ليس تقديرُ فان دام أن الحرب ودمار سورية حتميان خطّاً أساسياً في كتابه فقط، وإنما هو ما يقوم عليه معمار الكتاب ككل، وما يقوله ويعود إليه الكاتب والدبلوماسي الهولندي. حتمية فان دام، مثل كل الحتميات، لا تترك مجالاً للسياسة ولا حتى لتسوية مجحفة، وهو بين جازم ومتردد في قول ذلك. الرجل يفسر السياسة بالحتمية التي سأقول للتو إنها حتمية طائفية، بدل أن يفسر الحتمية بالسياسة بتكوين نظام وبنية مصالح متطرفة في لا عدالتها وفي حصريتها، قامت على القمع والسجن والتعذيب طوال عقود، وحصرت محكوميها والبلد في أوضاع مستحيلة، تنذرهم بالدمار إن اعترضوا. رغم ذلك، ظهرت بعد الثورة أصوات وتفضيلات أخرى في مراتب النظام بالذات، من أمثال فاروق الشرع وعلي حبيب، وربما آصف شوكت وهشام اختيار وغيرهم من ضباط «خلية الأزمة». ونعلم ما هو مصير هؤلاء: بين الإقامة الجبرية والاغتيال. حتميةُ الدمار تظهر على هذا النحو مصنوعة من خيارات سياسية لم تكن اضطرارية بحال. فلا الشرع ولا علي حبيب ولا آصف شوكت معارضون للنظام أو عاملون على قلبه. حين يصر فان دام على حتمية الحرب والدمار السوري بعد الثورة، فإنه أقرب إلى اعتبار الأقوى والأكثر حرية، النظام، مضطراً لا يملك خيارات أخرى، فيما سيبدو طيف معارضي النظام الأضعف والمشتت، مُختاراً وحراً، ويقع عليه إثبات عبء عدم المسؤولية عن الدمار. هذا قلبٌ للواقع كامنٌ في مقدمات الرجل ذاتها، وهي مقدمات الخبير الغربي النمطي في شؤون الشرق الأوسط، حيث تتمازج النزعة الدولتية التي تفضّل الدولة في كل حال، حتى لو كانت حكماً إبادياً، على المجتمع، مع الثقافوية التي تنفر بمقادير متفاوتة من مجتمعات مسلمة أو تجد صعوبة كبيرة في التعاطف معها.
تتواتر في كتاب فان دام عبارات السنّة كذا والعلويون كذا… الرجل يفترض أن الخيارات السياسية متأصلة في المنابت الأهلية. حجر الأساس لحتميته يكمن هنا، في افتراض تأصّل الخيارات السياسية المتنازعة في المنابت الأهلية المختلفة، أو يجري التفكير في هذه الأخيرة كأطر انتماء دائمية (Primordial) تحدد خيارات الفاعلين السياسية. هذا يقود إلى إنكار التعدد داخل المجموعات الأهلية أو التقليل من أثره السياسي، وإلى اعتبار ذلك طبيعياً بالنظر إلى بنية المجموعات والمجتمع السوري، وليس إلى أي سياسات تمييزية اعتمدت وترسخت خلال عقود. بعبارة أخرى، الرجل الذي كان ألَّفَ كتاباً مفيداً عن الصراع على السلطة في سورية، وسلَّطَ فيه أضواء مبكرة نسبياً على المنازعات والتجاذبات الطائفية في الجيش وحزب البعث والدولة، هو نفسه اليوم الذي يخرج الدولة وسياساتها من المسؤولية عن اتخاذ الصراع شكلاً طائفياً، وهذا بعد عقود من التطييف أو صنع الطوائف، لا يعقل أنه لم يكن على علم بها. لن نجد في كتاب فان دام شيئاً عن المعارضة