بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي انسحابه من الجنوب اللبناني في مثل هذا اليوم، الحادي والعشرين من أيار (مايو)، من العام 2000. استمرّت عمليات الانسحاب أربعة أيام، وتم الإعلان في نهايتها عن يوم الخامس والعشرين من أيار بوصفه عيداً للمقاومة والتحرير في لبنان. وقد عادَ ذاك الإنجازُ على حزب الله، صانعه الرئيسي، بشعبية واسعة في المنطقة العربية والعالم، حتى غدا زعيمه حسن نصر الله رمزاً لمقاومة الطغيان لدى كثيرين.
وحزب الله منخرطٌ اليوم بشكل نشط في حرب الإبادة والتهجير الأسدية في سوريا، ومندرجٌ في تحالف إقليمي كبير تتزعمه إيران، وهو تحالفٌ مسؤولٌ، بالشراكة مع جهات وقوى أخرى، عن كوارث حلّت بأبناء المنطقة، بما فيها انتهاكاتٌ وفسادٌ وأعمالُ عنف وتدهورٌ للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في لبنان، وحروبٌ همجية ومذابح وأعمال عنف ورعاية للفساد والنهب في سوريا والعراق واليمن، وديكتاتوريةٌ وحشيةٌ تُحكِم قبضتها على إيران.
يبدو استحضار هذه الذكرى صعباً نتيجة التناقض الجوهري بين مشهد مقاومة العدوان من جهة، ومشهد ارتكاب العدوان من جهة أخرى، على يد الجهة نفسها. وفوق ذلك، ثمة شحنة عاطفية هائلة تختزنها ذاكرتي، وربما ذاكرة كثيرين غيري في سوريا ولبنان وغيرهما، بخصوص الجنوب وتحريره، وبخصوص حزب الله نفسه أيضاً. كنتُ في الثامنة عشرة من عمري عندما انسحب الجيش الإسرائيلي نتيجة ضربات حزب الله، وفي ذلك الوقت، كان يكفي ذكر أسماء قرى وبلدات الجنوب حتى تسري قشعريرة في جسدي، وتكاد دمعة تسيل من عيني.
كنتُ مُغرِقاً في معرفة تفاصيل قلّما شاركني معرفتها أبناء جيلي وزملائي في المدرسة؛ أنصارية والدبشة وعرمتى وبيت ياحون وجزّين وحولا ومركبا والغندورية، وإلى آخر القائمة: لم تكن هذه بالنسبة لي أسماء قرى ومناطق لبنانية فقط، بل كانت أسماء معارك وعمليات ومواجهات أسطورية، خاضها مقاتلون شجعان، وأنزلوا فيها خسائر كبرى بالعدو، العدو الوحيد في القضية المركزية التي كانت صراطيَ المستقيم.
لكنَّ أولئك الأبطال أنفسهم قد صاروا اليوم، أو صار بعضهم ورفاق سلاحهم على الأقل، قتلة طائفيين يستبيحون قرى وبلدات وأحياء في سوريا، يهجّرون أبناءها ويذلونهم ويساندون نظاماً بالغ الوحشية؛ القصير ويبرود ورنكوس وداريا وحرستا والمليحة ودير سلمان وحجيرة ويلدا وببيلا وعقربا، وإلى آخر القائمة: ليست هذه أسماء مدن وبلدات ومناطق سوريّة ثار أبناؤها على نظام الأسد فقط، بل هي شواهد على همجية حزب الله وحلفائه.
تتزاحم في رأسي صورتان إذن؛ صورة المقاتل الأسطوري الفدائي، وصورة القاتل الطائفي المتوحش. والواقع أن الصورتين تكادان تستحوذان على كل ما يقال في هذا الشأن اليوم، يتم استخدام الأولى في سياق الدفاع عن كل ما فعله ويفعله حزب الله وحلفاؤه داخل لبنان وخارجه، ويتم استخدام الثانية في سياق مضاد، ينتهي في بعض صوره إلى المماهاة بين القتلة الطائفيين وأبناء الطائفة الشيعية في الجنوب وغيره، وأحياناً أخرى إلى تبرير سلوك إسرائيل نفسه، أو إلى افتراضات سخيفة تقول إن إسرائيل وحزب الله حليفان في واقع الحال.
