لو أراد باحثٌ أو مهتمٌ أن يعرف أكثر عن العيش في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، وأن تتشكل لديه صورة شاملة قدر الإمكان عن ظروف هذا العيش وآماله وآلامه، فإن زيارة موقع فوكس حلب الإلكتروني وسيلة أساسية للحصول على معرفة تفصيلية وافية بهذا الخصوص. في الموقع مقالات وفيديوهات وصور متنوعة من الشمال السوري وعنه؛ عن الغذاء والصحة والتعليم والخدمات، وعن التجارة والزراعة والصناعة، وعن التطورات السياسية والميدانية وتفاعل السكّان معها وآرائهم فيها.
يتضمن الموقع أيضاً مقالات رأي سياسية، وكذلك نصوصاً من طبيعة أدبية تتناول قضايا ذات صلة بالثورة السورية أو تاريخ البلد، لكن ما يقدمه الموقع على نحو استثنائي هو الصحافة المحلية، التي نجدها فيه عامرة بالحياة وزاخرة بالوجوه والأسماء، تحضر فيها أصوات عموم الناس أكثر مما تحضر فيها آراء الخبراء والمسؤولين وأصحاب القرار.
ترجع أقدم منشورات فوكس حلب إلى مطلع تشرين الثاني 2014، عندما صدر العدد الأول من المجلة، الذي يمكن تحميله بصيغة بي دي إف من الموقع، كما يمكن العثور أيضاً على بعض مواده متفرقة على أقسام الموقع الداخلية. يبدو أن الفكرة كانت في البداية إصدار أعداد من مجلة دورية تتعلق بمدينة حلب بالذات، ذلك أن افتتاحية العدد الأول، التي حملت عنوان «لهذا فوكس حلب»، جاء فيها: «حلب .. أقدم مدن التاريخ، ومن أكبرها في سوريا والمشرق، باتت اليوم “المدينةَ الأخطر في العالم”. ولأنّنا نطمح إلى إعادة الدور الريادي في حلب على كافة الأصعدة الحضارية، حتّى يصبحَ لها صوتها المستقل والحر، أوجدنا مجلّة خاصة تعنى بشؤونها السياسية والثقافية والإجتماعية وهي فوكس حلب».
كان واضحاً في تلك الافتتاحية أن حلب لن تكون الشأن الوحيد الذي ستتناوله المجلة، لكن ما كان واضحاً أيضاً هو أن حلب ستكون الميدان الرئيسي للعمل والنشر. واليوم، توقّفَ صدور المجلة الدورية منذ صيف العام 2018، وبات ميدان العمل الرئيسي سائر مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، مع نسبة وازنة تتناول إدلب وظروف العيش فيها على وجه الخصوص.
سنحاول الآن أن نرافق فوكس حلب في طريقها الذي عبرته، من مجلة دورية تعنى بشؤون مدينة حلب في خريف العام 2014، إلى موقع إلكتروني ينتشر مقالات يومية تتناول جوانب الحياة في الشمال السوري. وسنبدأ مع تيم علي، الذي يظهر اسمه بوصفه رئيس التحرير على جميع أعداد المجلة الدورية، حتى آخر أعدادها، العدد الرابع والعشرين الذي صدر في مطلع تموز 2018.
البداية من حلب
ليس تيم علي اسماً صريحاً لشخص بعينه. هذا ما يُخبرنا به علي الخابور، أحد مؤسسي الموقع، والذي لا يزال يعمل معه حتى الآن، دون أن يظهر اسمه الصريح في أي مكان. وعلي الخابور هو صحفي وناشط من أبناء مدينة حلب، من مواليد 1986، ويقول إن تيم علي هو اسم مستعار تم اختياره لأنهم كانوا يرون أنه لا بد أن يكون لمجلتهم رئيس تحرير، لكن أياً من مؤسسي الموقع الأوائل لم يكن يمتلك الخبرة الكافية التي تؤهله لشغل موقع كهذا فعلاً، فضلاً عن أن أغلب العاملين في فترة التأسيس فضلوا أن يستخدموا أسماء مستعارة، لضمان سلامتهم في أجواء العسكرة والحرب والفصائل المتعددة التي كانت تسيطر على أحياء حلب الشرقية، بحيث أنهم إذا خاضوا في أمر أزعج جهة مسلحة نافذة ما، فإن تيم علي، الذي لن يجده أحد، هو من يتحمل المسؤولية.