السياسية في أيام حافظ الأسد، وعن الاعتقالات والتعذيب وتحطيم المعارضة السياسية الديمقراطية والعلمانية. وكأن هذا لا أثر له على تطييف المجتمع السوري. هذا للقول إن الطوائف التي صارت وحدات سياسية أو اقتربت من ذلك صُنعت بطرق مختلفة، منها تحطيمُ أي بدائل، ومنها تمييزٌ وامتيازاتٌ متنوعة، وتجتمع كلها على نظرة الدولة إلى محكوميها بعيون تُعرِّفُهم بمنابتهم الأهلية. أين تنظر إليهم بهذه العيون؟ في كل مكان: في الجيش، في المخابرات، في الإيفاد الخارجي، في كواليس وسائل الإعلام، وفي بعض الأحيان في الشارع. لم يكن صعباً على فان دام أن يعرف أن الجيش مثلاً مفرخة للمشاعر الطائفية، بفعل ما يعاينه الجميع أثناء خدمتهم فيه من توزيع مُطيَّف للسلطة العسكرية. هو نفسه يشير إلى «وحدات عسكرية يقودها علويون ترابط قرب دمشق لحماية النظام، ووحدات أخرى لا يقودها علويون ترابط بعيداً لحماية البلاد». والأمر أظهر بخصوص المخابرات. ومؤدى كل ذلك هو: الأسد أو لا أحد! هنا تبلغ الحتمية ذروة وعيها الذاتي كعدمية سياسية، كـ«تدمير وطن» أو «حرق بلد»، إن كان لحاكمي هذا البلد أن يُنازَعوا الحكم.
مرة أخرى الحتمية مصنوعة، وليست من طبائع الأمور، أو نتاجاً طبيعياً لطائفية تبدو هي ذاتها طبيعية في مجتمعنا الفسيفسائي المزعوم. حين يقول فان دام إن «الروابط الطائفية والإقليمية والعشائرية بقيت مهمة، حتى أنها بعد نصف قرن، شكلت جزءاً أساسياً لا ينفصل عن هيكلية السلطة في النظام السوري»، فإنه يجمع بين تطورية مبتذلة وبين تغييب للسياسي مميز للتحليلات الثقافوية. ليس صحيحاً بحال أن هذه الروابط بقيت مهمة لسبب ما، ربما بفعل دائميتها الذاتية، الواقع أنها صارت أهم، وشبه حصرية. ولا يقتضي هذا الطرح أنه لم تكن ثمة نزعات وتوترات طائفية في اللحظة صفر، لنقل لحظة استيلاء حافظ الأسد على السلطة أو بداية الحكم البعثي، الغرض بالأحرى هو القول إن الأمر لم يعد يتعلق بانحيازات ونزعات طائفية، بل بديناميكية تطييف مترسخة عبر تمييز طائفي بنيوي تقوم به الدولة، آلت الطائفيةُ بموجبه لأن تصير أرسخ بما لا يقاس مما كانت في اللحظة صفر، ولأن يكون مستقبلها مضموناً. لقد انتقلنا خلال نصف قرن من نعرات طائفية تُلحَظُ عند أفراد ومجموعات، إلى طائفية الدولة وتطييف عمليات إعادة إنتاجها لنفسها.
الربط بين الإنتاج السياسي للحتمية والدمار السوري مهم عملياً، وليس فقط تحليلياً. فإذا كانت حتمية الدمار أو «اللاأحد» بحسب الشعار الأسدي الشهير صُنِعَت عبر التفريغ السياسي والملء الطائفي، فإن كسر الحتمية التدميرية والنضال من أجل امتلاك السوريين للسياسة، أي من أجل الحرية، يسيران معاً. أفق النضال من أجل الحرية لا يرتسم أبداً في تناول فان دام. كل شيء يجري ما دون السياسة وما دون الديمقراطية في كتابه.
