«الناس في الشرقالشرق يُقصد به في هذه السياق ألمانيا الشرقية سابقاً. خائفون. (…) عند حدوث مشاكل، تبحث هذه المشاكل عن ناطق بلسانها. نحن ذلك الناطق». هذا ما قاله غاولاند (Gauland)، رئيس حزب البديل لألمانيا (AFD) في مقابلة له على قناة ZDF في أيلول (سبتمبر) 2019. في هذا الاقتباس، يُقدِّمُ غاولاند نفسه وحزبه كمراجع في إدارة المخاوف وإيجاد الحلول لها. هناك محاولات مستمرة لتبرير أجندة سياسية من خلال عواطف محددة، وكلّما كانت هذه المحاولات واضحة للعيان، كلّما بدت هذه المبررات أكثر منهجية، وكانت فاعليتها محددة بدقة أكبر. عندما نود التحدث عن العلاقة التبادلية بين العاطفة والسياسة، فغالباً ما نبدأ بفكرة توظيف الانفعالات العاطفية كأداة سياسية، كأن نتحدث عن «وقائع محسوسة». وهنا يتجلى بوضوح وجود عدة أوجه ارتباط بين السياسة والعاطفة، على عكس فكرة تناقضهما التام وعدم التقائهما، التي تطغى على الخطاب العام بما يخص هذا الموضوع، والعائدة لفكرة تناقض العقل والمشاعر.
ملفتة تصنيفات وأنواع العواطف التي تظهر عند طرح مواضيع سياسية مختلفة، والتي يمكننا من خلالها اكتشاف الكثير عن علاقة العاطفة بالسياسة. في مثالنا السابق عن تصريح غاولاند، يتم تطويع الشعور بذاته، كسبب واقعي مجرد، لتبرير أجندات سياسية. «الخوف» هنا لا يمثل حالة عاطفية أصلية متجردة، بل يتم توظيفه كوسم، وبتداوله اللغوي والإعلامي يسهم في التعبير عن مشاعر وعواطف يدعيّ تسميتها. أي أن عدة مشاعر وعواطف تتخذ من الخوف اسماً، وعليه يتم وسم الأشخاص الذين يعيشون تلك المشاعر بالخائفين. يُوظَّف هذا الوسم في التلويحات والاتهامات المضمنة، وله تبعات، من بينها تصوير الدولة في مستوى ما فوق سياسي، يُعنى بمشاعر المواطنين، على الأقل أولئك الذين يتبدى لهم كونهم المعنيين بالخوف.
لقد حاربت النسويات والنسويون، وما فتئنَ يُحاربن، في سبيل الكف عن فصل وعزل الخاص عن العام وفتح النطاقين على بعضهما بعضاً. لا تزال العاطفة حبيسة الخاص المعزول، لكن تبعاً لأساسيات الفكر النسوي، فإنه يجب شمل الخطاب السياسي للحياة العاطفية وطرحه بشتى أشكالها. تطبيق ذلك، بالإضافة إلى تحليل شتى مجالات السياسية مع أخذ العاطفة بعين الاعتبار، قد يساهم في تجنب التطويع العاطفي الذي تحدثنا عنه، وفي زيادة قابلية هيكليات انعدام المساواة الاجتماعية للفهم والتحليل. العواطف تحركنا للفعل السياسي؛ وفي الوقت ذاته تعتبر جزءاً من منظومة أدوات القيادة التي تقوم بصياغة ما يُزعَم كونه خاص، وتأطيره بهدف عزله؛ فتساهم من خلال ذلك بعمليات التهميش وعدم المساواة. لا يقتصر إذاً دور العواطف على كونها أثراً مرافقاً وعرضاً جانبياً، بل هي متسبب ومؤثر مباشر.