يقول علي الخابور: «أردنا أنا وزملائي أن نؤسس مشروعاً إعلامياً، ولأننا قَدَّرنا أننا لن نستطيع منافسة عشرات الشبكات الإعلامية والمواقع الإخبارية في سرعة نقل الخبر، وأننا لن نستطيع تغطية سائر الأراضي السورية، فقد اخترنا أن يكون مشروعنا معنياً بحلب بالدرجة الأولى، وأن يكون تركيزنا على زوايا ومسائل معينة سياسية وميدانية ومعيشية»؛ يقول «كان بدنا نفوكس على أشياء معينة، ونفوكس على حلب» فكان الاسم «فوكس حلب».
يشرح علي أنهم كانوا متحمسين في البداية، وكانت خطتهم أن ينشروا عدداً كل 15 يوماً، وهو ما تم تنفيذه في الأعداد الثلاثة الأولى، ولكن «لم يكن لدينا مصدر تمويل، وانشغل كل منا بضرورة البحث عن مصدر للعيش، ولذلك لم نتمكن من الاستمرار بالوتيرة نفسها، وقد أصدرنا العدد الرابع في الأول من نيسان 2015، وبالتزامن معه كنا قد بدأنا تواصلاً مع شبكة إنترنيوز، التي قدمت لنا منحة جزئية أولى ساعدتنا على الاستمرار بشكل أكثر انتظاماً، أعقبتها منح جزئية مماثلة أخرى في السنوات اللاحقة. كما تكفّلت إنترنيوز بتأسيس موقع إلكتروني لنا وإدارته، بعد أن كنا ننشر أعدادنا بصيغة بي دي إف ونشاركها عبر وسائل التواصل الاجتماعي».
يقول الخابور إن عمله الأساسي كان موزَّعاً بين التواصل مع الجهة الداعمة، وإدارة عمل الفريق والتنسيق بين أعضائه، والمساهمة في اختيار المقالات وموضوعاتها وتحريرها. ويقول أيضاً إن فريق الموقع تلقى مساعدة ثمينة منذ البداية من الصحفي اللبناني مهند حاج علي، الذين كان يساعدهم في التحرير وإخراج الأعداد والإشراف على شكلها النهائي، ولاحقاً من الكاتب والصحفي السوري كميّ ملحم، المحرر والمدرب لدى عدد من المنظمات والمؤسسات الإعلامية العالمية والعربية، والذي قدّم ولا يزال يقدم حتى الآن مساهمة استثنائية بالغة الأهمية، في المساعدة على التحرير وإدارة العمل وتقديم المشورة، ذلك بالإضافة إلى التدريب والمساندة المستمرة من شبكة إنترنيوز.
تتالى صدور الأعداد تباعاً، وتضمنت مقالات متنوعة عن جوانب متعددة سياسية وتاريخية ومعيشية وميدانية متعلقة بحلب وريفها، بالإضافة إلى حضور بارز لصور من داخل أحياء حلب الشرقية كان يلتقطها المصور جلال المامو. يقول الخابور إنه كان «هناك صعوبات ناتجة عن تصاعد المعارك والقصف وتعقيد الأوضاع في حلب، حالت دون أن يكون الصدور منتظماً، كما أن انشغال الناس بمتابعة الأخبار اليومية المتعلقة بالتطورات الميدانية، والإمكانيات المحدودة لدى فريق المجلة، حال دون دون قدرتنا على بناء جمهور كبير من المتابعين. ولكن رغم الإحباط الناتج عن هذه الظروف، وعن استمرار الأوضاع الكارثية في سوريا عموماً، كان لدينا إصرار على مواصلة العمل، واثقين من أن عملنا سيؤتي ثماره ذات يوم». يضيف الخابور أن المشروع كان يحتاج إلى دفعة استثنائية من شخص يؤمن به وينضم إليه، ويمتلك في الوقت نفسه خبرة في مجال التحرير الصحفي، وجاءت هذه الدفعة مع انضمام الكاتب والصحفي مصطفى أبو شمس إلى الفريق عام 2016.
مقالة يومية إلى جانب المجلة الدورية
صدر العدد السابع من مجلة فوكس حلب في منتصف شباط (فبراير) 2016، وفيه كانت المساهمة الكتابية الأولى من مصطفى أبو شمس، الذي سيصبح منذ ذلك الوقت ركناً أساسياً في مشروع فوكس حلب، والذي يعرفه قرّاء الجمهورية من خلال مساهماته في الموقع. يقول أبو شمس إنه منذ تعرّفَ على المشروع أول مرّة أحبَّ أن يكون مساهماً فيه، وهو الذي قضى أغلب سنوات عمره في مدينة حلب، ويرغب أن يساهم في استمرار مشروع يحمل اسمها ويتحدث عنها وعن أهلها. ومنذ العدد الثامن، الذي صدر في آذار (مارس) 2016، أصبحت علاقته بالموقع وفريقه منتظمة، وبدأ العمل معه كمحرر أساسي مسؤول عن نشر مقالات في الموقع، منفصلة عمّا يتم نشره في المجلة الدورية، التي واصل مشاركته فيها ككاتب مساهم أيضاً، ثم كمحرر منذ العدد الثاني عشر في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه.
