حزمت عائلة أم حسين بعضاً من حقائبها، تاركة بشكل مؤقت خيمتها في مخيم كفرعروق بالقرب من سرمدا شمال إدلب، وذلك بهدف قطاف موسم «المحلب» في قريتها في جبل الزاوية جنوب إدلب، شأنها في ذلك شأن آلاف العائلات التي تنتظر بفارغ الصبر ما ستجود به الأشجار في حقولها، علّها تؤمّن جزءاً من مستلزماتها الأساسية في العام القادم. تخبرنا السيدة أن الوصول ما يزال متاحاً إلى قريتها، لكن سكان منطقتها متخوفون من خسارة قراهم ومواسمهم التي تُركت دون عناية، سواء نتيجة المعارك أو نتيجة اتفاق يحرم سكّان قرى جنوب الطريق الدولي من الوصول إليها.

تقول السيدة، التي تعيل أسرتها بعد موت زوجها، إن كلفة الوصول إلى القرية تزيد عن خمسين ألف ليرة سورية، وهو مبلغ استدانته من أحد أقربائها متعهدة بسداده بعد بيع محصولها، في الوقت الذي تزيد فيه المصاعب والأعباء على العائلات، بدءاً من ارتفاع أجور النقل، مروراً بأجور عمال المياومة في القطاف، وانتهاءً بالمبالغ الكبيرة التي يجب إنفاقها على الحقول للعناية بها من فلاحة وتقليم وتسميد ورش مبيدات.

الأهمية الزراعية لإدلب ومحيطها

بحسب دراسة بعنوان الخارطة الاستثمارية الزراعية في محافظة إدلب، نُشرت قبيل الثورة، فإن محافظة إدلب كانت تضم نحو 355 ألف هكتار من الأراضي الزراعية المُستثمَرَة، تُمثّل 58% من أراضي المحافظة، وتتنوع المحاصيل الزراعية فيها بين الحبوب (القمح والشعير) والبقوليات والمحاصيل العطرية والخضار الموسمية، إضافة للأشجار المثمرة. وكان إنتاجها يُشكّل نحو 4.7% من الإنتاج السوري من القمح، و7.4% من الشعير، و11.8% من العدس، و97.2% من الحبة السوداء، و35% من الكرز، و35.5% من التين، و21.3% من الزيتون.

تقع منطقة جبل الزاوية جنوبي محافظة إدلب، إلى الجنوب من طريق حلب اللاذقية الدولي M4، وهي تتكون من كتلتين جبليتين بينها واد خصب، وتضم ثلاثاً وثلاثين قرية وبلدة ومدينة. ويعدّ جبل الزاوية المنطقة الأهم لزراعة الأشجار المثمرة في محافظة إدلب، خاصة التين والكرز والمحلب والمشمش، التي يمتد موسم قطافها بدءاً من شهر أيار (مايو) وحتى منتصف آب (أغسطس) من كل عام، إضافة إلى شجر الزيتون الذي يتم قطافه لاحقاً مع بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر). وتعتبر الزراعة مصدر الدخل الرئيسي لعشرات آلاف العائلات التي تسكن في هذه المنطقة.

وتتركز زراعة الحبوب والبقوليات بشكل أكبر في ريف إدلب الجنوبي وسهل الغاب المتاخم له بريف حماة الشمالي الغربي، تُضاف إليها زراعة الخضار والمواسم الصيفية كالبطاطا. أما ريف حلب الجنوبي، فهو يمثل سلة الغذاء الأساسية لمحافظة حلب، ويضم مساحات واسعة من الأراضي الخصبة التي تزرع بالحبوب والخضار.

قطاف محفوف بالمخاطر والصعوبات

كانت معظم هذه المناطق خارجة عن سيطرة النظام في مطلع العام 2019، وقد خسر سكانها مساحات واسعة من أراضيهم الزراعية منذ بداية الحملة العسكرية التي شنتها قوات النظام وروسيا بدءاً من نيسان (أبريل) 2019. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، في تقرير نشره في التاسع من أيار الماضي، بلغت هذه الخسارة مئتين وستاً وسبعين مدينة وبلدة وقرية في محافظات إدلب وحماة وحلب منذ بداية العام الحالي 2020 فقط، أهمها سهول ريف إدلب الشرقي، والأراضي الخصبة في محافظة حماة بما فيها أجزاء كبيرة من سهل الغاب، إضافة إلى ريف حلب الجنوبي بالكامل ومنطقة الإيكاردا الزراعية المهمة. جاء ذلك بعد خسارات كبرى في العام 2019، شملت ريف حماة الشمالي ومساحات واسعة من ريف إدلب الجنوبي.

