بعد طول انتظار، أطلقت الحركة النِسوية السورية ما قد يكون رديفًا للحملة العالمية لمناهضة العنف ضد النساء، التي بلغت أصقاع العالم، ومنحت القضية النِسوية دفعًا كبيرًا عالميًا، بيدَ أنها مرت بالمنطقة العربية مرور الكرام، وتجاوزت السوريات الواقعات في فخ الحرب والشتات على وجه الخصوص. ويبدو أن السوريات لم يجدنَ في شعارها «أنا أيضًا» ما يلائم بيئتهنّ القاسية، التي لم تسامح  يومًا على البوح وكشف المستور. لذلك لم تشهد الساحة السورية فيضًا من الشهادات الشخصية حول حالات العنف الجسدي والنفسي التي تواجهها النساء، في البيت والشارع وأماكن العمل والمرافق العامة وفي كل مكان.

أخيرًا وجدت النِسويات شعارًا جامعًا ومعبرًا وقويًا في آن، يرفع المعنويات في أوقات الضعف، من دون أن يكون سلاحًا ينجرحنَ به قبل غيرهنّ. الشعار الذي ارتضته السوريات لأنفسهنّ هو: ما رح أسكت!

في الحقيقة أحببتُ شعار «ما رح أسكت»، وأحسستُ أنه بالضبط ما نحتاجه كنساء، فنحن الأدرى كم نسكت ونساير ونُدارِي. ولطالما بحثنا عن حلول وسط في علاقاتنا، وتفاجأنا أن الحياة لا تعاملنا بالمثل. تريدنا ألّا نصرخ حين نتعب، ونبقى الجميلات الهادئات المضحيات الشفافات، والموجودات من غير أن نكون فعلًا موجودات. تريدنا أن نسكت، وتُعنفنا بتعريف أنوثتنا بالسلبية. هذا هو بالضبط العنف الباطني، الذي انبنت فوقه جميع أشكال العنف المعروفة والمعترف بها.

أؤيدُ «ما رح أسكت» لأني وجدتُ فيه معنيين. المعنى الأول هو أننا لن نقبل بعد الآن بتجاوز رغباتنا المعقولة وحدودنا النفسية والجسدية من قبل الأفراد والمجتمع. لن نتقبل الإهانة في العلاقات الحميمة والعائلية والمهنية، ولا التهميش والتجاهل في المجال العام. وسنعمل على حماية أنفسنا وتشذيب مخالبنا، ورفع أصواتنا بأننا نستحق الحب على قدر حبنا، والعطاء على قدر عطائنا، والاحترام لإنسانيتنا الكاملة. وأننا سنحاول استرداد لياقتنا كمُعنَّفات، ونفكر كيف نأخذ حقنا الذي لن نتنازل عنه.

والمعنى الثاني لهذا الشعار هو أننا سنواصل الجهر بنِسويتنا، والعمل على قضيتنا عبر تكريس تجربتنا الحياتية ومهاراتنا الشخصية في سبيل عالم تحظى فيه النساء بحماية من العنف بشتى أشكاله الظاهرية والرمزية. ولن نسكت على الظلم الذي يقع على المرأة لمجرد كونها أنثى، حتى لو كانت لا تشاركنا الانتماء القومي أو الديني أو السياسي، وسنمدّ يد العون للنساء رغم نجاحاتهنّ أو فشلهنّ، لأن الأختية هي قلب النِسوية. وسنشارك قدر الإمكان في خلق الظروف لعالم أفضل تعيش فيه الأجيال القادمة، نساء ورجالًا، على قدم المساواة، وفي حبِّ لا يعتمد على دونية طرف تجاه الآخر. كل هذا سيصبّ في آخر المطاف في مصلحة البشرية جمعاء والحياة.

بعد أن كتبتُ هذه المقدمة الحالمة والواعدة حول الحملة، تنبهتُ آسفة إلى أنها ما زالت لا تحتمل كل تلك التوقعات. فالحملة ليست مشروع الحركة النِسوية السورية بأسرها، وإنما أطلقتها في منتصف شهر حزيران منظمةٌ نِسوية واحدة على الساحة السورية، هي اللوبي النسوي السوري، بالشراكة مع راديو روزنة والمبادرة النسوية الأورومتوسطية. والخطة أنها سوف تستمر ستة أشهر فقط، وليست مفتوحة الأمد. أتساءل؛ هل اللوبي النسوي السوري مستعدٌ يا ترى أن يسلّم المهمة لمنظمة أخرى مع الوقت، ويفقد بذلك ارتباطه الحصري بحملة تبدو مؤقتًا أنها لاقت صدى لا بأس به؟ وهل ثمة منظمة نِسوية أخرى تفكر جديًا باستلام الشعلة بعد انقضاء الستة أشهر؟ هل يشتغل أحد ما على ذلك منذ الآن؟ لا أدري، ولا توجد مؤشرات على ذلك بعد!

