على الرغم من عدم إدراج مُنظمي الاجتماعات مسألة العقوبات ضمن جدول الأعمال الرئيسي، إلّا أن كثيراً من التسريبات تحدثت عن أنّ هذا الموضوع سيكون أحد مواضيع النقاش الأساسية في مؤتمر بروكسل الرابع لدعم مستقبل سوريا والمنطقة. سيُعقد المؤتمر افتراضياً عبر تقنية الفيديو كونفرانس بسبب جائحة كورونا، وسيأتي متزامناً مع حدثين رئيسيين، أولهما موعد تجديد قرار «عبر الحدود» الذي يسمح بتمرير المساعدات إلى سوريا دون موافقة حكومة نظام الأسد، والثاني هو إعلان الأوامر التنفيذية المتعلقة بتطبيق قانون قيصر، الذي أقره الكونغرس الأميركي بداية العام الجاري ضمن قانون موازنة الدفاع الأميركية لعام 2020، وأصبح نافذاً بعد توقيع الرئيس الأميركي عليه.
سيُعقد الحدث الوزاري في الثلاثين من حزيران (يونيو) الجاري، وتسبقه بأسبوع المناقشات التي ستعقد بين المفوضية الأوروبية ودول الاتحاد ومنظمات المجتمع المدني السورية والعاملة في كل من سوريا وتركيا ولبنان والأردن، حيث ستقدم تلك النقاشات رؤية السوريين لشكل الدعم المطلوب من الاتحاد الأوروبي والدول المانحة خلال العام القادم. في هذا الجانب، قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب برويل: «شاغلنا المباشر هو تلبية الاحتياجات الإنسانية للشعب السوري، والعمل من أجل وقف دائم لإطلاق النار على مستوى الدولة وإيجاد حل سياسي شامل (…) مؤتمر بروكسل هو أداة فعالة للاتحاد الأوروبي للتعامل مع جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة لدعم من الجهود السياسية والإنسانية للأمم المتحدة».
من مؤتمر بروكسل الثالث العام الماضي 2019
وستفرض الحلول البديلة لإقامة المؤتمر في ظلّ كورونا عدداً من التحديات على المنظمات السورية، التي كانت تنظم عدداً من الفعاليات الجانبية على هامش المؤتمر كل عام، لإيصال صوتها والقيام بالمناصرة اللازمة للقضية السورية. يقول أسعد العشي مدير منظمة بيتنا سوريا للجمهورية: «على الرغم من أننا نستطيع القيام بأغلب النشاطات التي كنا نقوم بها خلال المؤتمر السابق الذي حضرناه فيزيائياً، إلّا أن غياب التواصل المباشر سيؤثر بالتأكيد على قدرتنا على إيصال الرسائل بشكل جيد، كما أنّ الفُرص التي كانت تُتاح للمنظمات السورية من خلال اللقاءات المباشرة ستتراجع اليوم، وكذلك سنواجه تحديات تقنية لتأمين حضورنا بشكل جيد لأعمال المؤتمر التي ستقام بشكل افتراضي».
ومن أجل مواجهة صعوبات التنسيق وغياب اللقاءات المباشرة، التي كانت تضم نقاشات تسبق الاجتماع الوزاري من أجل تحسين استجابة الدول المانحة، يسرت رابطة الشبكات السورية مبادرة لعدد من المنظمات الإنسانية لتحضير رؤيتهم لمؤتمر بروكسل، والرابطة تحالف لتجمعات منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية السورية. يقول الدكتور فادي حكيم، مدير المناصرة في مكتب تركيا التابع للجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز): «تم عقد لقاءات افتراضية لكل القطاعات المنفصلة ضمن مبادرة ألية تنسيق مؤتمر بروكسيل في تركيا الميسرة من قبل رابطةالشبكات، وقامت مجموعة مصغرة شاركت فيها سامز بصياغة ورقة تعبر عن رؤية عدد من المنظمات الإنسانية والمدنية من مختلف أنحاء سوريا، تمّ تقديمها للدول المنظمة لمؤتمر بروكسل من أجل تجاوز غياب اللقاءات المباشرة وإيصال صوت المنظمات السورية للمانحين».
