لا أذكر أي عام بالتحديد، كما لا أذكر عنوان الفيلم، لكنني أتذكر المكان: سينما الكندي. والمناسبة كانت مهرجان الأفلام الوثائقية. والوقت غالباً كان العصر، أو أول «ما تعتم العين». كان الفيلم الوثائقي يحكي عن حياة الأشخاص المصابين بالأرق، وماذا يفعلون في ساعات الليل عندما ينام الآخرون. لم يكن الأرق هو المرض في حياة هؤلاء الأشخاص، بل كان العارض أو المؤشر على مشاكل وأمراض أخرى تحدث في الجرح الأسود الخاص في عوالمهم الداخلية. لم أفكر بعد عرض الفيلم بالأبعاد الأخرى للحرمان من النوم، ولم يكن النوم بالنسبة لي إلا مرحلة الراحة لإعادة شحن الطاقة والعمل في اليوم الذي يليه، وبدا لي حتى وقت طويل أنه التفكير السليم للفرد المنتج. والسهر كان في أوقات مضت هو زمن التحرر والكتابة والمكالمات الهاتفية الطويلة. استمرَّ ذلك إلى أن جاءت أيام انقلبت فيها الآية، وصار الأرق هو حالة اليقظة الإجبارية التي تنفجر فيها المخاوف والأفكار السوداوية والغضب المنضبط خلال ساعات النهار، واضطررتُ حينها للتسلح بحبوب باندول نايت وسدادات الأذن القطنية لتُسكِتَ ضجيج الأصوات الداخلية التي لا تنام.
بالصدفة، وفي خضم الخصومات المتكررة بين ساعات النوم واليقظة، اهتديتُ قبل عام ونصف إلى كتابين عن النوم وتأملات في معانيه. أولهما كان كتاب النوم للكاتب المصري هيثم الورداني، والآخر كتاب لا نوم بعد الآن (No more sleep no more) وهو مجموعة محاضرات في ثمان فصول حررها الباحث والفنان الإيطالي دانيلو كوريالي، تتناول النوم من وجهات نظر علمية فيزيائية، وتاريخية وجندرية، وتعيد النظر في سياسات النوم على ضوء قوانين العمل في النظام الإنتاجي النيوليبرالي. الكتاب الأول يفكّكُ النوم أيضاً، لكن ليس بصيغة المحاضرات ولا بالاستناد إلى تجارب علمية أو مقابلات، بل من خلال نصوص قصيرة تتأمل النوم واليقظة، وتُعيد صياغة تعريفات النوم والنائم من وجهة نظر سوسيولوجية وذاتية في آنٍ واحد؛ وفي نصوص عدة أخرى لا يمكن تصنيفها، فيشعر القارئ بأن هذه النصوص هائمة تنوس بين النوم واليقظة، وأحياناً تحكي عن منامات وأحلام تكتسب معنىً جديداً عند إعادة رويها أو كتابتها.
وقد كان استرجاع هذين الكتابين في أيام الحجر الصحي ضرورياً لإعادة التفكير بالعلاقة مع النوم، التي اضطربت مجدداً بسبب توفر الوقت، وتخلخل دورة حياتنا اليومية لاختلاط مكان وساعات النوم مع مكان وساعات العمل، فصار لدينا متسع من الوقت للنوم، لكن أيضاً متسع من الوقت للتفكير بكل ما انشغلنا عنه بالأيام الماضية، مضافاً إليه القلق والتوتر من المستقبل القريب الذي ينتظرنا في حال طالت مدة الحجر الصحي.