يقول علي الخابور إن ما دفعهم إلى التفكير في البدء بنشر مقالات يومية خارج الأعداد الدورية، هو حاجتهم إلى تنشيط صفحة فوكس حلب على فيسبوك عبر تغذيتها بمنشورات يومية، وأيضاً شعورهم بالحاجة إلى مواكبة الأحداث المتسارعة، بحيث لا يكونون مضطرين لانتظار صدور الأعداد الدورية. وعن تلك المرحلة يقول أبو شمس: «بفريقنا الصغير، الذي كان يشمل ثلاثة مراسلين في مدينة حلب، وبعض الكتاب المساهمين والمحررين والإداريين خارجها، واصلنا التركيز على تقديم زوايا استثنائية من تغطية الأحداث في أحياء حلب الشرقية، وأحياناً ريف حلب، مع محاولة الحديث عن معالم وتاريخ المدينة التي كان يتم تدمير شطرها الشرقي بشكل حثيث، ويتم ارتكاب المذابح فيها بشكل شبه يومي. وقد قررنا أن تنقسم المواد إلى مقالات أطول تنشر في المجلة الدورية، ومقالات أقصر وأكثر آنية تُنشر في الموقع خارج الأعداد».
كانت تلك الأشهر حاسمة في تاريخ مدينة حلب، إذا أن أحياءها الشرقية كانت قد حوصرت تماماً منذ تموز 2016، ثم استمرت المعارك وحملات النظام المدمرة حتى أنتهت أواخر العام نفسه بتهجير سكان الأحياء الشرقية، ومنهم المراسلون الثلاثة الذين كانوا يعملون لصالح فوكس حلب.
الخروج من حلب
يقول مصطفى أبو شمس إن الأثر الذي أحدثه سقوط أحياء حلب الشرقية في قبضة النظام على المشروع كان كبيراً جداً؛ «لقد خسرنا إمكانية العمل في المدينة التي لم يعد لدينا مراسلون فيها، وتم اقتلاع سكّان الأحياء الشرقية منها. وإلى جانب هذه المشكلة العملية المباشرة، كان هناك الانهيار المعنوي والإحباط، وتبعثر أعضاء الفريق، وتوقف عدد منهم عن العمل. كان الامتحان الأكبر هو امتحان الاستمرار». وبعد نقاش وتفكير عميق، قرّر الفريق أنه لا ينبغي أن تتحول فوكس حلب إلى موقع ينقل أخبار منطقة لا يستطيع أحد من فريقه الوصول إليها على أرض الواقع، كما أنهم لم يريدوا العمل على بناء شبكة مراسلين هناك فيما لا يستطيعون حمايتهم من بطش أجهزة النظام الأمنية، ولا أن يصبحوا موقعاً ينقل شائعات وأخباراً غير موثوقة، أو يعيد نشر أخبار جاهزة منشورة هنا وهناك. يشرح أبو شمس: «توصّلنا في النهاية إلى أن حلب لم تعد كلّها في حلب، إذا بات كثيرون من أبنائها مبعثرين في أرياف إدلب وحلب، ويمكننا متابعة شؤونهم وتغطية ظروف حياتهم، التي لا تنفصل عن ظروف حياة سكّان سائر المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال».
هكذا قرر أعضاء الفريق أن يوسعوا مساحة عملهم بحيث تشمل سائر المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، لكن دون أن يتغير الاتجاه العام للموقع، من حيث تركيزه على تناول «ما يقع وراء الأخبار من حياة يومية زاخرة ومشكلات وتحديات معيشية» بحسب تعبير أبو شمس. ولكن هذا التحدي كان يتطلب توسيع مساحة الرؤية والرصد والمتابعة، ويتطلب بالتالي شبكة أوسع من الصحفيين المنتشرين على مساحة جغرافية أكبر، ولتلبية هذه الحاجة، كان الخيار بحسب علي الخابور وأبو شمس هو الاتجاه إلى العمل مع شباب وشابات يقطنون مختلف مناطق الشمال السوري، وعلى وجه الخصوص من طلاب وطالبات معهدي الإعلام في جامعة حلب الحرة وجامعة إدلب، بالإضافة إلى مواطنين صحفيين ليس لديهم خبرة طويلة في الكتابة الصحفية، بحيث «يكون عملهم معنا بمثابة تدريب لهم ومصدر دخل صغير يساعدهم على مواجهة أعباء الحياة، ويكون أيضاً تدريباً لنا على العمل الصحفي الاحترافي وإدارته، ومساهمةً تفتح الباب على استمرار المشروع رغم تمويله المتواضع، ورغم كارثة الخروج من حلب».