تحدثنا إلى لبنى قنواتي، المدير الإقليمية لمنظمة النساء الآن لأجل التنمية، وهي تقول في هذا الشأن إن «هناك تحديات يفرضها حضور المؤتمر والتجهيز له بشكل افتراضي، بداية بغياب الحماس تجاه المؤتمر ذاته لانعقاده في ظرف ضاغط على كل الناس، والنساء تحديداً، وصعوبة التجهيز للفعاليات المرافقة له، باعتبار أن كل الأطراف تتواصل بشكل افتراضي، وتعاني منذ انطلاق الجائحة تحت أعباء مختلفة. لكن المشاركة الافتراضية، بالمقابل، ستُفسح المجال أمام العديد من السيدات، وخاصة داخل سوريا، إذ كانت صعوبة السفر والحصول على التأشيرات وعبور الحدود المغلقة، أحد العوائق الأساسية التي تمنع من المشاركة. رغم جهود عديدة بذلت العام الماضي لدعوة عدة سيدات من داخل سوريا، إلا أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في تأمين تأشيرات دخول لهنَّ إلى منطقة الشنغن، ولعلّ الانعقاد الافتراضي للمؤتمر في هذا العام يحسن من فرص المشاركة ونقل أصوات الناس في سوريا».
تواجه الاستجابة الإنسانية في سوريا عدداً كبيراً من التحديات اليوم، ليس آخرها المخاوف من انتشار فيروس كورونا المستجد، إلّا أن أكبرها هو النقص الكبير في الدعم المقدم للمجتمع المدني والمنظمات الإنسانية. تقول قنواتي: «هناك تخوفات حقيقة من استمرار تراجع الدعم، وهو الأمر الذي بدأ أصلاً منذ قرابة عامين. من يتابع الشأن المدني في سوريا يعرف أن مخصصات الدعم تزداد شحاً وتعقيداً وصعوبة، وأن القيود على دعم منظمات المجتمع المدني السوري تزداد مع تقييد العبور عبر الحدود، والقوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب، والتي تؤثر بشكل مباشر على عمل منظمات المجتمع المدني. لقد شاهدنا خلال السنتين الماضيتين انسحاب العديد من الداعمين من برامج دعم سوريا، الأمر الذي أدى إلى إغلاق وتوقف العديد من المشاريع التي تخدم الناس. لدينا تخوفٌ حقيقيٌ من آثار هذه الظروف على المبادرات المحلية العاملة على الأرض، التي تمتلك هيكليات مختلفة عن المنظمات وتستند إلى مصادر دخل محدودة جداً. العديد من هذه المبادرات، وخاصة النسائية منها، حُرمت من الدعم لأن وصولها بالأساس إلى هذه الفرص كان مرتبطاً بوجود منظمات وسيطة تؤمن الغطاء القانوني لها. هذه المبادرات لها دور أساسي وسياسي هام في تمثيل النساء ونقل احتياجاتهنّ وتمكينهنّ، وهي تحافظ على مساحة العمل المدني داخل سوريا، وسيكون لتوقفها آثار كارثية على المساحة التي صارعت النساء لبنائها خلال سنوات الثورة، وخاصة بعد الضربات المتتالية التي تلقاها المجتمع المدني عموماً، والمبادرات المحلية على وجه الخصوص، نتيجة التهجير القسري وخساره الممتلكات والنزوح المتكرر والضغوط الهائلة على الفرق العاملة في الشأن المدني والعام».
ويأتي استمرار تراجع الدعم في ظروف قد تكون الأسوأ اقتصادياً على السوريين، وعن هذا يقول الدكتور محمد كتوب، مدير المناصرة والسياسات في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، للجمهورية: «هناك تراجع كبير في تمويل المانحين، ففي حين تم تمويل 42 % من الاحتياجات في عام 2019 كاملاً، لم يصل التمويل لعام 2020، ونحن ننهي النصف الأول منه، إلى 17 % من الاحتياجات. هذا تحدٍ كبير، إذ لا يمكن العمل بقيمة 17 % من الاحتياجات، خاصة مع تفاقم الاحتياج نتيجة الانهيار الاقتصادي وظروف كورونا ووجود صعوبات لوجستية».
ويبدو أنّ تحدي نقص الدعم سيكون الموضوع الأول للنقاش خلال لقاءات مؤتمر بروكسل الافتراضية، إلّا أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الدول المانحة نتيجة جائحة كوفيد-19 سيكون لها أثر كبير على الأغلب على التزامات الدول لهذا العام. وبينما وصلت تعهدات الدول المانحة خلال مؤتمر بروكسل الثالث العام الماضي إلى 6.2 مليار يورو، فإننا قد نكون أمام أرقام أقلّ هذه السنة، وسيكون لذلك تأثير كبير بلا شك على قدرة المنظمات الإنسانية على تقديم الخدمات للسوريين داخل سوريا وفي دول الجوار.
