يعيد انتشار كورونا طرح كثير من الأسئلة عن علاقة المدن والتخطيط العمراني بالصحة العامة. وهي أسئلة ليست بجديدة، فتاريخ الحضارة الإنسانية مليء بأمثلة عن تأثير الأوبئة على بنية وشكل المدن، وتوزّع سكّانها جغرافياً وعلاقتهم بفضائها العام.

تُتهم المدن عادةً بأنها بيئات حاضنة للأمراض، ومرتع لـ«الهواء الفاسد»، إلا أن المثير للانتباه اليوم نبرة توبيخ الإنسان على تماديه في تشييد غابات الإسمنت هذه، وانتشار دعوات العودة إلى الطّبيعة. فهل المدن مذنبة فعلاً؟ ومن يملك امتياز «العودة للطبيعة»؟

ميتروبول وميكروبات

بالرغم من الكثافة السكانية العالية للمدن، الأمر الذي يُسهل انتقال الأمراض، إلا أنها كانت أيضاً موطناً لحلول مبتكرة ساهمت في تحسين حياة سكّانها، وتقديم عديد من الخدمات لهم، وحمايتهم من العدوى وغيرها من المخاطر. ولعبت الأوبئة بدورها دوراً في تطوير التخطيط العمراني والبنى التحتية للمدن.

أدى تفشي الكوليرا في لندن، منتصف القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، إلى ثورة في تصميم شبكات الصرف الصحي. فقد كان من المألوف أن تصبّ المجاري المكشوفة في شوارع المدن وأنهارها. ما جعل نهر التايمز، مصدر مياه الشرب في لندن، بؤرة أساسية للتلوث، دون أن يسعى أحد لمعالجة ذلك، لأن الاعتقاد ساد آنذاك بأن الهواء الفاسد هو المسبب الأساسي للأمراض، إلى أن أثبت الطبيب جون سنو عام 1849 أن مياه الشرب الملوثة مسؤولة عن الكوليرا، التي كانت تحصد أرواح آلاف اللندنيين سنوياً.

أُجبرت بلدية لندن، بعد «سنة النتن العظيم» عام 1858، تحت ضغط شعبي كبير، إلى تخطيط وبناء شبكة صرف صحي مغلقة. وانعكس ذلك على نسيج المدينة، إذ شُقَّت شوارع أعرض وأكثر استقامة، مناسبة لتمديد أنابيب الصرف، وبُنيت ضفة نهر التايمز الشهيرة لأغراض تقنية متعلقة بشبكة التصريف هذه.

يمكننا أيضاً ملاحظة تأثير الأوبئة على مدينة نيويورك، ففي نهاية القرن التاسع عشر تمّت الموافقة على مقترح تشييد منتزه سنترال بارك الشهير، بناءً على حجج صحية، قُدّم من خلالها المتنزّه الكبير في قلب مانهاتن على أنه رئة المدينة الضرورية لوقاية صحة سكّانها. وأدى انتشار السل في مطلع القرن العشرين إلى تغييرات جذرية في أنظمة السكن وقوانين البناء في المدينة، إضافة إلى ثورة في وسائط النقل العامة.

مدينة بأوجه متعددة: متى تبتسم لك المدينة؟

يَسهُل على المهتمين بتخطيط المدن متابعة انعكاس الأبعاد الطبقية والاجتماعية على النسيج العمراني، التي تؤثر بدورها بشكل مباشر على الظروف البيئية والصحية لأحيائها المختلفة.

من الأمثلة الصارخة تموضع الأحياء الفقيرة عادةً شرقي المدن، والغنية في غربها. يتكرر هذا في مدن كثيرة حول العالم: لندن، باريس، هلسنكي، برلين، أوكسفورد، تورونتو، نيويورك، الدار البيضاء وغيرها. ويرجع ذلك إلى حقبة الثورة الصناعية، فالسمة المشتركة هنا هي الرياح السائدة التي تهبّ من الغرب، جارفةً معها شرقاً مخلفات الصّناعة من الدخان والروائح المزعجة والهواء الفاسد، ما دفع الأغنياء لهجر الأحياء الشرقية، والتمركز في الأحياء الغربية ذات الهواء الأنقى.