توقف المجلة واتساع عمل الموقع
استمرت أعداد المجلة بالصدور خلال العام 2017 والنصف الأول من العام 2018، وبالتوازي معها ازداد عدد المقالات والتقارير الصحفية اليومية، وأخذت تدريجياً شكلاً أكثر وضوحاً. يقول أبو شمس: «أردنا أن يكون إنتاجنا الصحفي اليومي ملتصقاً بالمعيشة اليومية للناس أكثر من التصاقه بالحدث السياسي والعسكري، أما المجلة، فقد قررنا أن تكون مخصصة للحديث عن مدينة حلب قدر الإمكان، عبر تقارير وتحقيقات مطولة نعتمد فيها مصادرنا الخاصة المحدودة، أو عبر مقالات تستعرض بشكل مفصل جوانب من تاريخ المدينة أو معالمها. لكن الاستمرار في هذا كان أمراً صعباً، فتوجهنا لاحقاً إلى إنتاج إعداد ثيمية، مثل العدد الثاني والعشرين في آذار 2018 الذي كان مخصصاً للحديث عن المعابر في الشمال. في النهاية، قررنا أن نتوقف في منتصف 2018 عن إصدار الأعداد».
عن أسباب اتخاذ القرار بإيقاف الأعداد، يقول علي الخابور إنها «كانت تستهلك جهداً ووقتاً ومخصصات مالية كبيرة، مع مردود قليل من حيث المتابعة والانتشار، وهكذا فضلّنا أن نقتصر حالياً على نشر المقالات يومياً في الموقع، وعلى تطوير إنتاجنا بحيث يشمل الفيديو أيضاً، مع احتمال أن نرجع إلى إصدار أعداد لاحقاً عندما تتوافر لدينا الإمكانيات والرؤية الواضحة. والأرجح أننا سنعود إلى إصدارها على شكل مجلة فصلية كل ثلاثة أشهر، يتناول كل عدد منها موضوعاً معيناً ويغطيه من كافة جوانبه».
إدارة تشاركية وعملية تدريب مستمرة
يشرح كل من الخابور وأبو شمس أنه ليس هناك هيكلية تراتبية معلنة حتى الآن في فوكس حلب، وليس هناك رئاسة تحرير وإدارة تحرير مرتبة هرمياً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل يتم اتخاذ القرارات الرئيسية بشكل جماعي، فيما يلعب مصطفى أبو شمس دور كبير المحررين، ويقوم علي الخابور بمهام الإدارة والتنظيم والتواصل بشكل رئيسي حتى الآن.
يتجاوز عدد العاملين في الموقع الآن الأربعين شخصاً، يقومون بمهام الكتابة والتحرير وإدارة الموقع وجمع المعلومات والتصوير وتحرير الصور وإعداد الفيديوهات وتحريرها فنياً، منهم 32 صحفياً في الداخل السوري، نصفهم من النساء ومعظمهم شباب وشابات في بدايات عملهم الصحفي، بعضهم يعمل مع الموقع بموجب اتفاقات ثابتة تتضمن التزاماً بإنتاج كمية محددة من العمل مقابل مرتبات صغيرة، وبعضهم يعمل بصيغة «فري لانس». لكن هؤلاء جميعاً يشكلون هيئة تحرير عامة منعقدة بشكل دائم في غرفة مشتركة، يتناقشون بخصوص المقترحات والمواد والسياسة العامة للموقع. وبحسب أبو شمس والخابور، فقد تم اتخاذ قرار جماعي بعدم السعي للحصول على تمويل من جهات حكومية في أي دولة، ولا من أي تيار سياسي، أي عدم قبول تمويل مشروط سياسياً من أي نوع، وهو قرار مبدأي لا رجعة عنه.