والغريب أن الكاتب الذي يستخدم الطائفية كمقولة تفسيرية طوال الوقت يفكر فيها كشيء ذي علاقة بالمشاعر الدينية. يقول مثلاً أنه حتى عندما كانت دوافع القادة البعثيين العلويين طائفية، فإنه ليس التدين ما كان محركهم، بل «الانتماء الأوسع إلى الجماعة العلوية». لكن الطائفية عند العلويين وغيرهم ليست مسألة تديّن، بل هي مسألة عصبية أو «انتماء أوسع». ولذلك هناك طائفيون غير مؤمنين وعلمانيون، مثلما هناك طائفيون متدينون. يفترض المرء أن هذا من الألف باء، بخاصة ممن تشغل الطائفية كل هذه المساحة من تفكيره.
ويتصل بالحتمية الطائفية، في تناول فان دام، تصورٌ للزمانِ وتتابعِ آناتهِ قائمٌ على استمرارية مستوية متجانسة مثل طوائفه. يأتي على ذكر التوريث كأنه تطور طبيعي وليس تحولاً رجعياً كبيراً أو تتويجاً لتحول كبير، انتهت بفعله الجمهورية رسمياً وصارت سورية حكماً سلالياً، يقوم على السيادة والامتيازات، لا على السياسة والمواطنة. فان دام يخفق في رؤية النقلة النوعية لأن مقدماته الدولتية الثقافوية، وحتميته الطائفية، تميل إلى أن ترى الحدث بعد حدوثه كشيء كان محتوما قبل الحدوث. الواقع أنه ليس هناك حدث في كتابه، ليس هناك خيارات للفاعلين، ليس هناك سياسة، وبالطبع ليس هناك حرية. هناك بنيات طائفية طبيعية، والزمن هو زمن التجلي الحتمي لهذه البنيات اللازمنية. أغرب من ذلك، وأسوأ سياسياً، أن الرجل يتكلم على التدخل الروسي كأنه بدوره من يوميات الصراع، وليس تحولاً انعطافياً بالغ الضخامة، وقفزة كبرى إلى الأمام في نزع وطنية الدولة ووقوع البلد تحت شكل متوحش من الاستعمار. وتظهر داعش كأنها تحقق لممكن كان مطوياً في البيئات السنية دوماً، وليست تحولاً نوعياً بدوره، يستبعد أن ينقضي القول فيه خلال سنوات طويلة.
وليست العلاقة خارجية بين الحتمية الطائفية والاستمرارية الزمنية في تناول الكاتب والدبلوماسي الهولندي. زمن الحتميات هو زمن متجانس، لا مفاجآت فيه ولا منعطفات خطرة. ليس هناك قطائع وانفصالات في تناول فان دام، ليس هناك انفجارات وانهدامات زمنية، ليس ثمة قفزات إلى الأمام أو الوراء، يسير الزمن رتيباً على الخطو ذاته أياً يكن ما يحدث أو لا يحدث، ويصب صباً محتوماً في تدمير سورية. يرث بشار الحكم عن أبيه، تتفجر ثورة، تتدخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ثم تدعو جمهورية روسيا الاتحادية لمشاركتها التمتع بحماية الجمهورية العربية السورية، تظهر داعش، تتعايش خمس احتلالات و«كسور» في سورية… كله استمرار طبيعي في تحليل الكاتب والدبلوماسي الهولندي. ثمة فقدان لحس التحول وحس الحدث المُغيِّر أو الانعطافي، يشير في تصوري إلى فقدان الحس التاريخي، أو انحلاله في استمرارية متجانسة، لا تاريخية.
