بحلول الساعة السادسة و34 دقيقة بتوقيت غرينتش من مساء أمس الإثنين، شهد العالم حدثاً لم يعرف له مثيلاً في التاريخ، حيث هبطت قيمة العقود الآجلة (تسليم شهر أيار/مايو) لخام القياس الأميركي غرب تكساس الوسيط بنسبة 306%، أي بمقدار 55.90 دولار للبرميل، بعد أن افتُتحت الجلسة صباح الأمس عند سعر 18,27 دولاراً للبرميل. وكانت نتيجة هذا النهار المُظلم في تاريخ أسواق النفط الأميركية هي اضطرار البائعين لدفع مبلغ 37 دولاراً للمشترين، مقابل «تخليصهم» من برميل النفط الواحد. أما بخصوص سعر النفط الأميركي في تعاقدات تسليم حزيران (يونيو) القادم، فقد هبط أيضاً، ولكن من دون خسائر كارثية شبيهة بعقود أيار، إلى حوالي 20 دولاراً للبرميل، بسبب وجود آمال بتقليص حالة الإغلاق المرتبطة بوباء كورونا بحلول شهر حزيران، وعودة الطلب على النفط في الأسواق.
ما المقصود بعقود النفط الآجلة؟
تندرج العقود الآجلة بشكلٍ عام ضمن المشتقات المالية، التي يتم من خلالها الاتفاق على شراء أو بيع أصول مالية مثل أذونات الخزينة، أو سلع أساسية مثل القطن أو النفط، مع موعد تسليم يكون في تاريخ محدّد مستقبلاً. يتم تداول هذه العقود في الأسواق المالية، وينقسم المشاركون في بيعها وشرائها إلى متحوطين يسعون لتجنب الخسارة، ومُضاربين يسعون لجني الأرباح. وبالنسبة لعقود النفط الآجلة، فإنّ المضاربين على النفط يشترون كميات منه دون الحصول عليها فعلياً، ومن ثمّ يبيعون هذه الكميات لمُضاربين آخرين أو جهات مستهلكة، وصولاً إلى الوقت المحدد لإقفال التداول، الذي يراعي مواعيد التسليم المفترضة.
أما سبب الاضطرار، مساء أمس، إلى البيع بأرقام سالبة فهو يعود إلى قرب إغلاق التداول على التعاقدات الآجلة المتعلقة بالخام الأميركي تسليم شهر أيار (مايو)، وذلك دون وجود أي طلب في السوق على شراء النفط؛ لذا كان المالكون لهذه العقود مضطرين للتخلص منها بأي وسيلة، ولو كان ذلك مقابل دفع المال، وهو ما حصل فعلياً.
أسباب انعدام الطلب
يعود ذلك إلى أسباب عديدة، بدأت منذ التراجع النسبي في الطلب على النفط في المرحلة التي سبقت أزمة كورونا بفعل تراجع الأداء الاقتصادي العالمي، ولكن يبقى أنّ هناك ثلاثة أسباب رئيسية للانخفاض الهائل في الطلب وتدهور الأسعار في الوقت الراهن، ويمكن تلخيصها بالآتي:
– يعيش اليوم أكثر من ثلاثة مليارات إنسان حول العالم حجراً منزلياً بسبب تفشي وباء كورونا، وهو ما أدى إلى تعطّل الإنتاج العالمي، وشلل الأسواق، وانخفاض الإنتاج الصناعي إلى حدودٍ قصوى، وتدني استهلاك الوقود نتيجة الوقف الجزئي أو الكامل لحركة التنقّل والطيران، وهو ما أدّى لانخفاض الطلب على النفط بمعدل يتجاوز 30%. كما أنّ الدول الصناعية التي خزّنت احتياطيات من النفط بالاستفادة من انخفاض الأسعار، مثل الولايات المتحدة وبعض دول شرق آسيا، لم تعد لديها الإمكانية على تخزين المزيد.
– الخلافات التي شهدتها مفاوضات أوبك+ منذ اجتماعات شهر آذار (مارس) الماضي حول حصص تخفيض إنتاج النفط وتقاسم الأسواق، والتي كانت نتيجتها الفشل، وتالياً تعنّتٌ روسي سعودي أدّى إلى إغراق الأسواق العالمية بالنفط رغم عدم وجود طلب، حيث كانت السعودية ومن خلفها الولايات المتحدة يسعيان إلى الإضرار بروسيا وتقليص تمدّدها في الأسواق، بينما كانت روسيا تسعى إلى تعزيز حضورها في سوق النفط، وكذلك إلى إخراج النفط الصخري الأميركي من السوق؛ نظراً لعدم قدرة الشركات النفطية الأميركية على مجاراة الانخفاض الكبير في الأسعار بفعل ارتفاع كلفة استخراج النفط الصخري.