يقول أبو شمس إن العمل كان، رغم صعوبته، ممتعاً ومفيداً جداً: «لقد نجحنا في تطوير مهاراتنا وعملنا بشكل جماعي، وبينما كنتُ أشرفُ على عمل الصحفيين والصحفيات وأحرر تقاريرهم ونصوصهم، كانت خبرتي في التحرير الصحفي تتطور تدريجياً، وكنت أرى كيف يقومون بتحويل ما لديهم من معرفة نظرية، حصلوا عليها من دراستهم في معاهد الإعلام أو من الورشات التدريبية، إلى تطبيق عملي يومي مباشر». وقد كان العائق الأبرز هو صعوبة الظروف الاقتصادية والأمنية، ومحدودية التمويل، والنزوح المتكرر لعدد من الصحفيين والصحفيات، ووجود جزء من الفريق خارج البلد في أوضاع غير مستقرة. ويشير أبو شمس إلى أنهم «عملوا على تذليل هذه الصعوبات من خلال التواصل اليومي، وتعميق فكرة أن العمل مع فوكس حلب هو فرصة للتدريب وبناء القدرات أكثر منه مورد دخل ثابت وكافٍ، وأيضاً من خلال تفهّم كل منا لظروف الآخر. كان بعض الصحفيين لا يملكون أجهزة كومبيوتر مثلاً، فكانوا يرسلون مقالاتهم على شكل رسائل واتس آب، ونقوم نحن بإعادة تنضيدها وتحريرها».
فاطمة حاج موسى هي إحدى الصحفيات في موقع فوكس حلب، وهي من مواليد العام 1993، من قرية سرجة في جبل الزاوية، وتعيش في مدينة الأتارب بريف حلب الغربي. تقول حاج موسى إنها تعرضت لإصابة بنيران النظام السوري أواخر العام 2011، أدت إلى تعطيل يدها مؤقتاً، وحالت دون قدرتها على الحصول على الشهادة الثانوية التي كان يفترض أن تحصل عليها في ذاك العام الدراسي؛ «عشتُ سنوات بالغة الصعوبة، وخضعتُ لعلاج طويل حتى استعدت قدرتي على استخدام يدي وقدرتي على الدراسة. حصلتُ على الثانوية العامة في إدلب عام 2017، وبعدها سجّلت في معهد الإعلام التابع لجامعة إدلب في العام الدراسي 2017-2018. كنتُ أشعر بإحباط كبير نتيجة تأخري سنوات عن أقراني، وكانت لدي مخاوف من أن لا أتمكن من الانخراط في العمل الصحفي، خاصة أن الدراسة النظرية في معهد مدته عامان لن تكون كافية. لكنني قاومتُ هذه الظروف، وبدأت منذ العام 2018 كتابة تقارير صحفية لعدة مواقع، كما تلقيت عدة دورات تدريبية، غير أن الانعطافة الرئيسية في حياتي كانت مع انضمامي إلى فريق موقع فوكس حلب منذ مطلع العام 2019».
تشرح الحاج موسى أن العمل مع فوكس حلب كان السبيل إلى تحويل معارفها النظرية إلى خبرة عملية: «كان مصطفى أبو شمس يعطيني كثيراً من الملاحظات، ويزودني دائماً برأيه وتصوراته عن الشكل الأمثل لإنتاج المادة الصحفية، ويسير معي خطوة خطوة منذ لحظة اقتراح الفكرة وحتى إنجازها. بالإضافة إلى ذلك، هناك نقاش مستمر في غرفة التحرير المشتركة، نتبادل فيه أنا والزملاء الآراء، ونساعد بعضنا بعضاً. لقد حولتني التجربة مع فوكس حلب إلى صحفية واثقة من نفسها، وأشعر بالفخر لأنني جزء من هذه التجربة، ولأنني عملت مع مصطفى أبو شمس وعلي الخابور وسائر الزملاء في الموقع».
الصحفية منيرة بالوش تقول كلاماً مماثلاً عن تجربتها في موقع فوكس حلب، وتشرح أن العمل مع الفريق أشبه بورشة تدريب مستمرة؛ تقول «كل مقال أنجزه هو تدريب عملي بحد ذاته، وخاصة مع الملاحظات التفصيلية التي يقدمها لنا مصطفى أبو شمس بصبر كبير، وقد منحنا هذا الأسلوب نموذجاً استثنائياً من علاقة المحرر بالكاتب يقوم على الشراكة واحترام العمل، كما أن النقاش والتعاون الجماعي في بناء الأفكار وتأمين المصادر يجعلنا نشعر أن فوكس حلب بيتنا».
