي أن أرتبط بامرأة ألمانية لأتعلم منها اللغة. هذا الأمر كان وما يزال بالنسبة لي شيئاً غير أخلاقي، إذ أنّ أي علاقة قد تحمل عمقاً ما يجب -بالنسبة لي- أن تبني لغة تواصل يمكنها عكس أفكارنا وكوامننا. وحتى بعد أن بدأتُ تعلم الألمانية، لم أستطيع أن أتحول من الانجليزية أو العربية في أحاديثي مع أصدقائي إلى الألمانية، ولم يرتبط الأمر بالخجل من اللغة أو الرغبة في تطويرها، بل من فكرة أن التواصل الإنساني يجب أن يكون بأفضل لغة أستطيع التواصل فيها، كمحاولات مستمرة لفرض وجودٍ يقارب ماهيتي الحقيقية بلغتي الأم.
نحب بلغتنا، نكره بلغة الآخر.. ولكن كيف نمزح
على خلاف إثبات الهوية في المواقف العنصرية باستحضار اللهجة الأم، كان الأمر عكسياً بالنسبة للغة، ففي تواصلي المستمر مع صديقةٍ أميركية تتحدث العربية، أستخدم العربية في الأحاديث المرحة أو الحميمة، ولكن عندما ندخل في صراع ما فإنني دائماً ما أذهب لاستخدام الإنجليزية، الأمر الذي غالباً ما تفعله هي أيضاً. في السكينة نستطيع ونريد أن نرى ويرانا الآخر بلغتنا التي تحمل مكوناتنا وتاريخنا الذي يحتاجونه لمعرفتنا، أما في الغضب، فقد كان البحث دوماً عن الوسيلة التي يفهمها الآخر… والتي، عندما تتعقّد كثيراً، نعود إلى لغتنا الأولى: الصراخ، أو الصمت.
محاولات التواصل وإيجاد حلول لفجوات اللغة تعددت وبنت جسوراً تصل بالآخر، حتى أنني كنت أستمتع بالاستماع إلى الأصدقاء الألمان عندما يتحدثون مع بعضهم بعضاً بالألمانية التي لم أكن أفهمها، إلا أنني أحاول إسقاط تلك الأصوات وتواتراتها عليهم عندما يتحدثون معي بالإنجليزية. وكانوا هم أيضاً يستمتعون بقراءتي لمقاطع باللغة العربية حتى وإن لم يفهموها، الأمر أشبه بالاستماع للأغاني بلغاتٍ لا نفهمها. إلا أنّ هناك فجوات لم تُردم، وبعضها لن يردم أبداً، كالأمثال الشعبية وإحالاتها، والنكتة برابطتها القوية مع اللغة وسرعة البديهة. كأن أقول بعفوية لصديق أجنبي أن عيونه خضراء لأنه ينظر إلى النساء كثيراً، فيجيبني بالنفي لأن عينيه زرقاوان. أو أن يشتد نقاش حول اللاجئين، وتقول صديقة لآخر «اخلع بزتك البنّية»، لأوقفها مع فورة غضبها مستفهماً عما يحيل إليه ذلك القول.
ولها منافع أخرى
تقول صديقتي غير العربية: «من الجيد أننا نتحدث بلغة وسيطة، على الأقل معك أنا أفكر قليلاً بما أريد قوله قبل أن أنطقه». التفكير هنا لا يقف عند نقل المعنى، بل يمتد للتفكير بمستقبِلات الآخر. يؤمن بعض اللغويين بأن «اللغة هي ما يتحدثه الناس وليس، كما يظن بعضهم، ما ينبغي أن يتحدثه الناس». ومع تداخل المجتمعات توازياً مع التكنولوجيا وسرعة الانتقال والهجرات، فإن اللغة التي كانت واحدة من أهم أعمدة بناء أي جماعة وبسط نفوذها مع تعزيز قداستها، تنفتح الآن على الآخر مع تعمّق المعرفة باللغات المختلفة إثر التفاعلات الثقافية والمجتمعية، وتؤسس لتجانسات جديدة تستند إلى كون اللغة أداة، لا سلاحاً فاعلاً لحزب أو إيديولوجيا أو مجتمع في سبيل بسط نفوذه. إن مفردات عربية قليلة بات يستخدمها بعض الألمان حتى ما بين بعضهم، مثل «يلا» و«حبيبي» و«إن شا الله»، تُعَدُّ تأثيراً عظيماً/مرحاً من مجتمع يقوم بدبلجة أي منتج يأتيه من الخارج إلى لغته، إذ أنك لا تسمع في التلفاز أو في شاشات السينما إلا اللغة الألمانية.