وتؤثر الجائحة على مستويات الاستجابة الإنسانية عموماً، والصحية بشكل خاص، إذ سيتم حشد مزيد من الدعم لمواجهة احتمالات وصول هذه الجائحة إلى شمال غرب سوريا، ما يعني تراجعاً في دعم باقي الاحتياجات الأساسية. يتابع د. حكيم في حديثه للجمهورية: «كان هناك بالأساس فجوة في تمويل احتياجات العمل الإنساني قد تصل إلى أكثر من خمسين بالمئة، واليوم قد يكون لكورونا تأثير كبير على هذه الاستجابة. بالنسبة لنا كمنظمة إنسانية تعمل في المجال الصحي، فإن أحد أهدافنا الأساسية هي لفت الانتباه للمخاطر المحدقة في حال انتشار فيروس كورونا المستجد بشكل أكبر في سوريا. نحن الآن نركز على الوقاية والتحضير لزيادة القدرة على الاستجابة، مثل توفير الأجهزة والمعدات الطبية لتغطية النقص الموجود، إذ أننا نرى أنّ التجهيزات الموجودة غير كافية للاستجابة الفعّالة، وكان لنا توصيات طبية برفع الكفاءة في القطاع الصحي، وتوصيات في تحسين الحوكمة الصحية في المناطق السورية المختلفة، والتركيز على دعم قطاع التعليم الطبي نتيجة وجود نقص في الكوادر الطبية المؤهلة، وهي واحدة من أكبر التحديات التي تواجهنا».
لن تغيب العقوبات، وخاصة قانون قيصر عن أجواء المؤتمر بالتأكيد، فعلى الرغم من عدم تضمين جدول الأعمال بنداً خاصاً بالموضوع، إلا أنّ الحديث عن قطاعات الصحة وسبل العيش التي ستتأثر بتلك العقوبات سيكون المدخل الأساسي لهذا النقاش. ويبدو أنّ هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية للسوريين الذين سيشاركون في المؤتمر، فحسب عدد من التسريبات، تُعِدُّ مجموعة المنظمات الآتية من مناطق النظام، أو المدعومة منه والتابعة له، لحملة علاقات عامة ضمن المؤتمر ضد العقوبات بشكل كامل على شخصيات مرتبطة بالنظام وعلى القطاعات الحكومية التابعة له، وهي لن تختلف كثيراً عن الحملة التي أقيمت خلال المؤتمر الماضي، والتي انتهت بالضغط لتوقيع بيان يتضمن رفضاً لتلك العقوبات باعتبارها تؤثر على المدنيين فقط.
الاتجاه الثاني الذي تحدثت عنه تسريبات ومعلومات خاصة حصلت عليها الجمهورية، لم يتجاوز حتى اللحظة مرحلة التنسيق لكتابة بيان ضد العقوبات من قبل منظمات إنسانية عاملة في مناطق خارج سيطرة النظام في سوريا، باعتبار أنّ هذه العقوبات ستؤثر فقط على المدنيين. وتفيد التسريبات التي حصلت عليها الجمهورية بأنّ الأفكار الرئيسية المطروحة لدى هذا الاتجاه حتى الآن تتحدث عن رفض لكامل العقوبات، دون تمييز بين تلك التي تطال أشخاص ومؤسسات بعينها وتلك التي تطال قطاعات بأكملها.
في الاتجاه الثالث، قامت عددٌ من منظمات المجتمع المدني السورية بتحضير رؤية حول العقوبات على سوريا، حددت فيها ضرورة استمرار الضغط على النظام بكل الطرق لوقف انتهاكات حقوق الإنسان، كما حاولت البحث بشكل تفصيلي في العقوبات، وفرقت بين نوعين منها، الأول يشمل العقوبات على أفراد ومؤسسات مشاركة بشكل مباشر في انتهاكات ضد السوريين، والثاني عقوبات قطاعية سيكون لها تأثير على المدنيين، لتقول إنّ رفع أي نوع من العقوبات دون تنازلات من النظام سيكون فرصة له لتمويل حربه على السوريين مجدداً، مع التأكيد على ضرورة تخفيف العقوبات القطاعية لحماية المدنيين السوريين من آثارها وفق شروط معينة، بحيث لا يكون هذا التخفيف مُكافأة مجانية للنظام.
يقول أسعد العشي مدير منظمة بيتنا سوريا للجمهورية: «الهدف من هذه الرؤية هو بحث موضوع العقوبات، وأثرها على المدنيين. موقفنا واضح جداً من العقوبات على الأفراد والمؤسسات، فهي يجب أن تستمر كنوع من الضغط، إلا أن العقوبات القطاعية، أي التي تشمل قطاعات كاملة، فإنها يجب أن تُدرس بدقة، كي يتم تخفيف الأثر على المدنيين».
لا يمكن معرفة تبعات تراجع دعم القطاع الإنساني في سوريا من اليوم على وجه التحديد، إلّا أنّ هذا التراجع سيزيد من سوء الأوضاع السيئة أصلاً في البلاد، لتتضافر كل الظروف ضد حياة السوريين، بعد أن شهدوا تدمير مدنهم وبلداتهم بالطائرات والمدفعية على مدى عشر سنوات.