تعود جذور العلاقة المضطربة مع النوم لأسباب كثيرة ومتداخلة، تتجاوز المساحة الخاصة والفردية وترتبط بشكل وثيق بالجانبين الاقتصادي والاجتماعي. فالنوم القليل كان على مدى قرون طويلة مؤشراً على نشاط الفرد وفعاليته الاجتماعية ومشاركته في بناء المستقبل الاقتصادي للبلاد، وظلّ النوم إلى يومنا هذا مرادفاً للكسل والبلادة. أحد الأمثلة القديمة التي تذكر في إحدى محاضرات كتاب لا نوم بعد الآن تعود إلى أفلاطون، مؤلف القانون، في تخيلاته للقوانين الاجتماعية في الدولة المثالية الأفلاطونية، حيث خصص نصاً عن النوم وحياة الليل، يذكر فيه ما معناه أن المواطن المثالي يجب ألا ينام، لأن النوم يفقدنا التواصل مع العالم الخارجي والمجتمع واللغة والتواصل والعقلانية، وأخيراً مع الدولة والسلطة. فالنيام، رجالاً ونساءً، لا نفع منهم، ولا يمكن التحكم بهم وهم خارج الحدود العقلانية. لذلك، ليس حال النيام أفضل من حال الموتى في الدولة المثالية. وكذلك الأمر في الثقافة العربية المدججة بالأمثال والأقوال عن فوائد قيام الليل والسهر في سبيل العلم والنجاح، ونوم الصرصور في الشتاء والصيف، وعين الأم الساهرة على راحة الزوج والأولاد، وعين الدولة الساهرة على مراقبة المواطنين وحمايتهم في حالة تنبه دائم لمواجهة العدو، ومواجهة المنفلتين من سلطة القانون.
النائم الفوضوي
«من هو النائم؟ عضو بتر من الجماعة؟ ذات وحيدة؟ جماعة صغيرة تستريح؟»لورداني، هيثم – كتاب النوم- دار الكرمة – القاهرة- 2017 في ثلاث نصوص قصيرة متتالية في كتاب النوم، يحاول الورداني أن يُعرِّفَ النائم الذي يغيب غياباً مؤقتاً عن الجماعة لكنه لا يتوقف عن الانتماء إليها. الفرق بين المستيقظ والنائم هو أن «المستيقظ يميل إلى الحفاظ على جسده الاجتماعي وتأكيد حدوده، أما النائم فينحو إلى تحوير ذلك الجسد وتعكير نقائه بفتحه على جسد أخر». وذلك لأننا عندما ننام نعود إلى ذاتنا ونكشف عن وجوه أخرى وهذيان منضبط في ساعات اليقظة. «فكل نائم هو جسد اجتماعي يهذي.». لا يمكن لأصحاب السلطة تحمل واستيعاب التحرر الذي ينطوي عليه فعل/لا فعل النوم، وذلك ما هو ظاهر في تأنيب أفلاطون السابق للنيام. النيام هم جثث حية ينتمون إلى اللامعقول، وهم خارج حدود الدولة وحدود النظام. لكن من حسن حظنا أنه لا يمكن تحدي الدورة البيولوجية للجسد ولا لغز النوم، وإلّا لحُرِّمَ النوم كلياً بموجب القانون، وذلك بهدف تشغيل الفرد بأعلى مستوى استطاعة لديه.
صوّرت ساعات النوم على أنها مرحلة الراحة التي تهدف لإعادة تنشيط الجسم بعدها، وهي استثمار جيد يصب في مصلحة الدولة والنظام الاقتصادي، وذلك في سبيل رفع إنتاجية العمّال ومضاعفة ساعات العمل. يتوقع المرء في المدن الكبرى التي لا تنام خدمات غير منقطعة 24/7 من سائقي القطارات والمواصلات العامة، بائعي المتاجر الكبيرة، مراكز الاتصال والخطوط الساخنة وغيرها من المراكز والوظائف التي يشغلها أناس يعملون في وقت النوم. في هذه الشروط، تكون حتى الكبوة الصغيرة على المكتب مخالفةً لقانون العمل، وأحياناً تهديداً لحياة الأفراد كما في حال سائقي التاكسي والمواصلات العامة.
وهناك نوع أخر من الأعمال والمشاريع التي لا تتطلب وجوداً شخصياً في مكان العمل، بل يمكن إنجازها في البيت، لكن هذه الأعمال تتطلب جهداً ذهنياً في وقت قصير. إنجاز هذه الأعمال سيكون مؤشراً على كفاءة العاملين وعلى مرونتهم. المرونة تعويذة بغاية الأهمية في نظام الإنتاج النيوليبرالي، فالجميع يحلم أن يصل إلى مستويات فائقة المرونة بحيث يمكن التواصل مع العاملين في أي وقت من أوقات النهار أو الليل، والذين بدورهم من المفترض أن يُظهروا استعداداً تاماً لتلبية نداء المدراء، ليبدو لنا جميعنا أن التضحية بساعات النوم والراحة هي ثمن مقبول في سبيل الحفاظ على مصدر الرزق.