وما كان للاعتراف بالحدث وبالانعطافات، ولا بتقرير أمين لبنية النظام كنظام للتمييز الطائفي خلال نصف قرن، ما كان ليقتضي من فان دام السكوت على تدخلات قوى إقليمية ودولية أخرى، الأتراك وقبلهم الإيرانيون، السعوديون والقطريون، الأميركيون وقبلهم الإسرائيليون، ولا من وجه آخر تسليط الضوء على ظهور غيلان وكائنات مستحيلة مثل القاعدة وداعش، لكن كان من شأنه أن يرسم لوحة أغنى بالألوان والتفاصيل، وتصلح أرضية أكثر ملاءمة للتفكير بمخارج سياسية معقولة، كيلا نقول عادلة، لتسوية من نوع ما. فان دام على معرفة تاريخية كافية للقول إن التطييف والتدخلات الخارجية سارا يداً بيد منذ أيام المسألة الشرقية، وأن فرصة الحد من التدخلات الخارجية مرهونة بالعمل على داخل وطني نشط ومتفاعل. لكن حتميته الطائفية تمنعه من التفكير في البدائل السياسية والأخلاقية التي يفكر فيها مناضلون سوريون، لا يذكرهم قط إلا بصورة مواربة.
لا يقتصر أمر طرح فان دام على أنه لا ينفتح على ضرورة تغير البيئة السياسية السورية التي تفجرت فيها حربان كبيرتان خلال ثلاثة عقود، وحولت الجمهورية في سورية إلى مُلك عائلي؛ الواقع أنه لا ينفتح حتى على تسوية مجحفة، يخسر فيها معارضو النظام بصورة حاسمة، لكن ربما يعيشون بأمان وبحد أدنى من التعددية والتمثيل في بلدهم. لا يقول الرجل إن النظام، الذي كان يحكم سورية طوال أكثر من أربعة عقود وقت اندلاع الثورة، لم يعرض في أي وقت مشاركة في السلطة على أي معارضين، ولا حتى استعداداً لحوار سياسي علني. فان دام يعطي نفسه وقُرّاءه الانطباع بأن «تدمير وطن» السوريين ليس مكتوباً في «الأسد أو لا أحد»، بل في العمل على كسر هذه البنية العدمية.
بفعل بنيتها الثقافوية والدولتية، صارت مقاربات المينستريم الغربية، ومنها مقاربة فان دام، متوقعة جداً إلى درجة أن المرء لا يكاد يتعلم منها شيئاً. يضاف إلى الفشل السياسي والأخلاقي المعهود فشل تحليلي متفاقم. المنهج العملي لهذه المقاربات هو في الغالب منهج إدارة الأزمات وفض النزاع، أي انتحال موقع الحكم المنصف الذي يقف في منتصف المسافة تماماً بين طرفين. قضايا العدالة تغيب كلياً في هذا المنهج الميكانيكي، وقضايا السياسة لا تحضر. التمثيل وبنية الدولة ونزع الطائفية والحقوق والحريات العامة، وتجريم التعذيب… كله خارج التناول. وهذا يضع فان دام، وقد كان مبعوثاً للحكومة الهولندية في شأن سورية بعد الثورة، على يمين الحكومات الغربية التي لا يلومها على ترك السوريين يُقتلون أو على إضعاف المعارضة وتقسيمها، أو على ضمان بقاء نظام إبادة في المؤسسات الدولية، بل أساساً على مساعداتها المحدودة والمتقلبة لمعارضي النظام. في مقدمة الطبعة العربية لكتابه يلوم المؤلف الحكومات الغربية على طلبها تنحي بشار الأسد بسبب الفظاعات التي «قيل إن النظام السوري ارتكبها ضد المتظاهرين المسالمين المزعومين»، قبل أن يضيف أنهم بذلك أرادوا من «الرئيس الشرعي أن يوقع طوعاً على قرار إعدامه». «قيل» و«مزعومين» و«رئيس شرعي»؟ رجل مُنعَم من أمستردام يصف الحاكم القاتل، وارث الحكم عن أبيه، المسؤول عن قتل فوق 90% من مئات ألوف الضحايا من محكوميه، راعي التعذيب والمُعذِّبين، مستخدم السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة ضد المدنيين، الذي سلَّمَ بلده لدولتين أجنبيتين كي يبقى في الحكم، يصفه بأنه رئيس شرعي. ألم تكن الكتابة مسؤولية في زمن مضى؟
وهذا كله ليس لأن فان دام يحب النظام، فهو يصفه بالدكتاتوري (وهذا وصف كسول في رأيي). لكن الرجل يضع نفسه وفق تقليد مترسخ في الاستشراق، ثم في دراسات الشرق الأوسط، في موقع «موضوعي» فوق صراعات مدمرة و«غير عقلانية» تجري في المنطقة. على عمق قليل تحت جلد هذا التقليد هناك نفور السيد من تابعين متعثرين، وهناك تماه ممتنع، تغذّيه وقائع الطبقة والثقافة معاً.