أتساءل؛ لماذا لا نعمل فعلًا على أن تصبح الحملة مُلكنا جميعًا؟ لماذا لا يصبح شعار «ما رح أسكت» مصطلحًا نُعرِّفُ به حركتنا النِسوية؟ لماذا لا يصبح صلة الوصل بين جميع المنظمات والنِسويات المستقلات؟ نحن بأمس الحاجة لما يجمعنا ويلملم شملنا الجغرافي والعقائدي والمنظماتي والنفسي. لا أظن أننا قادرات على الإتيان بأفضل منه على المدى القريب. وحتى ولو شكك بعضنا فيما إذا كنا قادرات فعلًا على ألا نسكت، أقول إن عدم السكوت هو الخطوة الأولى في الطريق نحو التغيير. دعونا على الأقل، نحن القادرات، أن نتكلم باسم غير القادرات.

ولكن للأسف، انطباعي أن سوء التنسيق بين المنظمات النِسوية الكبيرة قد يشكل عقبة دون ذلك، إذ يحصل أحيانًا أن يكون انتماء المرأة النِسوية إلى المنظمة أكبر من الانتماء إلى الحركة النِسوية ككل، فيقف الارتباط بخطة تمّ الاتفاق عليها مع الجهة الداعمة حائلًا دون إمكانية ورغبة التنسيق مع المنظمات الأخرى على عملٍ عظيم ومستدام. الارتباط بالجهة الداعمة أو بخطتها الاستراتيجية قصيرة الأمد، يجعل المنظمات تركز أولًا وآخرًا على الحملات الصغيرة التي تديرها بنفسها، ولا تتفقد جيدًا ما يجري حولها في الساحة النِسوية، وتتخلى عن التنسيق مع المنظمات النسوية بهدف التجهيز لحركة تتغلغل وتصل إلى جميع السوريين والسوريات. نحن بحاجة إلى نظرة استراتيجية حقيقية، وليس فقط إلى خطة مؤقتة مكتوبة في بضعة صفحات قد لا يقرأها أحد، ولكنها تُستخدم بشكل واعٍ وغير واعٍ لإعاقة الشغل الكبير. نحتاج إلى حسٍ نِسوي عميق، وتفكير من قبل العاملات والعاملين في الحقل النِسوي، حول كيفية تجاوز مطب الدوران حول أنفسنا دون أدنى أفق. صحيحٌ أن الظروف صعبة، وأن غالبيتنا متعبات ويائسات، ولكن هل هناك أفضل من الحملات الجماعية كفرصة لاستخراج طاقاتنا الذاتية، ولمّ شملنا كنِسويات مستقلات أو منتميات إلى منظمات؟ في رأيي، لن يكون ثمة شيء اسمه حملة أو حركة نِسوية دون التفكير الجدي بسبلٍ للتنسيق فيما بيننا وتبني شغل بعضنا بعضاً. من غير المجدي أن نخترع العجلة كل مرة من جديد. لن نصل إذن!

إن تمكنا من تنسيق الجهود، لا أعتقد أننا سنكتفي حينها بالتعبير عن العنف الذي يطالنا، وتكرار تقديم الدلائل على اللطمات واللكمات الجسدية والنفسية التي نتكبدها. ولن نكتفي بأصوات بعض المشاهير لتفصح عنا. بل سوف نمضي أبعد من ذلك، وتتكلم المغمورات، وسوف نجد القوة والإرادة للشغل على الأدوات والحلول. وربما لن يقتصر عدم سكوتنا حينها على عنف المجتمع الذكوري الذي يتمظهر في العلاقات الاجتماعية والأسرية، ولكن كذلك على عنفنا تجاه بعضنا وتجاه ذواتنا، ذلك العنف الذي استدمجناه من خلال طفولتنا وشبابنا وتجارب حياتنا البائسة. على أمل أن تكون «ما رح أسكت» فترة حملٍ تنتهي بولادة إنسانةٍ جديدة، لا تكبت آلامها فترتد إلى داخلها مدمرة ما تبقى، بل إنسانة قادرة على الغضب والعمل والحب والكرامة.

من ناحيتي، ما رح أسكت منذ الآن.