الأمر مختلف في نواح عدة بالنسبة للنساء العاملات في قطاعات تتطلب منهنّ التواجد في ساعات الليل خارج منازلهن، وذلك ليس بسبب اختلاف بيولوجي في احتياجات النوم بل بسبب اختلاف في سياسات العمل. يتطرق كتاب لا نوم بعد الآن في إحدى فصوله إلى صورة المرأة وعلاقتها بالنوم في قصة الأميرة النائمة، التي يمكنها أن تمضي العمر نائمة بانتظار الأمير الذي يوقظها ويؤمّن احتياجاتها كاملة دون أن يتطلب ذلك منها جهداً. لم يعد هذا النموذج من التفكير في دور النساء سائداً اليوم، وصار مطلوباً من النساء الخروج إلى العمل بسبب الحاجة المادية التي تلوي ذراع الذكورة والمجتمعات البطريركية ، فبالرغم من أن النساء الصالحات يجب أن يتواجدنَ في البيت خلال ساعات الليل، إلا أن المناوبات الليلية بالنسبة للنساء قد تتخذ بعداً تحررياً وانفلاتاً مؤقتاً من سلطة الأب أو الزوج. في إحدى المقابلات في الكتاب ذاته، تذكر سيدة من الهند، تعمل في مركز الاتصالات، جانباً إيجابياً من عملها في المناوبات الليلية، حيث كانت في ساعات المساء في العمل بينما تمضي النهار نائمة، هذا التغيير في الدورة البيولوجية كان وسيلتها للتهرّب من مقابلة العرسان الذين يرشحهم والدها.
خصخصة النوم
من غير المنطقي، بعد استباحة ساعات النوم من قبل الأنظمة الرأسمالية الحديثة، أن يكون النوم فعلاً خاصاً لا يمكن حدوثه إلا في الحيز الحميمي للأفراد. المتعبون ينامون في المواصلات العامة؛ العجزة ينامون قيلولة الظهيرة على مقعد الحديقة في عين الشمس؛ الأطفال ينامون في السهرات الاجتماعية؛ والمشردون ينامون على الأرصفة، أما المعتصمون فينامون في الساحات. إذن لا يمكن أن يكون النوم هو مجرد فعل خاص وفردي. النوم في الأماكن العامة هو مشاركة حصيلة تعب النهار بأكمله مع الجسد العام، ومشاركة ألم الأفراد الصامت مع الجماعة، وهو تخلٍ عن زمام الأمور والبوح بمخاوف مستقبلية عن قلق العيش وهموم الأولاد وضيق الوقت، والاستراحة من التفكير بالآخرين. كل ذلك يحدث في اللحظة التي يسبل فيها أحدنا جفونه أمام الجموع المتفرجة. النوم هو الهدنة القصيرة مع الفضاء العالم، التي يتحول فيها الفضاء العام بحسب توصيف الورداني من «مجال للتفاوض والصراع إلى مجال للصمت والغياب. فيصبح الأخيران نشاطاً اجتماعياً وليس شأناً خاصاً. على أن النوم في فشله الاجتماعي لا يحول المجال العام إلى مجال للجفاء والتجاهل، وإنما -وياللغرابة- إلى مجال للثقة والاطمئنان».
خصخصة النوم وفرض القيود عليه والتحرر منها ليست متساوية بين الرجال والنساء، فلا شك أن فرص تحرر النساء من خصخصة النوم أقل بكثير من فرص الرجال، ليس لأن النساء متعبات بدرجات أقل، بل لأنه من الصعب الاستسلام وتبادل الثقة مع الآخرين في الأماكن العامة بعد تاريخ طويل من شيطنة الفضاء العام وممارسات سلطوية على أجساد النساء وحاجاتهن البيولوجية. فكل واحدة منّا تذكر عدد المرات التي توسلت فيها للأب أو الأم من أجل النوم في منزل إحدى الصديقات المقرّبات، وبالرغم من أنه «مكان خاص» إلا أنه خارج حدود البيت، ولذلك باءت أغلب هذه المحاولات بالفشل لأن البنات يجب أن ينمنَ في بيوت عائلاتهنّ أو عند أزواجهنّ. فماذا عند الحديث عن حلم التمدد على العشب في الحدائق العامة الذي كان مقتصراً على الرجال، لأنه من غير المقبول اجتماعياً ولا «أخلاقياً» أن تعيش امرأة لحظة الانفراج/التسليم في الحدائق العامة، حيث يصبح الجسد الممدد فرجة للمارّة ولتحرشاتهم اللفظية. في أوضاع متباينة، وفي بقاع مختلفة من العالم، لا يمتلك الجسد الأنثوي النائم في الأماكن العامة الخاصية التي يمتلكها الجسد الذكوري، والتي تسمح له بالطمأنينة والخروج المؤقت من الدور الاجتماعي والعودة إليه عندما يصحو.