مثال آخر هو تموضع الأحياء الفقيرة في المناطق المنخفضة من المدن، ذات التهوية السّيئة، والأكثر عرضة للفيضانات، أو عند مصبّات الأنهار التي كانت في السابق تحمل أوساخ المدينة وصرفها الصحي (مصب التايمز في لندن مثلاً).

يُذكّر هذا بالفيلم الكوري الجنوبي طفيلي (Parasite)، الذي يوظف لغة العمارة والتخطيط العمراني ببراعة لإيضاح الفروقات الطبقية الهائلة في المجتمع الكوري. عائلة «كيم» المُعدمة محشورة في شقة، نصف قبو، في أخفض منطقة من العاصمة سيؤل، ذات نافذة صغيرة تطل على أسفل شارع يتبوّل فيه السكارى، في حين تسكن عائلة «بارك» فيلا فسيحة في أعلى التلة، مطوقة بجدار عالٍ، ويغمرها النور عبر واجهة زجاجية مبالغ بحجمها، مطلة على حديقة ساحرة معزولة. يمكننا تخيّل اختلاف تأثير انتشار وباء مثل كورونا على هذين الحيين.

العودة إلى الطبيعة

أشتُهرت مؤخراً الفلّاحة الصينية الشابة لي زيكي، وحققت فيديوهاتها عن حياتها في ريف سيشوان مئات ملايين المشاهدات. «عادت» لي إلى الطبيعة للعيش مع جدتها، بعد نفورها من صعوبات المدينة. فنراها، في لقطات شديدة الجمال، تعيد إحياء التقاليد الريفية الصينية، تزرع وتحصد وتطبخ من محاصيلها أشهى المأكولات الموسمية المحلية. تربي دود القز لتنسج لاحقاً الحرير يدوياً. وإذا أرادت البيض تبدأ بتربية البط. ولصناعة معطف دافئ تجزّ صوف خرافها ناصعة البياض، وتعالجها بالطريقة التقليدية، لتصبغها لاحقاً بألوان قانية من عصير التوت البرّي.

هل فيديوهات لي زيكي السّاحرة بهذه البراءة فعلاً؟ أم تخفي وراءها أمراً مظلماً؟

لا عَجبَ أن الحكومة الصينية منحتها كثيراً من الجوائز، وأطلقت عليها لقب «المواطنة المثالية»، فالصورة الرومانسية التي تصدّرها تحجب معاناة الفلاحين الصينيين الفقراء، المتروكين لتغيّرات المناخ وموجات الجفاف، وتخفي الواقع المتردي للزراعة، بعد تحوّل البلاد إلى «مصنع العالم». اختفت في الصين حوالي 245 قرية يومياً بين عامي 2000 و 2010 (نحو 850 ألف قرية). هذا النزيف من الريف إلى المدينة أدى إلى تدهور جحيمي لظروف السكن في المدن الكبرى، وانتشار ظواهر كابوسية مثل «توابيت النوم»، التي يستأجرها العمال الوافدون من الريف إلى مدن مثل هونغ كونغ.

مفارقات تكشف حلولاً

يذكر المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك في مقالته بربرية بوجه إنساني المفارقة التالية: حالة الإغلاق العام في الصين، جرّاء انتشار فيروس كورونا، أنقذت أرواحاً أكثر من عدد ضحايا الفيروس نفسه. فعند أخذ الوفيات الناتجة عن التعرض للتلوّث بعين الاعتبار، يجزم مارشال بوركه، اقتصادي الموارد البيئية، أن هبوط مستويات التلوث الأخيرة أنقذت حياة أربعة آلاف طفل دون سن الخامسة، وثلاثة وسبعين ألف مسن فوق عمر السبعين، في الصين وحدها.

يمكننا تخيّل القفزة في نوعية الحياة والصحة العامة في حال اتخاذ الحكومات إجراءات جدية للحد من التلوّث الناتج عن الصناعة وحركة نقل البضائع.