– سياسة دونالد ترامب التي باركت بادئ الأمر زيادة المعروض من النفط بدلاً من خفضه، على اعتبار أنّ الولايات المتحدة دولة مستوردة للنفط، ومن مصلحتها وجود فائض في المعروض سيؤدي إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي تعزيز الاحتياطيات الاستراتيجية الأميركية من النفط بأسعار رخيصة، الأمر الذي اعتقد ترامب أنه سينعكس على المواطن الأميركي بشكلٍ إيجابي بفضل الانتعاش الذي ستشهده الأسواق. غير أنّ استمرار أزمة كورونا، وبقاء الطلب على النفط منخفضاً، نتج عنه امتلاء الخزانات الأميركية وعدم القدرة على شراء مزيد من النفط وتضرّر المنتجين الأميركيين إلى حدود الإفلاس، ليُضطر ترامب خلال الأسبوع الفائت للعمل كوسيط في أوبك+ من أجل تخفيض الإنتاج، وهو ما أدى فعلاً لتخفيض الإنتاج بمعدل قريب من 10 مليون برميل نفط، ولكن ذلك جاء متأخراً بعد أن باتت الأسواق بحاجة إلى تخفيض إنتاج بمعدل لا يقل عن 30 مليون برميل يومياً.
مَن سيتأثر بما حصل البارحة في أسواق النفط الأميركية؟
المتأثر الأول بلا شك هو الولايات المتحدة ومنتجو النفط الأميركي والشركات الأميركية، التي تداعت أسهمها في البورصات على وقع انهيار أسعار عقود النفط الآجلة، لا سيما أنّ موعد انتهاء أزمة كورونا ليس معلوماً بعد، ولا ندري متى ستستعيد الأسواق عافيتها وما سيكون عليه حال الاقتصاد العالمي بعد الخروج من أزمة الوباء والإغلاق العام حول العالم. ولكن ذلك يعود بالضرر أيضاً على جميع الدول النفطية في العالم، ولا سيما تلك التي تعتمد موازناتها بنسبةٍ عظمى على عوائد النفط، مثل بعض دول الشرق الأوسط، فهي أصلاً كانت قد تضررت من انخفاض الأسعار وانعكاسات ذلك على موازناتها، حتى قبل انهيار يوم أمس، وهذا التضرّر مرشّح للتعمق إذا تكرَّرَ الأمر مع عقود الخام الآجلة للشهور المقبلة، ما يعني أن الأزمة ستكون قد اتسعت لتشمل العالم كله، في سيناريو يُعيد إلى الأذهان أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية عام 2007، والتي تحولت إلى أزمة مالية عالمية عام 2008، أدّت إلى خسائر هائلة وإفلاس وانكماش في الأسواق العالمية.
ولا يمكن تجنّب هذا السيناريو إلا إذا توافقت بعض الدول، مثل الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وغيرها من دول مجموعة أوبك، على تخفيض حقيقي لإنتاج النفط، يتناسب مع واقع انخفاض الطلب العالمي والتخمة في الاحتياطيات حول العالم، وإلا ستكون الأزمة مرشّحة لأن تتحول إلى كارثة اقتصادية أكبر بكثير من أزمة 2008، وقد تؤدي إلى مواجهاتٍ قاسية تُفضي ربما إلى حروب. كما أنه لم يعد مفيداً ولا عقلانياً اليوم أن تعود هذه الدول إلى استراتيجية فرد العضلات، والحديث عن سنين عديدة يمكن لكل دولة أن تتحملها مع أسعار النفط المنخفضة، وذلك بالاعتماد على الاحتياطيات المالية الضخمة التي تمتلكها.
كانت ليلة أمس درساً مهماً ينبغي التعلّم منه، فما حصل ناجمٌ أصلاً عن انعدام الثقة بين الدول المُنتجة والمُصدرة للنفط، وعن فشلها في صياغة سياسات مشتركة ومنسّقة بخصوص الأسواق العالمية، نتيجة رغبة كل منها بالاحتفاظ بأكبر حصة ممكنة من السوق وإضعاف المنافسين الآخرين، وهو ما يبدو أنه سينتهي في حال استمراره إلى إضعاف الجميع، وإلحاق خسارات كبرى بالجميع. ينبغي أن نتذكر هنا أن الأزمة كانت قد بدأت نتيجة رفض السعودية وروسيا تخفيض الإنتاج العالمي بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً، وها هم قد اضطروا إلى تخفيضه قبل أيام بمقدار 10 ملايين برميل يومياً، وسيكونون مضطرين إلى مزيدٍ من التخفيض في المستقبل القريب جداً.