كيف تشطرنا قواعد الجماعة الصارمة إلى نصفين؛ الأول يحبها والثاني يكرهها؟ من أنا خارج الجماعة؟ وماذا يوجد خارج حدود الجماعة؟ يرتطم المرء بهذه الأسئلة المعقدة عندما يبدأ رحلته الشاقة للبحث عن كينونته الخاصة، وعن حريته، بشكل يتعارض مع الجماعة التي ولد ونشأ فيها، فلا يعلم إن كان سيعثر حقاً على أجوبة شافية تعطي معنىً جديداً لحياته. هذه هي الرحلة التي تقرر أستي، الشابة ابنة التسعة عشر عاماً، أن تخوضها في رباعية أن-أورثوذكس Unorthodox الصادرة حديثاً عن نتفلكس، والمقتبسة عن سيرة ذاتية حملت العنوان ذاته، وصدرت عام 2012، للكاتبة الأميركية الألمانية ديبورا فيلدمان Deborah Feldman.
youtube://v/-zVhRId0BTw
لم يكن الرحيل خيار أستي الأول. أرادت بكل جوارحها أن تنتمي وتسعد ضمن مجتمعها الموروث الضيق. لكن جسدها أبى ذلك. تزوجت من الشاب الأشقر الخجول ياكوف، كما أراد لها الكبار وحسب القواعد، لكنها فشلت في تجاوز نفورها وألمها من العلاقة الجنسية معه، وبدأت تشعر بالاختناق من الواجبات الزوجية المترتبة عليها. بحسب قواعد طائفة الساتمار من اليهود الهاسيدك المقيمين في مدينة نيويورك، وفي الظرف الذي تعيشه أستي، لم يكن من الممكن طرح تأجيل الإنجاب أو عدمه على سبيل المثال، أما الطلاق مع الاستمرار في العيش ضمن الطائفة، فقد كان أشبه بالموت البطيء. لذلك لم تجد أستي أمامها إلا خياراً وحيداً، وهو تحدي قواعد وأعراف الطائفة والانسلاخ الكلي عنها، ليس اجتماعياً فحسب بل جغرافياً حتى. لا تجد أستي ضمن مجال خياراتها المحدود خياراً أفضل من الهرب إلى برلين، حيث تعيش والدتها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، المكان الذي اعتقدت أنه سيكون آمناً وبعيداً عن حرّاس الجماعة.
يصور المسلسل حياة أفراد طائفة يهود الساتمار الهاسيديك، وممارساتهم المتمحورة حول الدين والله، بما فيها طقوس الزواج والصلاة والاجتماعات العائلية والعلاقات الاجتماعية، التي تأخذ شكلاً شديد الهرمية والأبوية. يُفسر المؤرخون انغلاق الجماعة التام على نفسها والتشبث بالتقاليد الدينية والاجتماعية، بما في ذلك تمسكهم بالحديث باللغة اليديشية، وانشغالهم بالزواج وإنجاب الأطفال، على أنه ردة فعل ممنهجة وعنيفة عقب التهديد الوجودي الذي اختبره يهود أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وفناء ما يقارب الستة ملايين منهم في المحرقة النازية. وفي المسلسل، تحضر صورة المحرقة مع جدة أستي، التي تستمع للموسيقى الكلاسيكية المحرمة، لتتذكر فقط من قضى نحبه من الأحباب. الزواج والإنجاب بالنسبة ليهود نيويورك الهاسيديك هو إذاً من ضمن الأهداف العليا التي لا تخص حياة الأفراد الشخصية، بل تتعلق بـ«المصلحة العامة». لذلك أحكمت الجماعة الانغلاق التام على نفسها من خلال تصميم نظام حياتي، وقواعد صارمة تضمن عزلتها التامة عن الخارج، حتى أنه صار لقواعدها وقوانينها سلطة تكاد تكون أعلى من سلطة القانون الذي ينظم الحياة العامة في نيويورك والولايات المتحدة الأميركية. يدرس الأطفال مناهج دينية خاصة، ويتّبع الجميع تعليمات الحاخام، ويعملون في شبكة اقتصادية خاصة قائمة على الدعم بمساعدات تقدم من الحكومة الأميركية لهم.
هذه هي الأسوار والحدود الشائكة التي تحاول أستي أن تخترقها في المسلسل، والتي استطاعت اختراقها قبل أعوام كاتبة الرواية ديبورا فيلدمان عندما خاضت التجربة ذاتها مع الطائفة عند انتقالها إلى برلين. رسم هذا الانتقال الجغرافي المحور العام لأحداث المسلسل، المرتبة بطريقة تحرك فضول المشاهد لمتابعة المسلسل دفعة واحدة. لا تغذي هذا الفضول الرغبة في معرفة مصير أستي التي تطاردها عائلة زوجها فقط، بل أيضاً الكشف الذي يأتي على جرعات عن حياة جماعة الهاسيديك، والذي يقوم به المسلسل بشكل حساس وغني بصرياً. بهذا المعنى، يتلصص المشاهد على هذه الجماعة الأقلية، وعلى لغتها وطقوسها غير المألوفة من جهة، ويتابع قصة أستي من خلال بناء درامي يجاور بين فصول حياتها السابقة في حي ويليامزبرغ النيويوركي، وحياتها الجديدة وسعيها القلق للانعتاق في برلين.