إذا أردنا التوسع في نطاق الثنائيات هرمية العلاقة، كثنائية الطبيعة/الحضارة وثنائية الجسد /الروح، التي يقوم منطقها أيضاً على فصل السياسة (التي تصنف ضمن العام) عن الخاص، سنتوصل لأنواع عواطف في ثقافة العواطف الغربية تُصنَّف على أنها تميل لأن تكون متحضرة، أي قوية؛ وأخرى على أنها تميل لأن تكون بدائية، أي ضعيفة. وفي هذا الفكر منطق تطوري في فهم العواطف وشرحها. كثيراً ما تُرى العواطف في حد ذاتها كخاصية بدائية للطبيعة البشرية، موجودة منذ العصر الحجري، غير أن التعامل الاجتماعي مع تلك العواطف يتبدل ويتغيّر باستمرار، وبطريقة تقاطعية.
وقد قامت عالمة السياسة بيرجيت بارغيتس (Brigitte Bargetz) بتنميط علاقة العواطف في نمطين اثنين «سياسة العواطف» و«السياسة المحسوسة». تقوم الأولى بـ «بتوظيف العواطف كوسيلة أو كمحرك لما هو سياسي». وأفضل مثال على ذلك هو مثالنا المطروح سابقاً، حيث يقدم غاولاند حزب البديل من أجل ألمانيا كناطق باسم «المخاوف» التي يعيشها الناس المقيمون في الشرقالشرق يُقصد به في هذه السياق ألمانيا الشرقية سابقاً.. السياسة المحسوسة، في المقابل، ترى العواطف في حد ذاتها كـ «نمط عاطفي المنشأ لفعل سياسي، ولإدراك وفهم هذا الفعل».
هذا يعني أن حالات الاستغلال الناتجة عن قرار سياسي ما، والتي ينتج عنها شعور بعدم المساواة، ستترجم نفسها لـ «سلوكيات معينة ضمن الحياة اليومية». هذه السلوكيات إذاً نتيجة لقرار سياسي أدى إلى أفعال استغلالية، تم إدراكها شعورياً (إدراك حالة القمع)، فتولّدت عنها مشاعر عدم المساواة.
ووفقاً لهذا المنهج، فإن القرارات السياسية تؤثر على التشكلات المختلفة للعلاقات الاجتماعية، مما يؤثر بشكل مباشر على الحياة العواطفية على نطاق الفرد والمجموعة. توضح هذه الرؤية لنا، جزئياً، كيف تصب القرارات السياسية في تشكيل البنى السلطوية في المجتمعات، والتي بحد ذاتها تؤثر على الحياة العواطفية.
الأكاديمية (المختصة بالآداب) سارة أحمد، المعروفة كذلك بسبب مدونتها feministkilljoy، تسلط الضوء على رؤى شتى بما يخص الخوف ضمن السجال العام. فمن جهة يعتبر الخوف أداة للحكم، ومن جهة أخرى وفي الوقت ذاته يعتبر الخوف عَرَضاً للحداثة وما يتبعها من تطورات مستمرة وسريعة للحياة. كما يشكل الخوف ضرورة لتشكيل الحكومات، التي، على أساس وجود الخوف، تقدم وعوداً للشعوب بإزالة أسباب هذا الخوف. إذاً حين يصرّ سياسي أو سياسية على إدعاء عواطف محددة يشعر بها الشعب، وتكاد تتهمهم بها وتثبت عليهم التهمة، ثم يقدم أو تقدم وعوداً بإزالتها، فستصبح إدارة عواطف الشعب من جملة وظائف ومهام السياسة. عندما تصبح إحدى مهام الدولة إزالة مخاوف ومواجع فئة من الناس، مخاوف ومواجع قامت هي أصلاً بزرعها فيهم مسبقاً، فإن غياب المشاعر السلبية سيصبح بالضرورة أحد أهداف هذه الدولة. فلنعد النظر بهذه الفرضية، ولنفكر منطقياً في عدد الأشخاص الذين، فعلاً، لا يشعرون بسوء، أو يشعرون بشكل غير منقطع أنهم بخير (يشعرون فقط بمشاعر إيجابية)، وما هي فرص هؤلاء الاشخاص بوجود منصة متاحة لهم، يعبرون فيها عن مشاعرهم الإيجابية؛ فإننا سنتوصل إلى نتيجة أن الشعور بحال جيد لا يعني أبداً العيش في شروط حياة عادلة، وأن هؤلاء الذين يشعرون بحال جيد لديهم فرص أكثر وأكبر من غيرهم للتعبير عن أنفسهم في الفضاء العام.