منيرة بالوش من مواليد 1989، تخرجت عام 2011 من كلية الإعلام في جامعة دمشق، لكنها لم تتمكن من الدخول العملي في مهنة الصحافة بسبب تزامن ظروف شخصية مع ظروف الثورة والحرب ثم الحصار، الذي انتهى بتهجيرها مع عائلتها من وادي بردى بريف دمشق إلى إدلب عام 2016، وقد تمكنت بعدها من بدء حياتها العملية. وهي تقول إن المسافة الزمنية الطويلة الفاصلة بين تخرجها وبدء العمل كانت عائقاً كبيراً، حاولت تجاوزه ونجحت في نشر عدد من النصوص والتقارير الصحفية في مواقع عدة، غير أن تجربتها مع فوكس حلب، التي بدأت صيف 2019، هي التي قدمت لها الدفعة الأساسية التي جعلتها تشعر أنها بدأت فعلاً بتعويض ما فاتها.
الطموحات تتحول إلى وقائع ملموسة
خلال هذه السنوات كلها، من أوائل 2015 وحتى أواخر 2019، كان الموقع يعتمد على دعم مالي من جهة واحدة فقط هي شبكة إنترنيوز، التي كانت تقدم منحاً جزئية تشمل عدة أشهر من كل عام، بحيث أن متوسط تمويل فوكس حلب كان أقل من ألف دولار شهرياً خلال تلك السنوات الخمس، مع مواصلة الشبكة تقديم الدعم للمشروع بالتدريب والاستشارة.
في النصف الثاني من العام 2019، كان موقع فوكس حلب قد قطع أشواطاً مهمة على صعيد الانتشار والمتابعة والإنتاج الصحفي، وحصل على منحة صغيرة من منظمة فري بريس آن ليميتد، لإنتاج مقالات بحثية تتعلق بالزراعة والأمن الغذائي في الشمال السوري، ثم على منحة من منظمة MiCT لإنتاج مقالات بحثية عن مصادر الثروة المائية في سوريا، ولا يزال إنتاج هذه المقالات مستمراً حتى الآن. يقول أبو شمس إن هاتين المنحتين عززتا من ثقة الفريق بأهمية عمله وقدرته على الاستمرار، ثم جاء العام 2020 حاملاً للفريق منحة هي الأكبر من شبكة إنترنيوز، تتضمن تمويلاً لمدة عام ونصف العام، ما عنى استقراراً مالياً أكبر، وقدرة على التخطيط والتوسع وتحسين الوضع العائد المالي الذي يحصل عليه العاملون في الفريق.
يقول أبو شمس: «كانت تلك دفعة معنوية كبيرة، وفكرنا بالتزامن معها أن نواصل العمل على الحصول على منح جزئية لتنفيذ مشاريع كهذه، وبدأنا نشعر أن اتساع العمل يتطلب أن نتجه تدريجياً إلى هيكلية وتنظيم أكثر وضوحاً، ويتطلب على وجه الخصوص أن يكون لدينا عدد من المحررين المحترفين، ومن المؤهلين لشغل مواقع في إدارة التحرير. وتوصلنا إلى أن هذه العملية ينبغي أن تتم بالاعتماد على الصحفيين والصحفيات العاملين في الفريق الآن. باختصار، قررنا أن ننتقل من مرحلة إعداد الصحفيين إلى مرحلة إعداد محررين ومدراء تحرير».
اختبار وانتخابات داخلية
هكذا تم الاتفاق على إتاحة المجال لجميع أعضاء الفريق من الصحفيين والصحفيات داخل سوريا لترشيح أنفسهم، كي يكون واحدٌ منهم مدير تحرير مؤقت تحت التدريب والاختبار لمدة ستة أشهر، فرشّحَ ثمانية منهم أنفسهم، خمسة صحفيين وثلاث صحفيات، وتم إجراء اختبار لهم وتشكيل لجنة لتقييمهم مكونة من صحفيين وإعلاميين محترفين من خارج الموقع، ودون مشاركة أي من محرري الموقع وإدارييه في عملية التقييم تلك. شمل الاختبار امتحان تحرير كتابي، ومقابلات شفهية معهم عبر الانترنت، وبنتيجة التقييم حصل صحفيان على درجات أهَّلتهما لخوض التجربة، وتم الاختيار بينهما عبر تصويت شارك فيه الصحفيون والصحفيات الاثنان وثلاثون، وفاز بموجبه محمد الأسمر، ليبدأ عمله كمدير تحرير مؤقت منذ مطلع آذار (مارس) 2020.