خارج هاتين الصورتين، وضد أشكال توظيفهما هذه بالذات، أحاول أن أكتب بعد مرور عشرين عاماً على طرد الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني. ويقتضي هذا أولاً أن أستعيد الخطوط العامة للحدث نفسه، ثم أن أذهب انطلاقاً منها إلى مجادلة هاتين الصورتين، وصولاً إلى ما قد يكون مفيداً في هذه المجادلة بشأن سياقنا السوري الراهن.
استعادةٌ ضروريةٌ للحدث
لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان مفاجئاً، بل كان محسوماً أن إسرائيل ستنسحب قريباً، على الأقل منذ تولّي إيهود باراك رئاسة الحكومة الإسرائيلية ربيع العام 1999، وكان تنفيذ الانسحاب جزءاً من برنامجه الانتخابي.
قبل ذلك، كانت دوائر في إسرائيل تطالب بالانسحاب من لبنان منذ العام 1985. حتى بنيامين نتنياهو، الذي ما يزال حتى الآن يُحمّل باراك مسؤولية ما يعتبره انسحاباً مُذلّاً من لبنان، كان موافقاً على فكرة الانسحاب شرط أن لا يكون أحادي الجانب، أي أن يأتي في سياق اتفاق أو ترتيبات مع الحكومة اللبنانية.
كانت واحدة من أبرز علامات الانسحاب قد ظهرت في أيار (مايو) 1999، عندما اتخذ أنطوان لحد قراراً بالانسحاب من جزّين، وشرعت قواته بتنفيذه في مطلع حزيران (يونيو). لم تدخل مجموعات حزب الله إلى قلب البلدة المسيحية، بل دخلتها مؤسسات الدولة اللبنانية، واتخذ العديد من أبنائها المنضوين في جيش لحد قراراً بالبقاء وتسليم أنفسهم لأجهزة الدولة الرسمية، فيما انسحب آخرون مع المنسحبين إلى عمق الشريط اللبناني المحتلّ. كان ذاك اختباراً ناجحاً لانضباط حزب الله وعناصره، وكان لذلك الانضباط دورٌ حاسمٌ في تسريع عملية الانسحاب، أو بالتحديد، تسريع تفكك جيش لحد الذي كان أشبه بدريئة يحتمي بها الجيش الإسرائيلي.
قبل الانسحاب من جزّين بأشهر قليلة، كان حزب الله قد نجح في اغتيال العميد إيرز غريشتاين، قائد وحدة الارتباط الإسرائيلية مع لبنان، وواصل بعدها عملياته، التي كان من أبرزها اغتيال عقل هاشم، الرجل الثاني في جيش لحد، مطلع العام 2000. كانت كل تلك الأحداث تجري في المناخ الذي فرضه اتفاق نيسان (أبريل) 1996، والذي أدّى إلى وقف عملية «عناقيد الغضب» الإجرامية التي نفّذتها إسرائيل في لبنان، واقتضت ترتيباته توقّف إسرائيل عن قصف الأهداف المدنية والبنى التحتية اللبنانية، في مقابل توقف حزب الله عن قصف المستوطنات الإسرائيلية في الجليل.