ويكمل انتحالَ الموقع العقلاني، غيابٌ مطردٌ في تناول فان دام ونظرائه من الخبراء الغربيين في الشرق الأوسط لما يتصل بالجانب الانفعالي أو العاطفي للصراعات السياسية، مخاوف السوريين أو أي قطاعات منهم وآمالهم، ما ينتابهم من مشاعر الذل أو الكرامة، والعار أو الاعتزاز، الغضب واليأس، أبطالهم ورموزهم، كل ما يحيل إلى الذاكرة التاريخية الحديثة والمعاصرة، وتجاربها ومآسيها. كان من شأن ذلك أن يساعده في الإجابة على سؤال: لماذا ظهر كل هذا الغضب في سورية؟ ماذا يعني أن يصرخ سوريون يلعن روحك يا حافظ؟ لماذا لجأ سوريون بالملايين إلى القريب والبعيد من البلدان؟ ليس أن هناك شيئاً خفياً وغير عقلاني وراء ذلك، بل تاريخ وفواجع لا يهتم برؤيتها فان دام، أو من يحيل عليهم مثل روبرت فسك. فكأننا يمكن أن نتكلم على فلسطين والفلسطينيين دون النكبة ومسلسل التحطيم المستمر منذ ثلاثة أرباع القرن وأكثر، أو على يهود أوروبا دون الهولوكوست. أو عن أوروبا دون التاريخ الكولونيالي ودون الحرب العالمية الثانية. هناك شيء متأصل من الذاتية واللاعقلانية في هذا التناول الموضوعي والعقلاني المزعوم الذي لا يحاول أصحابه قط النظر في عوالمهم هم الانفعالية، أو تحليل أنفسهم وفحص ضمائرهم حيال مجتمعاتنا. ليس هناك خبير غربي واحد في حدود ما أعلم مَهَّدَ لكتابٍ له بمُساءلة نفسه وميراثه وتأهيله، أو نَظَرَ نقدياً في علاقته بالمجتمعات الشرقية أو الشرقأوسطية المدروسة. الباحث الغربي موضوعي طبعاً، عقلاني طبعاً، مبرأ من الأهواء الطائفية والقومية والطبقية طبعاً…، لكن هذا كله غير صحيح طبعاً، وتبطّنه علاقة سلطة مرسخة إلى درجة أن البحث الغربي يأنف، وربما يشعر بالإهانة، من أن يُوضَعَ ضميره البحثي تحت المُساءلة.
وبمناسبة ذكر فِسك، وعلى نحو يضيء هوى فان دام، يحيل الرجل في موقع من كتابه إلى تقرير عن مذبحة داريا كتبه صديق المخابرات المذكور إثر مرافقته لقوات النظام وهي ترتكب المذبحة (فِسك قال كاذباً إن معارضين محليين هم من قتلوا الأهالي) في تموز 2012. فان دام يقول إن «المعارضة» انتقدت فِسك لأن تقريره كُتب أثناء مرافقته لقوات النظام. وهو لا يعلق على أن مرافقة الصحفي لقوات عسكرية غير مقبول مهنياً، وأن فِسك ذاته كان ندد بالصحفيين المرافقين للقوات الغازية أثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003. أهم من ذلك، يورد فان دام عنوان مقالة فِسك وموقع نشرها وتاريخها، لكنه يغفل أن يضع بين يدي القارئ أي معلومات عن «نقد المعارضة» لتقرير الصحفي البريطاني. بدلاً من ذلك يحرص على تنوير القراء بتقرير عن مجزرة «ارتكبها سنّة من الإسلام المتطرف» في تموز 2013، أي بعد عام كامل من مجزرة داريا، دون أن يتبين القارئ صلة بين الأمرين! المؤلف بالمناسبة لا يصف النظام قط بالتطرف، ولا من باب أولى بالإرهاب.