محمد الأسمر من قرية قمحانة بريف حماة، نزح في العام 2012 إلى ريف إدلب الجنوبي، ومنه إلى مدينة إدلب نتيجة حملة عسكرية كبيرة نفذتها قوات النظام مطلع العام 2020. كان محمد طالباً في قسم الأدب العربي في كلية الآداب بجامعة حمص، لكنه لم يتمكن من إنهاء دراسته بسبب ظروف الثورة والحرب، وقد عمل في السنوات الأولى للثورة كمواطن صحفي، يقوم تحديداً بتصوير المظاهرات ثم وقائع القصف العنيف الذي ينفذه النظام وآثاره الكارثية، ومنذ العام 2015 بدأ العمل كمحرر أخبار لصالح عدة مواقع وجهات، ثم منذ العام 2017 بدأ ينتقل من تحرير الأخبار إلى كتابة التقارير الصحفية والقصص الإنسانية لمواقع عدة، غير أن الانعطافة الرئيسية في مسيرته كانت مع الانضمام إلى فريق فوكس حلب عام 2018.
يقول الأسمر: «لعبَ مصطفى أبو شمس دوراً كبيراً في مساعدتي على تطوير قدراتي الصحفية، فقد كان يمنحني شطراً كبيراً من وقته في إعطاء الملاحظات على مقالاتي وتقاريري ومساعدتي في تطويرها. لقد تعلمت كثيراً من خلال العمل المباشر في فوكس حلب، وخاصة العمل التشاركي الذي نقوم به عبر غرفة التحرير المشتركة، التي نساعد فيها بعضنا بعضاً على تأمين المصادر وإنتاج الأفكار ومناقشتها، بإشراف مباشر ومستمر من مصطفى أبو شمس، وبمساعدة التدريبات الصحفية المتنوعة التي تلقيناها خلال عملنا».
أما عن تجربة العمل في التحرير وإدارته، فيقول الأسمر إن «هذه التجربة كانت صعبة، إذ وضعني الزملاء في مواجهة مسؤولية تلقي اقتراحات ونصوص ونقاشها مع الصحفيين والصحفيات والتقرير بشأنها وتحريرها. صحيحٌ أن هذه المهمات ليست على عاتقي وحدي، لكنها كانت مسؤولية وأمانة كبيرة، وسأترك الرأي بخصوص مدى نجاحي في هذه المهمة لزملائي بعد انتهاء فترة الأشهر الستة، لكن هذه التجربة منحتني القدرة على النظر إلى التقارير والنصوص الصحفية بعين المحرر الناقدة».
خاضت كل من فاطمة حاج موسى ومنيرة بالوش أيضاً تجربة الترشّح إلى موقع المحرر، ويبدو أن هذه التجربة كانت مفيدة جداً بالنسبة لهما رغم عدم نجاحهما فيها. تقول بالوش: «ساعدتني هذه التجربة على إدراك نقاط ضعفي، وزادت من شعوري بالانتماء إلى تجربة فوكس حلب وفريقها، وزادت من ترابط الفريق». وهو الأمر الذي تؤكده أيضاً فاطمة حاج موسى أيضاً، مضيفة أن «جميع الصحفيين والصحفيات شعروا أنهم مشاركون فعلياً في إدارة العمل واتخاذ القرارات بشأنه»، وعن الأثر الشخصي لهذه التجربة، تقول إن هدفها الأساسي كان معرفة نقاط ضعفها ونقاط قوتها، لكنها شعرت ببعض الإحباط لأنها كانت تعتقد أن مستواها أفضل مما ظهر عليه في الاختبارات، غير أنها تجاوزت الإحباط سريعاً بدعم من أعضاء الفريق، وبدأت تشتغل على تلافي نقاط الضعف التي ظهرت لديها في الاختبارات.
لعلّ أبرز ما يميز تجربة فوكس حلب هو هذه الروح التشاركية التي تظهر بوضوح لدى الجميع، وأنه رغم تواضع التمويل، الذي يعني أن أياً من العاملين في الموقع لا يمكن أن يعتمد عليه كمصدر دخل وحيد، ولا أن يكون متفرغاً تماماً للعمل فيه، فإن الجميع مصرون على مواصلة العمل أياً كانت الظروف، ويشعرون دائماً بالانتماء للموقع وتجربته.