لم تكن إسرائيل تريد الانسحاب من لبنان قبل تحقيق أمرين اثنين، أولهما ضمان أمن الجليل، وقد كان الاسم الإسرائيلي لعملية غزو لبنان عام 1982 هو «سلامة الجليل». أما الأمر الثاني فهو اتفاق سلام مع لبنان بمعزل عن سوريا، أو ترتيبات متفق عليها مع الحكومة اللبنانية في أقلّ الأحوال، وفي أكثرها عملية سلام شاملة مع سوريا ولبنان، يقبل بموجبها النظام السوري بتوقيع اتفاق دون استعادة كامل الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. فشلت المفاوضات مع النظام السوري، ولم يقبل حزب الله بمسألة التفاوض مع إسرائيل على أي ترتيبات تخص الانسحاب وما بعده، وبذلك بات متعذراً على إسرائيل تحقيق الأمر الثاني. أما «سلامة الجليل»، فقد بدا أن ما يضمنها هو انسحاب إسرائيل من الجنوب، وليس العكس، ذلك أن المعادلة بالنسبة للشارع الإسرائيلي باتت كالتالي: نخسر جنوداً بشكل مستمر في لبنان، ولا ننجح في تأمين الجليل، فما الفائدة من بقائنا هناك؟
هكذا لم يبقَ أمام إسرائيل سوى تنفيذ انسحاب أحادي، شهد في يومه الثالث، الثالث والعشرين من أيار، انسحاب ميليشيا لحد من بلدة الخيام، بما في ذلك السجن الرهيب الذي كانت تديره هناك، وتحتجز فيه مئات اللبنانيين وتمارس بحقهم ألواناً من التعذيب والقهر. دخل العشرات إلى السجن في مشاهد يقشعرّ لها البدن، وقاموا بتحطيم أقفال الزنازين وتحرير المعتقلين.
اكتملت عملية الانسحاب مع اقتراب نهاية اليوم التالي، واعتبرت إسرائيل أنها نفذت بذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 القاضي بانسحابها من لبنان، لكنها لم تنسحب من تلال كفرشوبا ومزارع شبعا المحاذية للجولان السوري المحتل، باعتبارها مناطق كانت تحت السيطرة السورية قبل احتلالها، فيما اعتبر حزب الله، ومن خلفه الحكومة اللبنانية، أنها أراضٍ لبنانية، رافضين الاعتراف باكتمال الانسحاب الإسرائيلي. الحكاية بالغة التعقيد ولا مجال للخوض في تفاصيلها هنا، لكن الخلاصة أن الأطراف الثلاثة الفاعلة في المسألة، النظام السوري وإسرائيل وحزب الله، لم يكن في مصلحتها إغلاق ملف الصراع الإسرائيلي مع لبنان.
كان حزب الله، ومن خلفه إيران، يحتاج نصراً كبيراً يكون رافعة لمشروع ولاية الفقيه في المنطقة، دون أن يتم إغلاق الملفّ على نحو ينزع الشرعية عن سلاح حزب الله. وكان النظام السوري يحتاج أن يبقى مُهيمناً على لبنان، وأن يستخدمه ورقة للتفاوض والمساومة. وكانت إسرائيل تريد تخفيف خسائرها إلى الحد الأدنى، مع الاحتفاظ بالصراع مفتوحاً للاستثمار الداخلي والضغط في التفاوض السياسي مع سوريا ولبنان.
حصل هؤلاء جميعاً على ما أرادوا، وبقيت مزارع شبعا بوابة مفتوحة على الحروب والتفاوض، حتى الآن.
قبل الحدث، ووراءه، وبعده
يقول هذا العرض المُلخَّص أمرين اثنين؛ الأول أن العملية برمتها كانت تُدار على المستوى الجيوسياسي لصالح أنظمة متوحشة في إيران وسوريا وإسرائيل، أما الأمر الثاني فهو متعلق بحياة أبناء الجنوب اللبناني، الذين كانوا يعانون منذ عقود من ويلات الحرب الأهلية والحروب والغزوات الإسرائيلية المتكررة؛ إنهم بالكاد يظهرون في خلفية الصورة، بالكاد تظهر آلامهم وطموحاتهم وإراداتهم وصراعاتهم، نرى جانباً منها في مشهد تحرير جزّين، وفي مشهد تحرير سجن الخيام.