حسب هذا التجاور، تبدو العاصمة الألمانية في أن-أورثوذكس كمدينة للحريات؛ المدينة المفتوحة على كل الخيارات والاحتمالات، النقيض التام لأحياء يهود الساتمار في ويليامزبرغ، لكن المسلسل لا يختصر برلين في معانيها التحررية وتعددها الثقافي، أو في كونها واحدة من أهم المدن التي تحفظ حريات النساء، بل يضيء أيضاً على معان أخرى. برلين هي أيضاً المدينة التي وُضعت فيها مخططات المحرقة الأولى، هي حاملة لهذا التاريخ الوحشي للنازية، وتضع أستي في مواجهة غير متكافئة معه.
بالطريقة نفسها، لا يصور المسلسل تحول أستي من شخص مؤمن بالجماعة إلى شخص غير منتمٍ، وغير أورثوذكسي، بوصفه تحولاً سهلاً أو ناجزاً. بل على العكس من ذلك، كان هذا التحول بطيئاً ورافقه كثيرٌ من التردد والخوف من مواجهة العالم الجديد، لا سيما وأن أستي لم تدرك يوماً ما تبتغيه فعلاً، سواء قبل الزواج أو بعد الانتقال إلى برلين. ومنذ بداية المسلسل حتى نهايته، نرى وجهاً لأستي يخفي وجوهاً أخرى، وكأنها ترغب بشيء لا تستطيع تحديده تماماً. لم يقتصر بناء الشخصية المعقد في المسلسل على شخصية أستي فحسب، بل نجده أيضاً عند شخصية موشيه، الذي كان مثالاً حياً عن الابن الضال الذي عاش التجربة ذاتها مع الجماعة في وقت مضى.
انعكس هذا البناء المركب لشخصية أستي على أداء الممثلة شيرا هاس، التي طورت شكلاً من الأداء وحركات في الجسد، في انحناءة الكتفين وحركة الرأس يميناً ويساراً والسير المرتبك، مما عكس توتر الشخصية وقلقها الدائمين. وبالرغم من الأداء المتفاوت بين الممثلين، إلا أن ذلك لم يقف عائقاً أمام نقل الإحساس المكثف لكل شخصية وتحولاتها خلال المسلسل، لا سيما لدى الشخصيات الثلاث الرئيسية؛ أستي وموشيه وياكوف. هذا الأخير، وعلى الرغم من تمسكه الشديد بالعقيدة وأعراف الطائفة، إلا أنه هو الآخر يمر بانكسار أمام محنته العائلية والدينية، وذلك ليس بسبب حبه أو تعلقة بأستي فحسب، بل لأن عزيمة أستي على المضي في الحياة الجديدة فجّرت داخله غضباً من الطائفة، وحزناً على مصيرهما معاً.
يخوض غالبية الأفراد الخارجين عن طاعة جماعاتهم الدينية والاجتماعية، وحتى السياسية، حروباً كهذه. كما تحولهم مُساءلتهم لقيم الجماعة، ورغبتهم بالاستقلال عنها والبحث عن هويتهم الخاصة، إلى منبوذين ومطرودين. تكمن جمالية هذا المسلسل إخراجياً وأدائياً في تجسيده المتماسك والمركب للتخبط النفسي الذي يعيشه المرء المتمرد على الجماعة من جهة، وتشريحه بحساسية لاحتمالات الانعتاق التام من جهة أخرى. إذ أن هذا الانفصال الكلي غير ممكن، طالما أن هذا الفرد يستمد هويته بكامل مكوناتها الدينية والثقافية والاجتماعية من الجماعة التي ولد ونشأ فيها. يضيء المسلسل على ثيمات كونية يختبرها كل الأفراد الذين يبحثون عن أنفسهم خارج حدود الطوائف والجماعات الصارمة، والذين لا يعني انفصالهم عن الجماعة قطيعة تامة مع الماضي الذي شكل جزءاً هاماً من هويتهم وثقافتهم. ولعل هذا هو المعنى من الأغنية التي صدحت بها حنجرة أستي بشكل مفاجئ، بديع، ومؤلم في نهاية المسلسل، الأغنية اليهودية التراثية التي تُغنى عادة للاحتفال بالارتباط الأبدي بالشريك، والتي اختارتها أستي لتعلن بدلاً من ذلك انفصالاً مستحيل الاكتمال عن الجماعة الأولى.
youtube://v/P16-6HQpXwc