صعوبات وطموحات كبيرة
فضلاً عن الصعوبات المتعلقة بالتمويل وإدارة العمل في ظروف المعارك والتهجير والنزوح المتكررة، تعترض سبيل فوكس حلب صعوبات أخرى تتعلق بتراجع مساحة العمل الصحفي الميداني في سوريا، وبالاستعصاء الذي وصل إليه مطلب الثورة السورية الأساسي بالحرية. ويحاول فريق فوكس حلب أن يواصل عمله وسط هذه الظروف، مدركاً أن هناك خطوطاً حمراء عديدة لا يستطيع الفريق تجاوزها لأنها قد تعرض أعضاءه للخطر، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالفصائل العسكرية وصراعاتها وسياساتها. يشرح أبو شمس: «يمكن بسهولة ملاحظة أن ميدان عمل فوكس حلب الرئيسي هو ما بقي خارج سيطرة النظام من ريف إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي. نغطي أحياناً مسائل تتعلق بمناطق سيطرة النظام، لكن الأمر يبقى في حدوده الدنيا نتيجة صعوبة الحصول على معلومات تفصيلية موثوقة تتوافق مع النوع الذي ننشره من المقالات، ونتيجة صعوبة ضمان سلامة من يعملون معنا هناك. نتناول أيضاً مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً في عفرين وريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، لكن المجال المتاح هناك ليس واسعاً، نتيجة احتياج أي صحفي يعمل هناك إلى تصاريح أمنية قبل الحصول على تصريحات أو معلومات تتعلق بأي شأن خدمي أو معيشي».
يؤكد بقية من تحدثتُ معهم من الصحفيين والصحفيات في الموقع ما يقوله أبو شمس، شارحين أن الأمر يتطلب عملياً موافقة جهات مرتبطة بالحكومة التركية قبل الحصول على تصريحات أو معلومات تتعلق بالتعليم أو الصحة أو الخدمات أو أي شأن عام. وبحسب محمد الأسمر، فإن فريق الموقع يحاول تغطية تلك المناطق عبر نصوص تستند أساساً إلى شهادات ومعلومات يحصلون عليها من خلال اللقاء بالناس في الشارع، أو شهادات ومعلومات مغفلة المصدر تماماً، مع محاولة الاقتراب من الخطوط الحمراء دون تجاوزها بشكل يعرض أي أحد للخطر.
في إدلب أيضاً ثمة مناورات دائمة قرب الخطوط الحمراء، لكن الفارق كما يشرح أبو شمس هو أنه «ليس هناك جهة مطلقة السيطرة في أرياف إدلب والأرياف القريبة منها، وحتى حكومة الإنقاذ وهيئة تحرير الشام، فإنها ليس جهات كلية السيطرة، وهي لا تسعى إلى، أو لا تستطيع، فرض رقابة صارمة كاملة على العمل الصحفي في مناطق تواجدها. رغم كل شيء، لا تزال مساحة الحرية المتوافرة في إدلب هي الأوسع، رغم أنها تضيق تدريجياً». ويحصل أن ينشر موقع فوكس حلب نصوصاً عن قضايا حساسة يمكن أن تثير حفيظة إحدى الجهات المسلّحة، لكن ما يحدث عندها هو العمل على النصوص بشكل جماعي، ونشرها باسم فريق التحرير.
لا ينشغل فريق فوكس حلب كثيراً بالمصير المستقبلي لعمله الصحفي، الذي قد يتغير شكله واتجاهه مجدداً نتيجة تغير الظروف الميدانية والسياسية، بل ينشغل باللحظة الراهنة أكثر، مع إصرار على مواصلة العمل واستثمار المساحات المتاحة إلى أقصى حد ممكن، ومع التمسّك بمبدأ أساسي يشرحه أبو شمس: «نحن منحازون للثورة السورية وأهلها، ومنحازون للناس في مواجهة كل جهة تسلطية. لسنا انتحاريين طبعاً، ولن نغامر بسلامة أحد، لكن المساحة التي خلقتها الثورة للعمل الصحفي لا يمكن إغلاقها مجدداً مهما حصل، وسنكون قادرين على التكيف مع الظروف المتغيرة، حاملين أملاً بأن المستقبل سيكون لصالح الحرية».
youtube://v/3Z9yv5U8D1U
يحمل كل من تحدثتُ إليهم من أعضاء الفريق طموحات شخصية كبيرة تتعلق بعملهم الصحفي، وطموحات تتعلق باستمرار مشروع فوكس حلب وتوسّعه وتطوره، وطموحات أكبر وأعمّ تتعلّق بتحرّر سوريا وأهلها من الطغيان. ويحمل علي الخابور ومصطفى أبو شمس وبقية مؤسسي الموقع الأوائل طموحاً آخر أيضاً: «لقد تم تهجير فوكس حلب من حلب، ونحلم باليوم الذي نعود فيه إلى العمل من المدينة وعن المدينة، إلى جانب استمرار عملنا الصحفي الذي يتناول سائر الشمال السوري، وربما سوريا كلها أيضاً… من يدري؟».