حصل أمر مشابه في مدينة أتلانتا الأميركية، أثناء استضافتها للألعاب الأولمبية عام 1996، حيث تم اتخاذ قرارات لزيادة فعالية وسائل النقل العامة في المدينة، لتسهيل الوصول إلى المباريات والفعاليات الرياضية، ما أدى إلى تقليل الانبعاثات الصادرة عن السيارات. التأثير غير المقصود لهذه التدابير على الصحة العامة، خلال فترة تطبيقها المؤقتة، كان شديد الوضوح: انخفاض التنقل بالسيارات الخاصة بمعدل 22%، أدى إلى انخفاض نوبات الربو الشديدة بنسبة 42%. نلمح هنا حلاً بسيطاً، في حال وُجدت النية السياسية، لتحسين مستوى الصحة العامة: تطوير وسائل النقل العامة كماً ونوعاً على حساب السيارات الخاصة.

دفاعاً عن المدن: من يملك امتياز العودة إلى الطبيعة؟

يشكّل سكان المدن اليوم أكثر من نصف سكان العالم، ويُرجَّح ارتفاع النسبة إلى الثُّلثين حتى عام 2050. هذا التكثيف الشديد يحتّم علينا طرح أسئلة ملحّة عن الشكل الأنسب للمدن، والسياسات اللازمة لجعل الحياة فيها أكثر انسانيةً: كيف يمكن للمدن أن تحمي سكّانها، وكيف للأكثر ضعفاً استعادة حقهم في مشاعات المدينة؟ وهل العودة إلى الطبيعة أمر قابل للتطبيق مع 8 مليارات إنسان؟ أم هو امتياز للأقوى؟

ظهر فيروس كوفيد19 في مدينة ووهان المكتظة بالسكان، إلا أن خط انتشاره لم يقتصر على مراكز المدن الكبرى، وإنما ضم الهوامش الريفية والصناعية. بدأ انتشار الفيروس في ألمانيا مثلاً في معمل للسيارات في منطقة صناعية طرفية من بافاريا. وبالرغم من أن الكثافة السكانية العالية مناسبة لانتشار الأمراض، إلا أن المدن في الوقت نفسه قد تملك البنية التحتية والأنظمة الصحية اللازمة لمكافحتها، والتي لا تتوفر في الأماكن الطرفية. وقد تمت السيطرة على انتشار كورونا في مدن مكتظة مثل هونغ كونغ وسنغافورة بجدارة أعلى بكثير مما حصل في ريف إيطاليا.

علاوةً على ذلك، تجلب العداوة للمدن، ودعوات تخفيض الكثافة، لصالح الانتشار الأفقي اللا مركزي مشاكل أخرى، قد تكون أكبر وأكثر تعقيداً، ليس أقلها خطر تدمير الغابات والمناطق الخضراء، التي تشكل رئة الكوكب، ولهذا تداعياته السلبية على المناخ والبيئة.

فيلا عائلة بارك الخضراء في فيلم طفيلي، والحياة الريفية الهادئة في سهول سيشوان الجميلة في فيديوهات لي زيكي، تمثل قناعاً أخضر ضاحكاً يخفي وراءه واقعاً وحشياً. بدأ عمالقة «سيليكون فالي» و«وول ستريت» شديدو الثراء منذ سنوات بشراء أراض شاسعة في نيوزيلندا، يقيمون عليها حصونهم «المستدامة والخضراء» استعداداً للكوارث المقبلة. يتنصّلون هناك من كل مسؤولية، ويطلقون من وراء المحيط ما يشبه حكم الإعدام على البقية التي لا تملك ترف شراء الطبيعة.

ربما الأجدى بالبقية، نحن، التفكير بحلول سياسية، والضغط بكل ما أوتينا من قوة لاستعادة الحق في مشاعات مُدننا الإسمنتية. حقنا في ماء نظيف وهواء نقي وأشعة شمس لا تحجبها سحب الدخان. الحق في نظام مواصلات عامة جيد وبنى تحتية فعالة وضمان صحي شامل، بعيداً عن النبرة الدينية، الداعية للتكفير عن ذنوبنا بمزيد من التقشف، والعودة إلى جنة الطبيعة المفقودة.