يفصلنا يوم واحد فقط عن دخول قانون «قيصر لحماية المدنيين في سوريا» حيز التنفيذ، فيما تستمر النقاشات حول تداعيات هذا القانون منذ أسابيع، ويطغى عليها الحديث عن تأثيراته على السكان المدنيين في البلد الذي يعاني من حرب النظام على الشعب منذ قرابة العشر سنين. فهل كانت مفاعيل قانون العقوبات الجديد، حتى قبل أن يبدأ تنفيذه عملياً، هي المحرّكَ وراء انكشاف العملة السورية، ووراء الانهيارات في أسواق مهمة ورئيسية مثل سوق الدواء خلال الشهر الماضي؟
ليست العقوبات التي يفرضها قانون قيصر، الذي أقرّ بداية العام الجاري، هي الأولى من نوعها على سوريا، إذ عانت البلاد من عقوبات متنوعة خلال حكم الأسدين الأب والابن، مثل العقوبات على سوريا خلال الثمانينات، التي كانت شماعة مثالية للتغطية على انهيار العملة السورية نتيجة سوء الإدارة والسرقات الكبرى، ومن بينها دفع مبالغ طائلة من العملة الصعبة لرفعت الأسد قبل خروجه من سوريا، ما أدى إلى إفراغ الخزينة العامة منها، وهو ما أدّى إلى عدم القدرة على استيراد كثير من المواد. إلّا أنّ استمرار الإنتاج في قطاعات الصناعة والزراعة جنّب البلاد انهياراً اقتصادياً شاملاً، إذ كان وجود أراض صالحة للزراعة تحت سيطرة النظام قد سمح بتحويل الزراعة إلى التركيز القمح، ما أدى إلى تجنيب البلاد ويلات المجاعة.
واليوم يجري استخدام الخطاب نفسه من قبل النظام، عبر الحديث عن الحصار والعقوبات التي تسببت بانهيار الاقتصاد، مع اقتراب ميعاد تنفيذ قانون قيصر لحماية المدنيين. لكن هل كان الاقتصاد السوري قادراً على الاستمرار لولا عقوبات قيصر؟ تشير المؤشرات والأرقام، والفشل في إدارة الموارد وتأمين الأساسيات خلال العام الماضي، إلى أن هذا ليس ممكناً، إذ يعاني الاقتصاد تحت إدارة حكومة النظام السوري من أزمات متتابعة جرى علاجها بشكل إسعافي. واليوم، مع نفاذ الحلول الإسعافية تلك، فإنه يواجه الانهيار فعلياً حتى من دون الحديث عن قيصر، وذلك على الأقلّ منذ إعلان طهران إيقافها الخط الائتماني الذي كانت توفره من أجل تأمين النفط للنظام نهاية عام 2018، وهو أمر اضطر النظام إلى توفير العملة الصعبة من أجل الحصول على النفط اللازم لتأمين المحروقات الأساسية، وكانت أزمة المازوت والبنزين التي لحقت القرار الإيراني واضحة للعيان، إذ أصبح تأمين المحروقات من أجل المواصلات العامة والاستخدامات الأساسية مثل التدفئة أمراً شبه مستحيل خلال بعض الفترات. كانت الصور من مدينة دمشق، التي توقفت السيارات فيها عن العمل بشكل شبه نهائي، صادمة للجميع، لكنها عبّرت بشكل واضح عن الأزمة التي بدأت تحصل للاقتصاد السوري.
قبيل هذه الأزمة التي انكشفت بشكل واضح خلال العام الماضي، كانت وسائل الإعلام المقربة من موسكو تروج لنهاية الحرب في سوريا وانتصار النظام وبدء الانتعاش الاقتصادي، وهو ما مارسه النظام في الدعاية الموجهة لمؤيديه والسكان عموماً، والتي كان لها أثر حتى على دول الجوار، إذ تأهب عدد من الاقتصاديين ورجال الأعمال في لبنان والأردن للمشاركة في عملية إعادة الإعمار المفترضة في سوريا، والتي كان يفترض أنها ستدرّ الملايين وربما المليارات على الجميع. وكان مشروع «ماروتا سيتي»، المقام على أنقاض حي بساتين الرازي في دمشق المنهوب والمدمر جزئياً خلال الحرب، واجهة هذه الدعاية التي تبشر بنموذج مشابه ربما لما حصل في الشيشان بعد حرب الإبادة التي شنها بوتين بداية حكمه لروسيا، ودمر فيها الدولة الصغيرة التي طالبت بالاستقلال، ومن ثم تمّ العمل على إعادة إعمارها عبر استقطاب استثمارات روسية وأجنبية كإعلان انتصار بوتيني ساحق هناك.