بالنسبة للنساء، الأمر هو التالي: في اللحظة التي تسترخي فيها عضلات وعظام الجسد في المكان العام، تصبح النساء وعائلاتهن وأنسابهنّ وجمالهنّ مطرح تساؤل واستغراب. أذكر جيداً على طريق السفر من دمشق إلى اللاذقية ، ولمدة خمس ساعات متواصلة، لم تتجرأ صديقتي على النوم في البولمان، لأنها خشيت ارتخاء عضلات وجهها، ولم تحب أن يرى الجميع فمها محلولاً، أو أن يسيل اللعاب على جوانب فمها!
اليقظة اللئيمة
استُخدِمَت كلمة اليقظة، التي هي لحظة الصحو من النوم واستعادة الجسم لنشاطه، كتعبيرٍ مُستهلَكٍ يحيل إلى اليقظة الجماعية واستعادة الجماعة لوعيها السياسي وقدرتها على مقاومة المستعمر، أو إلى لحظة ثورية ولحظة تحول من واقع إلى آخر يعد بالتغيير الإيجابي. قد يبدو ذلك صحيحاً في تفسيرات مجازية وعلى ثورات تاريخية مختلفة، لكن هذه الاستعارة تنطوي على اعتبار أن الشعوب مستلبة لأنها كانت نائمة، وخارجة عن الوعي وهو سبب آخر لكراهية النوم، بحجة أن غفوتنا هي السبب في تسلط الدول والحكومات علينا. يمكننا في هذا الصدد طمأنة الجموع المرهقة و المستضعفة بأن السبات لم يكن سبب الهزيمة، بل كان نتيجة طبيعية وإنسانية للإحباط والخيبة من الفشل بالتغيير. غفوتنا هي لحظة الوعي والاستسلام لمعطيات الواقع وضخامة الوحوش التي نحاربها. من غير المنطقي أن تتحمل الجماعة النائمة مسؤولية الهزيمة أو خسارة معارك التغيير، في الوقت الذي تستباح فيه طوال ساعات النهار والليل في أماكن العمل والجامعات والبيوت. اليقظة المرجوة لا تحدث دفعة واحدة، كما لا يستيقظ الجسد من النوم دفعة واحدة. كما أنه من الصعب تحقيق انتصارات كبيرة بأجساد منهكة ومُنتهكة. وبحسب تعبير الورداني «النوم إذن هو ما يحمينا من الجنون أو الانتحار. الذات التي لا تنام ذات عصابية مهووسة بنفسها، والجماعة التي لا تنام هي جماعة مكابرة لا تستطيع تغيير الواقع لأنها تعيش منفصلة عنه».
يمنح النوم فرصة ذهبية ثانية لإعادة ترتيب الواقع في صباح اليوم التالي، أشياء كثيرة غريبة تحدث لنا أثناء النوم: نسقط من شاهق، يطاردنا أحدهم ويطلق علينا النار ولا نموت، بيوت ذات ممرات ضيقة تصل بين بيت العائلة وبيت الجدة وتتيح لنا التنقل بلمح البصر بين حقبة السبعينات والألفينات، اختلاجات سببها اختلال في التنفس أو استعادة غرق أحد الأصدقاء في بحيرة ما، نجد أغراضاً أضعناها ونلتقي مرة ثانية بالحبيب السابق، نرى وجوهاً لا نعرفها لكننا نعرفها في الوقت ذاته، نعيد كتابة امتحان الثانوية للمرة الألف. ونطفئ المنبه في المنام حتى لو ظلّ يرن لساعات.