ولم تقتصر الخسارة على الأراضي الزراعية وتهجير سكّانها فحسب، بل شملت نزوح معظم السكان في القرى المتاخمة لمناطق سيطرة قوات الأسد الجديدة، والتي تمتد على مساحات واسعة من جبل الزاوية مروراً بأريحا وسراقب وصولاً إلى أطراف مدينة الأتارب بريف حلب الغربي، إذ وثق منسقو الاستجابة نزوح نحو مليون شخص، عادت منهم أعداد قليلة خلال الشهرين الماضيين بعد اتفاق وقف إطلاق النار.

مع بداية موسم القطاف، شهدت بعض هذه القرى والبلدات عودة جزئية للسكان. يقول من تحدثنا معهم، ومنهم رائد الخطيب من قرية بليون في جبل الزاوية، إن هذه العودة تقتصر على أشهر القطاف فقط، وإنها لن تكون تمهيداً لعودة دائمة في ظل المصير المجهول الذي ينتظر المنطقة. وتحدث الخطيب عن عودة بعض ملّاك الأراضي أو عمّال المياومة للانتهاء من القطاف، الذي بدأ بموسم المحلب لهذا العام، يليه الكرز فالمشمش والتين وغيرها من المواسم.

عن الصعوبات التي يواجهها العائدون إلى أراضيهم، يقول محمد الموسى من جبل الزاوية إن مساحات واسعة من الأراضي الزراعية المحاذية لأماكن انتشار قوات النظام مرصودة نارياً ويستحيل قطافها، ويعتبر الوصول إليها مخاطرة كبيرة قد تؤدي إلى الموت، خاصة مع الخروقات اليومية التي تشهدها المنطقة لاتفاق وقف إطلاق النار.

تخبرنا فاطمة الحاج موسى، من قرية سرجة في جبل الزاوية، إن هذه الخروقات متكررة، وإن هناك اشتباكات شبه يومية وعمليات تسلل ينفذها عناصر من قوات النظام، ما يخيف السكان ويمنعهم من العودة أو الوصول إلى أراضيهم. تتحدث عن بقاء معظم الأراضي الزراعية دون عناية نتيجة لذلك، نظراً لصعوبة وصول الآليات الزراعية خوفاً من تعرضها للاستهداف.

ترى الموسى أن الكلفة العالية أيضاً تحول دون قطاف المواسم، التي قالت إنها ضعيفة في الموسم الحالي نتيجة قلة العناية، وغالباً لن يكفي الإنتاج لسداد النفقات، بحسب رأيها، ما دفع معظم أصحاب الأراضي لترك محاصيلهم أو تضمينها بمبالغ زهيدة، وهو ما سيتسبب بارتفاع الأسعار في الأيام القادمة.

عبد الحليم العلي هو مهندس زراعي من مدينة إدلب، وهو يقول إن قلّة العناية بالأراضي الزراعية وترك المحاصيل الزراعية دون قطاف سيتسبب بتلف الأشجار، وسيترك آثاره السلبية على التربة الزراعية والأشجار في آن معاً.

تقول أم حسين إنها تدرك ذلك، ولكن «ما باليد حيلة، وما منعرف إذا رح نقدر نوصل لأراضينا السنة الجاي أو لأ. كمان مين معو حق العناية؟ إذا فلاحة الهكتار صايرة بأربعين ألف».

أما عن القمح، فقد تضاءلت مساحة الأراضي المزروعة، خاصة المروية منها، وارتفعت كلفتها. ويقدر المهندس عبد الحليم العلي كلفة الهكتار الواحد بنحو أربعمائة دولار، يضاف إليها أجرة الحصاد التي تبلغ نحو 60 دولاراً للهكتار الواحد في العام الحالي، ناهيك عن ثمن أكياس الخيش (نحو ألفي ليرة سورية للكيس) وأجور نقل المحصول، ما سيتسبب بخسارة للمزارع، أو برفع السعر ليتناسب مع الكلفة، التي قدرها العلي بنحو خمسمائة ليرة سورية للكيلوغرام الواحد من القمح، وهو ما سيؤدي إلى رفع أسعار الخبز، وسيُفقد القمح المحلي قدرته على المنافسة مقابل الأنواع المستوردة، التي يبلغ متوسط سعرها نحو مئتين وخمسة وثمانين دولاراً لطن القمح الواحد (حوالي 550 ليرة بسعر الصرف الحالي للكيلو غرام). ويتراوح متوسط إنتاج الهكتار المروي من القمح بين 5 و7 أطنان، في حين يتناقص الإنتاج إلى ما بين 1 و3 أطنان في الحقول البعلية، ما سيعرّض المزارعين لخسارة فعلية أياً كان السعر.

يقول أحمد عبد الرحمن، صاحب حصّادة في ريف إدلب، إن ارتفاع أسعار الحصاد في العام الحالي سببه انهيار الليرة السورية، إذ يبلغ سعر لتر المازوت الواحد نحو ألف ليرة سورية، فضلاً عن أجور العمال وخطورة العمل.