من موقعي قبل عشرين عاماً، كنتُ أرى فقط مشهداً ملحمياً واحداً، يظهر فيه وحشٌ فتّاك اسمه إسرائيل، يخرج مهزوماً من معركة غير متكافئة مع أبطال اختاروا منازلته حتى «النصر أو الشهادة». كنتُ بالكاد قد تجاوزتُ مرحلة الطفولة، فلم أكن أدرك أبعاد الجيوسياسة، ولم يكن لديَّ معرفة جديّة بأوضاع الناس الذين كانت الصراعات تدور ساحقةً حيواتهم وأجسادهم.
كانت صورة المقاتل الأسطوري الفدائي وحدها تتصدر المشهد بالنسبة لي، وإذا كانت حداثة السن وقلّة المعرفة والحماس الثوري عوامل ساهمت في تسيّد تلك الصورة، وفي تغطيتها على كل ما يقع خلفها وقبلها وبعدها، إلا أن هذه العوامل لا تفسّر الأمر وحدها، إذ أن كثيرين في المنطقة وحول العالم، من مختلف الأعمار والمنابت والتوجهات، قد استحوذت هذه الصورة على تحليلاتهم ورؤاهم، وما تزال.
ولم تكن تلك الصورة وليدة أواخر القرن الماضي أصلاً، ولا ابنة حزب الله وحده، بل كانت امتداداً لصورة الفدائي الفلسطيني في ستينيات وسبعينيات القرن، وامتداداً لصورة مقاومين لبنانيين وفلسطينيين من مختلف التيارات، أجبروا إسرائيل عام 1983 على الانسحاب من بيروت، ثم جنوباً إلى ما وراء نهر الليطاني. لم أكن أعي الأمر على هذا النحو وقتها، لكن الصورة التي احتكر حزب الله تمثيلها في لبنان كانت قد صُنعت قبله إلى حد بعيد، ولم يكن احتكاره لها إلّا حصيلة حروب وصراعات كثيرة، وحصيلة مقادير متفاوتة من العنف مارسها هو نفسه ضد التيارات الأخرى، مع دعم مالي واستخباراتي وعسكري وسياسي سوري وإيراني غير محدود.
ما تخفيه تلك الصورة هو هذه الصراعات والتناقضات بالذات، ما تخفيه هو لعنة الجيوسياسة، وآلام وآمال وأفراح وأحزان وصراعات الحياة اليومية الصاخبة؛ هي صورة مفيدة عندما يكون الهدف تعزيزَ وتبريرَ المواقف الأخلاقية والسياسية المتخذة سلفاً، لكّنها تلعب دوراً كارثياً عندما يسعى المرء إلى تأسيس مواقفه الأخلاقية والسياسية على الفهم والمعرفة.
بالمقابل، كانت تلك الصورة تُظهِر نقيضها، صورة المقاتل في جيش لحد بوصفه عميلاً مرتزقاً، نراه في مشهد جزّين يسلم نفسه للدولة اللبنانية بعد أن أيقنَ أنه لن يقع في قبضة مقاتلي حزب الله، بل في قبضة أجهزة رسمية ستطلق سراحه ما لم يثبت ارتكابة لجرائم بعينها. ولا متسع هنا للخوض في ظروف تَشكُّل جيش لبنان الجنوبي التاريخية وخلفياتها، لكن ما ينبغي قوله هو أن ذاك المقاتل لم يستيقظ صباحاً ليقرر أن يصير عميلاً، بل إن ثمة عملية تاريخية معقدة قادته إلى هذا المصير، لعبت فيها عوامل سياسية واقتصادية وطائفية أدواراً متشابكة.