وكما ظهر لاحقاً، فإن نجمة التاج في تلك الدعاية كانت مشروعاً فاشلاً اقتصادياً، إذ لا يزال ماروتا سيتي معلّقاً حتى الآن. وبينما كانت تحذيرات على تويتر من الخارجية الأميركية كافية لإخافة أي مستثمر خليجي كان يرغب بالاستثمار في ذلك المشروع أو غيره، لم يكن حلفاء النظام في وضع يسمح لهم بضخ مبالغ ضخمة وهم يعانون أنفسهم من عقوبات أميركية، بينما حليفهم العملاق في الصين يعاني تحت ضربات الحرب التجارية التي بدأها ترامب مع بكين، فارضاً انخفاضاً في نمو ثاني أكبر اقتصادات العالم، وتراجعاً عن تصوراتها في مشاريع كانت تعتبر ضخمة للغاية مثل «طريق الحرير البري»، وهو ما كان كفيلاً باليأس من أي نجدة من بكين التي لن تغامر في الاستثمار في اقتصاد مدمر لبلد غير مستقر سياسياً. وحتى في غياب التهديدات الأميركية للمستثمرين الخليجيين، فإن عدم وجود منح أو استثمارات كافية لإعادة إعمار البنية التحتية في كامل البلاد، أو على الأقل في المدن الكبرى، يعني أن الاستثمارات في القطاعين العقاري والصناعي ستكون خاسرة حتماً، خاصةً مع استمرار عدم الاستقرار، ما سيجعل أي استثمار خليجي من دون أثر يذكر على الاقتصاد الكلي.
قبل ذلك، كانت العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد، ورجال أعماله المقربين الذين يحتكرون عملياً جزءاً كبيراً من الاقتصاد السوري، قد أدت إلى تجميد قدرة العديد من هؤلاء على القيام بالعمليات التجارية، وخفّضت نسب الصادرات السورية إلى الاتحاد الأوروبي الذي كان أحد أكبر الشركاء التجاريين للبلاد قبل 2011. وقد أدى هذا بدوره إلى انكماش في نمو اقتصاد البلاد بعد أن خسرت أسواق تصدير أساسية بالنسبة لمنتجاتها الزراعية والصناعية، وقاد أيضاً إلى عدم قدرة النخبة الاقتصادية والمالية المقربة من النظام إلى الوصول إلى الأسواق العالمية وتداول الدولار نتيجة العقوبات، ما أدى إلى استنزاف مخزون العملة الصعبة في البنك المركزي، وهو ما كان أحد أسباب تراجع سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الصعبة.
وفي نهاية العام الماضي، أتى الحراك الثوري اللبناني الذي استبق انهياراً اقتصادياً في البلاد، كان يبدو حتمياً نتيجة عمليات النهب المنظمة، ليهزّ النظام الطائفي الحاكم في البلد، وهو ما أدى في إحدى نتائجه إلى هزّ المنظومة التي كانت تقدم الدعم بشكل واسع للنظام السوري، باعتبارها طريقاً سريعاً للتهرّب من العقوبات، وبوابة أساسية للاستيراد بعد انهيار البنية التحتية في سوريا. وقد أدى إغلاق المصارف في لبنان، وتجميد عدد كبير من الحسابات إلى إغلاق أحد آخر منافذ التعامل التجاري بالعملة الصعبة بالنسبة للتجار السوريين، وبالنسبة للنظام أيضاً، إذ بينما كان التاجر يستطيع الحصول على الدولار في لبنان سابقاً بسعره الأقرب للحقيقي، فإن تمويل الاستيراد والتصدير في سوريا عن طريق النظام يتطلب فرض أسعار مغايرة عن الواقع، ما يعني خسارات فادحة للصناعة والتجارة في البلد.
الحل الوحيد في هذه الظروف هو التوقف عن العمل، كما حدث في سوق الأدوية السورية مؤخراً، وبينما استطاع حافظ الأسد في الثمانينات النجاة عبر مساعدات مستمرة وكبيرة من ليبيا ودول الخليج، مع وجود اقتصاد مستقر نسبياً وبنية تحتية غير مدمّرة ووصول إلى كل المساحات القابلة للزراعة، فإن حظوظ النظام أقل بكثير في عهد الابن الذي دمرت حربه المدن والبلدات المنتفضة، ما أدى إلى تهجير ربع السكان إلى الخارج وتدمير البنية التحتية، وفرض تقسيمات للسيطرة، وعدم القدرة على الوصول إلى المساحات الأهم لزراعة القمح في الجزيرة السورية.
مقارنة الوضع السوري الراهن مع العراق خلال التسعينات، أو مع سوريا نفسها خلال الثمانينات، ليست مقارنة صائبة، فالبلدان لم يكونا مدمرين خلال تلك السنوات، التي فُرضت فيها عقوبات لم تستطع تغيير النظام السياسي، لكنها ألحقت ضرراً كبيراً بحياة السكان، الذين تعرضوا لمجاعة حقيقة في العراق، وعاشوا معاناة لم تصل حدود المجاعة في سوريا. كان البلدان يمتلكان قدرة على إنتاج النفط ما وفَّرَ الطاقة الرخيصة للاقتصاد، كما قادت عمليات التحويل في الزراعة في سوريا إلى قدرتها على الاكتفاء ذاتياً من القمح، وإن أضرّ ذلك بمجمل التنوع الزراعي في البلاد.