عمّال المياومة: أجور عالية لا تسد الرمق

تبلغ أجرة عامل المياومة حالياً نحو ستمائة ليرة سورية للساعة الواحدة، وتختلف هذه الكلفة بحسب المكان الذي يتم العمل فيه. يقول مدير ورشة عمال في مخيمات أطمة إن الأمر يتعلق بعدد ساعات العمل، فهناك من يعمل بـ «المياومة» لفترة واحدة ويتقاضى نحو ألفي ليرة سورية، أو لفترتين بثلاثة آلاف وخمسمائة ليرة سورية، وأن البطالة ساهمت في زيادة عدد الأشخاص الراغبين بالعمل في المياومة، وهو ما أدى إلى وجود «فِعالة» لا تجيد القطاف أو الحصاد، وهو ما أدى إلى فارق في الأجر الذي يتقاضاه المياومون بحسب كفاءتهم، خاصة مع صعوبة وصول الحصادات إلى بعض المناطق، ما يستدعي الاعتماد على الحصاد اليدوي.

سلمى عاملة نازحة من ريف إدلب الشرقي، وهي تقول إن الأجور تختلف بين الرجال والنساء، إذ تتقاضى نحو ألف وخمسمائة ليرة سورية يومياً فقط عن عملها في قطاف المحلب، الذي تصفه بـ «العمل الصعب»، إلا أنها تضطر لمزاولته مع انعدام فرص العمل.

وتُشكّلُ أجرة عمّال المياومة عبئاً كبيراً على مالكي الأراضي، إلا أنها وفي أحسن الأحوال، ومع العمل بشكل متواصل طيلة الموسم، وهو أمر صعب التحقيق، لا تزيد عن ما يعادل نحو خمسين دولاراً شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي لأجرة البيت، بحسب من التقيناهم.

قوات النظام تحصد تعب الأهالي

في أيار (مايو) الماضي، قال هيثم حيدر، مدير التخطيط في وزارة الزراعة في حكومة النظام، إن مساحة الأراضي الزراعية التي سيطرت عليها قوات النظام مؤخراً بلغت نحو مئة ألف هكتار في محافظة حلب، استُثمر منها نحو أربعة وستين ألف هكتار. فيما بلغت في محافظة حماة نحو خمسة وعشرين ألف هكتار استُثمر منها ثمانية آلاف وسبعمائة هكتاراً، وفي محافظة إدلب مئة وتسعة وعشرين ألف هكتار استُثمر منها نحو ألف وثلاثمائة هكتار، وكذلك نحو اثنا عشر ألف هكتاراً في سهل الغاب.

وقد تداولت وسائل إعلام النظام ووزارة الزراعة في حكومته أخباراً عن مواسم وافرة في هذه المناطق، كونها تمثل الأراضي الأكثر خصوبة في المحافظات الثلاث. وإذا وضعنا هذه الأرقام، بافتراض صحتها، إلى جانب الأرقام التي تشرح أن الأغلبية الساحقة من السكان هذه مناطق نزحوا إلى مناطق أخرى أكثر أمناً شمال إدلب وحلب، فسيكون واضحاً أن جهات تابعة للنظام قامت بحصاد مواسم زرعها الأهالي قبل تهجيرهم.

يؤكد من تحدثنا معهم إن حقولهم التي هُجّروا منها كانت مزروعة قبل تهجيرهم، وإن حكومة النظام تسعى، عبر حديثها المتكرر في هذا الشأن، لتسويق صورة جيدة عن عودة الحياة إلى المناطق التي سيطرت عليها، مؤكدين أيضاً أن هذه الحقول ستترك مهملة لتموت بعد حصادها، أو ستتعرض للتخريب، وهو ما تشير إليه تقارير متقاطعة عن مصير الأشجار في مناطق سيطرت عليها قوات النظام العام الماضي.

أما سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والقريبة من خطوط التماس، فهم يقومون بمهمة خطرة لجني محصولهم رغم قلة إنتاجه، إلا أنهم يرون في ذلك استمراراً لحياتهم وحفاظاً على حقولهم من الإهمال. تخبرنا فاطمة أن والدها عاد من حقله ممتعضاً لما حلّ به من إهمال، وهو ما دفع أخويها للذهاب إلى هناك وفلاحته، رغم يقينهم بعدم الجدوى من المحصول وأن كلفته ستزيد عن سعره. تُرجع فاطمة ذلك إلى سببين، أولهما معنوي يرتبط بالعلاقة الوثيقة بين عائلتها وأرضهم، أما السبب الآخر فيعود إلى أن فلاحة الأرض تُجنّبها الحرائق التي تتسبب بها قوات النظام عند استهدافها للأراضي الزراعية، وهو ما تشاهده يومياً في الأراضي المجاورة في قرية الرويحة، التي تتعرض يومياً للرمايات على الحقول ما تسبب بحرائق وصفتها بـ «الكبيرة»، ومع صعوبة وصول فرق الدفاع المدني إليها بسبب الاستهداف، فإن النيران تأكل «الأخضر واليابس» بحسب تعبيرها.