جدير بالذكر أن «المعارضة» التي انتقدت فِسك هي ريم العلاف وكاتب هذه السطور، وقد رددنا كمواطنين سوريين وناشطين وكاتبين. وكان أليق بـ«الزميل» نيقولاوس أن يورد مضمون نقدنا وتاريخه ومكان نشره مثلما فعل بخصوص التقرير المشين لصديق المخابرات الأسدية فِسك. هذا الأخير ثابَرَ خلال سنوات على إعطاء صوت في تغطياته لسورية لأمثال بثينة شعبان وضباط مخابرات النظام، بمن فيهم القاتل جميل حسن، ولم يعط صوتاً لأي معارض سوري قط.
ويصعب الحفاظ على حد أدنى من حسن الظن بالمؤلف حين يقتبس غير مرة في كتابه من كتاب مفعم بالتزوير والانحياز لتيم أندرسون، وهو أسترالي مُنكِر لفظائع الأسديين، ويفسر كل القضية السورية بأنها مخطط أميركي لتغيير النظام. فان دام يحيل إلى هذا الكتاب الذي تُنكَرُ فيه مجزرة الحولة والبراميل المتفجرة والمذبحة الكيماوية، وتُتبنى فيه بالكلية رواية النظام، بل رواية مخابرات النظام عن الصراع السوري وعن معارضي النظام، اليوم والأمس، وتتصدر الكتابَ صورةٌ لمؤلفه مع بشار الأسد. هذا مَسلك غير محترم. وهو يُظهِرُ وجهاً غير مستقيم لكتاب فان دام: استعداده، وهو من «المينستريم»، لأن يحيل حتى إلى مناهض مُزيِّف للامبريالية وموتور في عدائه للقضية السورية، إن كان هذا يضفي صفة نسبية على جرائم النظام. هذا ليس مسلكاً مغرضاً سياسياً فقط، وإنما هو مفتقر كلياً للرصانة البحثية كذلك.
فان دام وفيٌ لمنهج اختصاصيي الشرق الأوسط الغربيين في إنكار الولاية (Agency) المعرفية والسياسية والأخلاقية لمدروسيه الشرق أوسطيين. قبل حين، زكّى خمسة كتب مهمة عن سورية، ولم يكن بينها كتاب واحد لسوري، أو لغربي يفكر في القضية السورية كقضية عدالة أو ديمقراطية أو تحرر. المحليون غير عقلانيين، والعقلاني هو باحث غربي، يشبه جوشوا لاندس الذي يصف كتاب فان دام بأنه «أفضل ما كُتِبَ عن الحرب الأهلية السورية بلا جدال»، باحث يغلب أن يكون رجلاً أبيض من الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ويتحرك في دوائر النخبة في بلده وفي أي بلد آخر.
في المحصلة، يخفق فان دام في بناء موقف أخلاقي واضح يدين الطغمة التي نزعت ملكية سورية من سكانها، قبل أن تسلمها لحماتها الأجانب، وهذا دون أن يتقدم قيد أنملة في بلورة تصور لمخرَج سياسي من «تدمير الوطن» السوري. الواقع أن خاتمة كتابه هي تسليم تام بالفشل. يراهن على تحقق أعجوبة حل سياسي، قال لنا طوال كتابه إنه ممتنع وإنه لم يكن ممكناً تجنب الحرب السورية، ولم يجد ما يحثنا على الأمل بالأعجوبة غير الإيمان بأنها ستطرق أبوابنا يوماً.