سيكون للعقوبات تأثيرات اقتصادية بالفعل، إلّا أنّ انهيار الاقتصاد السوري هو أمر يحصل منذ العام الماضي، وكنا سنشهد بعضاً من أقسى فصوله على أي حال خلال الأشهر والسنوات القليلة القادمة، وكل ما قامت به عقوبات قيصر (أو بالأحرى الخوف منها) هو تسريع هذه العملية، التي ستؤدي حتماً إلى انهيار في قدرة النظام على تأمين الأساسيات، وهو أمر لم يحدث له مثيل من قبل في سوريا حتى في أسوأ الظروف، وهي أوضاع بالغة الصعوبة والكارثية على السكان.
سنكون إذاً أمام أوضاع غير مسبوقة تاريخياً، بعد أن تم إثبات عدم صلاحية دعاية الانتعاش الاقتصادي ونهاية الحرب داخلياً وإقليمياً، وهي أمور ستضع حلفاء النظام وداعميه أمام خيارات شديدة الضيق، إذ سيكون مشهد الانتصار العسكري منقوصاً بالنسبة لموسكو، كما أنّ تكلفة وجودها وفرض الاستقرار في مناطق انتشارها ستكون أعلى. وكان مسؤولون أميركيون قد تحدثوا مراراً عن الحل الوحيد أمام روسيا بوضوح شديد، وهو ما كثّفته السفارة الأميركية في سوريا مؤخراً في ضرورة أن «يتخذ النظام خطوات لا رجعة فيها لتنفيذ حل سياسي للصراع السوري يحترم حقوق الشعب السوري ورغبته»، وهي شروط تعني ضمنياً إجراء تغيير جذري للنظام لا يكون فيه مكان لبشار الأسد، وهو حلّ صعب بالطبع على موسكو، لكنه المتاح الوحيد أمامها إذا أرادت تمويل إعادة الإعمار في البلاد.
اعتاد نظام الأسد على الانتظار في مواجهة الظروف غير المواتية له، الانتظار حتى تتغير الظروف الدولية لصالحه، أو تسير في الاتجاه المعاكس للضغوط التي كانت تمارس عليه. هكذا فعل الأسد الأب في الثمانينات، وكذلك فعلَ ابنه بعد اغتيال رفيق الحريري. وليس من المتوقع أن يفكر النظام بطريقة جديدة اليوم، فبشار الأسد ينتظر أن يأتيه فرجٌ جديد يشبه زيارة ساركوزي لدمشق عام 2008 منهياً عزلته الدولية. سيتعامل النظام مع العقوبات الجديدة بالطريقة نفسها، وهذا يدعو للخوف فعلاً، الخوف على الناس الذين سيضطرون لمواجهة الجوع من أجل بقاء سلالة الأسد إلى الأبد، لكن هناك حقيقتان أساسيتان؛ الأولى أنّ هذا القرار اليوم لم يعد بيد نظام الأسد، الذي رهن مراكز القوى في نظامه والدولة التي يحكمها لموسكو، والثانية أن الأبد في هذه المعادلة محجوز فقط لبوتين وحده، ليمسي بشار الأسد جزءاً من أبد الآخرين لا أبده هو، ومن ثم يمكن التنازل عنه مقابل ثمن مناسب.
في الحقيقة، خيارُ «الصمود» بمعنى الاستمرار في مواجهة العقوبات وابتلاء الناس بآثارها غير متاح، لأن اتخاذه يعني انهيار المنظومة الاقتصادية في البلاد، وهو أمر لن يروق حتى لمؤيدي النظام الأشد ولاءً، وهو بالتأكيد لن يكون في صالح موسكو. أما طهران، فإن العقوبات المشددة عليها، والضغط السياسي والعسكري الواسع يبدو قادراً على إبعادها عن الصورة، وإن مؤقتاً، في حين تمسك موسكو الأكثر راحة من ناحية الضغوط الأميركية بمراكز صنع القرار في البلد، ليصبح الخيار عملياً بيد بوتين، الذي سيقرر إن كان بشار الأسد «سيصمد» أم لا، وهو ما يعني فرصة تاريخية للتخلص من أحد وجوه النظام، والانتقال إلى مرحلة جديدة تتضمن قدرة على الحركة في هوامش لم تكن متوفرة سابقاً.
لن يقوم قانون قصير بأكثر ممّا قام به النظام نفسه خلال العقد الماضي من تدمير للبلاد واقتصادها، وفيما يدفع السكان الثمن الأكبر لمزيج السياسات الفاشلة اقتصادياً وتدمير البلاد والعقوبات الخارجية، لا يبدو أن هناك حلّا جذرياً في الأفق لأوضاع الناس المعيشية، التي تهدد بمجاعة في سوريا، سوى إجراء تغييرات تتوافق مع التوقعات الدولية التي ستسمح بإعادة فتح الإقتصاد السوري، وإلا فإن السوريين سيواجهون أصعب أيامهم خلال الفترة القليلة القادمة، في ظل نظام سياسي يقوم بجرّ البلاد إلى الهاوية، التي تبدو أقرب اليوم نتيجة العقوبات الاقتصادية، إلّا أنها كانت مصيراً محتوماً نتيجة سياسات النظام في جميع الأحوال.