الخوف يثبط، ويولد حالة ترقب وانتظار للمستقبل على أمل قدوم حل مخلص من الخوف. يشترط الخوف أيضاً وجود موضوع له، فإذا أراد الإنسان القضاء على خوف يسكنه فإنه بالضرورة سيوجه خوفه ويمركزه في مكان ما، ويعكسه على شيء ما. خلاصة القول، الخوف دائماً وأبداً يشترط وجود صلة بين شخص وشيء مجرد، وليس هناك وجود جوهري ومتأصّل للخوف في ذات الإنسان. منبع الخوف ليس من الشخص ذاته، أي ليس من جسده، بل ينشأ من خلال سرديات عن الخوف تحيط بهذا الشخص وتتكرر على مسمعه. هذا، كمثال، حال النساء اللواتي يخفنَ التجول في الظلام وحدهنّ بسبب السرديات والقصص المتكررة عن نساء يمتنعن عن العودة إلى المنزل بعد المغيب. قد يؤدي هذا الأمر إلى التزام هؤلاء النساء المنزل، والنتيجة هي أنهنَّ سيأخذنَ حيزاً أقلَّ في الفضاء المجتمعي العام، ما سيؤدي إلى تضاؤل دورهن في صنع القرار.
إذا انتبهنا أكثر إلى مدى تأثير الأحاديث المنتشرة عن العواطف علينا، فإننا سنتوصل إلى نتيجة أن حل المشكلة، بديهياً، لا يكمن في التزام النساء للمنزل، بل في إيجاد حلول لظواهر التحرش والبدء في البحث في العرف الاجتماعي الذي يتيح أو يتسامح مع حدوث شيء كهذا. هذه ليست إطلاقاً دعوة هدفها التهوين من ضرورة الشعور بالخوف، بل الهدف هو التنويه على دور الحديث المستمر عن الخوف في إبقاء أسبابه ودعمها. كتاب أطلس الخوف يوضح لنا كيف أن الشعور بالخوف يصبح أكثر كثافة وسيطرة على الناس هناك، حيث يندر، أو يكاد ينعدم احتكاكهم بمواضيع الخوف.
إجمالاً، علاقة العواطف بالسياسة علاقة تملؤها المتناقضات. فمن جهة تعتبر وظيفة العقل وظيفة تصحيحية أو تقويمية للعواطف التي تظهر في غير مكانها، ومن جهة أخرى تعتبر العواطف جزءاً من الفعل السياسي، كما تعتبر محركاً له وأثراً ناتجاً عنه. من المهم أن تتمتع العواطف بمرئية أكثر وأوضح على منصات السياسة كي نضمن تجنب تطويعها سياسياً، لأن العواطف بحد ذاتها تخضع أيضاً لهيكليات وبنى غير عشوائية. وجود العواطف ليس عبثياً، وعدم إعارتها اهتماماً عند تشكيل البنى السلطوية يخدم السياسات النيوليبرالية التي تدعم، وبشدة، حالة الاغتراب الاجتماعي وتعيق كل أشكال التضامن والتكافل. علينا جميعاً أن نسأل أنفسنا: ما هي المشاعر التي نشعر بها؟ وفي أي الأمكنة تصبح ملحوظة وملموسة أكثر؟ والأهم، مشاعر مَن هي التي نشعر بها؟