لم أكن أعرف شيئاً عن هذه الظروف والتعقيدات وقتها، حتى أنني لم أفهم كيف يمكن أن يكون مصيرُ العملاء شيئاً غير الموت، ولا كيف أمكنَ لبشر عاديين مثلنا أن يصيروا عملاء، وقد تأخَّرَ اكتمال الأجوبة في رأسي حتى رأيتُ، بأمّ العين، كيف أمكنَ لمن قاوم العدوان الإسرائيلي أن ينخرط في حرب تهجير إبادية ضد شرائح من السوريين. خلال السنوات اللاحقة لتحرير الجنوب، رحتُ أعرف المزيد والمزيد تدريجياً عن كل هذا، لكن صورة الفدائي البطل ظلّت تطغى على موقفيَ العام، حتى زعزعها هجوم حزب الله على بيروت في أيار 2008، ثم قَلَبها رأساً على عقب تَدخُّلُه الواسع ضد الثورة السورية.
تؤدي صورة القاتل الطائفي في كل هذا دوراً مماثلاً لصورة المقاتل الفدائي، لكنه دورٌ معكوس، يمكن أن يخفي بدوره كل الظروف والصراعات والعوامل المؤثرة، ويُنحّيها لصالح ثنائيات حادّة تساعد في تصليب المواقف الأخلاقية والسياسية، بدل تأسيسها على الفهم والمعرفة.
ما تخفيه هاتان الصورتان هو الإنسان والمجتمع، ويقتضي الدفاعُ عن الإنسان والمجتمع تنحيةَ الصورتين جانباً، أو التخفّف من حمولتهما العاطفية على أقل تقدير، كي يصير ممكناً إفساح المجال أمام المعرفة والفهم، ثم تأسيس المواقف عليهما.
ضرورات المعركة
ما الذي تفعله هاتان الصورتان، وسائر الصور المماثلة لهما، صور الأبطال الأسطوريين أو صور القتلة المتوحشين على حد سواء؟ إنها تخفي ما يقع وراءها وقبلها وبعدها من ظروف وتعقيدات ودوافع، من أجل ضرورات المعركة.
ما تفعله تلك الصور هو أنها تزودنا بالصلابة اللازمة لاحتمال الدماء والآلام والظروف القصوى، تزودنا بما يلزم لخوض الحروب من رصٍ للصفوف، واستعدادٍ للقتال والقتل، أو تبريرٍ للقتال والقتل. لا نعرف حرباً تم خوضها دون صور كهذه، ولا أعرف ما إذا كان يمكن خوض الحروب دونها أصلاً، لكنّ المؤكد أنه ما من صور كهذه إلّا وكانت تزويراً للحقيقة من وجوه كثيرة، وكانت تبريراً لألوان شتى من الوحشية والظلم والانتقام، وكانت أداة في يد سلطات تستخدمها في مواجهة أعدائها، وإلى جانب ذلك، وربما قبل ذلك، تستخدمها في إحكام قبضتها على حياة أنصارها.
لعلّ إلغاء الحرب يكون الطريق الوحيد لإلغاء هذه الصور، ولمّا كان هذا متعذراً حتى الآن، فلا أقلَّ من عدم الاستسلام لها ومن رفض اتخاذ المواقف الأخلاقية والسياسية تحت سطوتها، هذا إذا كنّا نفكر في عالم ممكن بلا حرب، أو على الأقلّ، في عالم لا تؤدي الحروب فيه إلى تخريب كل شيء.
المعرفة والتبرير
يساعد التخفّف من عبء هذه الصور في السير على طريق الفهم والمعرفة، ويُخشَى بعد كل هذا أن ينزلق الفهم وتقود المعرفة إلى تبرير كل شيء، أعني أن ثمة خيطاً رفيعاً فاصلاً بين الفهم والتبرير؛ بين أن نفهم الدوافع والظروف التي تقود كثيرين إلى الانخراط في أعمال بالغة العدوانية ومعدومة الكرامة، وبين أن نُبرّر هذا الانخراط ونقبله بوصفه نتاجاً لظروف الواقع.
أتحدّثُ هنا عن الفارق بين أن نفهم الظروف التي قادت قسماً من أبناء لبنان إلى الانخراط في جيش لحد، وبين أن نجد الأعذار لمن يعمل مرتزقاً عند قوة عدوانية مدججة بالسلاح والعنصرية مثل الجيش الإسرائيلي، ويمارس التعذيب والقتل في سجن مثل سجن الخيام. أتحدّثُ هنا عن الفارق بين أن نفهم الظروف التي قادت قسماً آخر من أبناء لبنان إلى الانخراط في تنظيم مثل حزب الله، وبين أن نجد الأعذار لمن يشارك في ارتكاب مذابح دفاعاً عن نظام إبادي متوحش مثل النظام الأسدي، وأن يكون أداة في مشروع عدواني تسلطي مثل المشروع الإيراني، وأن يدافع عن نظام طائفي فاسد مثل النظام اللبناني.
ينبغي أن نفهم كي نعرف كيف يمكن تغيير كل هذا، وكيف يمكن ألّا يستمر وألّا يتكرر. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن لا نقبل الأعذار والمبررات، وذلك للأسباب نفسها بالضبطـ؛ كي يكون ممكناً تغيير كل هذا، وكي يكون ممكناً ألّا يستمر وألّا يتكرر.
يبدو سهلاً جداً أن نعثر على أشباهٍ لكلّ هذا في السياق السوري بتعدد جبهاته؛ نحتاج أن نفهم الوحشية التي عشناها ونعيشها، وأن نعرف أكثر عن منابعها، ونحتاج أيضاً أن لا نقبل بتبريرها، وأن نكفّ عن التفتيش باجتهاد استثنائي عن أعذار لها، وهو اجتهاد يتم تسخيره من أجل ضرورات المعركة، تحت تأثير الصور إياها، ودفاعاً عن هذه الصور في الوقت نفسه.
قبل عشرين عاماً، كنتُ أُبّررُ للفدائي اللبناني انخراطه في المشروع الإيراني بأنه يحتاج المال والسلاح للقتال دفاعاً عن نفسه، وجاءت أعمال القتل والتهجير الطائفية في القصير بعدها بنحو اثني عشر عاماً. بين الفهم والتبرير، دروبٌ وعرةٌ ليس سهلاً خوضها إذاً.
عن الجنوب اللبناني وأهله
ليست أيٌّ من الصورتين مزورةً بالكامل. في الجنوب اللبناني أبطالٌ قاوموا العدوان الإسرائيلي ببسالة نادرة، وفيه مسلحون ارتكبوا ويرتكبون أبشع أعمال العنف والمذابح، وفيه من هم مزيجٌ من هذا وذاك، وفيه أكثر من ذلك بكثير؛ أولئك الذين لم يحملوا بندقية ولم ينخرطوا في أي حرب، الذين لا يعرف أحدٌ صورهم ولا أسماءهم، لا يظهرون في نشرات الأخبار ولا في صور ومشاهد المعارك الأيقونية، ولا تعني لهم قراهم أسماء معاركَ وعمليات عسكرية، بل تعني أراضيَ يزرعونها وبيوتاً يعيشون فيها أعمارهم المطحونة.
لقد دفع أبناء الجنوب أبهظ الأثمان نتيجة فساد النظام السياسي اللبناني وطائفيته وصراعات زعمائه، ونتيجة قيام دولة إسرائيل وعدوانيتها وعنصريتها، ونتيجة سياسات النظامين السوري والإيراني التسلطية المتوحشة. دفعوا ويدفعون هذه الأثمان، فقراً وتهجيراً وآلاماً لا تُحتمل، ومقابر كبيرة وجنائز مستمرة بلا أفق.
في سوريا ولبنان، يستمرّ دفع أثمان مماثلة في كل يوم، يستمرّ كأنه قدرٌ سماويٌ لا سبيل إلى ردّه، لكن هذا ليس صحيحاً بحال، لأن هذه الأقدار من صنع البشر، وما صنعه البشر يذهب به البشر.