تنحسر أحلام النازحين السوريين بالعودة إلى منازلهم التي هُجّروا منها وفقاً للمعطيات السياسية والعسكرية الراهنة، المتغيرة في كل وقت، والتي تفرض عليهم التعايش مع الواقع الحالي، ومحاولة إيجاد حلول لعائلاتهم، خاصة على صعيد السكن. يعيش نحو مليون ونصف المليون نازح في مخيمات منظمة أو عشوائية، وضمن خيام لا تقيهم الحر والبرد، وتحرمهم الخصوصية نتيجة الاشتراك في المرافق العامة، إضافة إلى مشاكل أخرى مثل غرق الخيام والطرق الموحلة، وانتشار القوارض والحشرات، والصرف الصحي المكشوف، وقلّة المدارس والنقاط الطبية.
طول المدة وغياب أفق للحل السياسي فرض على أولئك السكان اجتراح حلول فردية أو جماعية لمشاكلهم، وكذلك المنظمات الإنسانية التي وجدت نفسها أمام استحقاق تحسين الواقع الحياتي للنازحين، خاصة الفئة الأكثر تضرراً وفقراً، كالأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة والمعيلين لأفراد كثر. كما وجد أصحاب رؤوس الأموال في المدن والبلدات الآمنة نسبياً في هذه الظروف فرصة للاستثمار العقاري، من خلال تنشيط الحركة العمرانية، خاصة على الشريط الحدودي لمحافظة إدلب، وذلك لارتفاع ثمن العقارات وبدلات الإيجار من جهة، وقلة المشاريع الرابحة الأخرى من جهة ثانية، حتى غدا الاستثمار العقاري وسيلة للادخار والدخل في آن معاً.
المشاريع السكنية الفردية: حلول مكلفة
غدا الحصول على بيت اسمنتي، أياً كانت مواصفاته، حلماً يراود معظم السوريين النازحين في الخيام، للتخلص من «حياة البؤس التي رافقتهم فيها» على حد وصفهم. يقول أحمد العيسى، وهو نازح من مدينة حلب إلى واحد من مخيمات أطمة، إنه وغيره ممن يعرفهم يشعرون بـ «اليأس والملل والقلق» من حياتهم في هذه الخيام التي باتت سمة ليومياتهم، حرٌّ في الصيف وبرد في الشتاء وانعدام للخصوصية وضيق في المساحة: «نحن لا نمارس حياتنا الطبيعية. كل شيء محسوب حتى الكلام». يخبرنا العيسى أن «الأمر لم يعد مؤقتاً. منذ أربع سنوات وأنا أحلم بالعودة إلى منزلي في حلب، لكن ذلك غير متاح ولا يبدو أنه سيكون متاحاً في الأيام القادمة. صارت الخيمة وطناً، لكنها غير صالحة لمقومات المواطنة حتى في أساسياتها».
ومع ارتفاع أسعار إيجارات المنازل، الذي يتضاعف مع كل حملة نزوح جديدة، حتى بلغ متوسط الإيجار في المدن الحدودية اليوم نحو 75 دولاراً، وجد بعض الأهالي حلاً في بناء تجمعات سكنية، على شكل كتل من مجموعات، تتبع لقرية معينة أو أقارب من عائلة واحدة، أو أشخاص نازحين مدينة واحدة، من خلال شراء أو استئجار قطعة من الأرض وتقسيمها فيما بينهم، وتحمل تكاليف بنائها.
يتم شراء هذه الأراضي من أصحابها بأسعار تتراوح بين 10 و15 دولاراً للمتر الواحد، وذلك بحسب مكانها. أو أنه يتم شراؤها من المجالس المحلية أو من «القواطع العسكرية» التابعة لهيئة تحرير الشام، وهي أراض مشاع ملكيتها العامة كانت تعود أصلاً للبلديات في السابق، ويشترك في حق الانتفاع منها جميع سكان كل بلدة بالتساوي سابقاً، إلا أن عائد هذه الأراضي اليوم، والتي يبلغ متوسط سعر المتر فيها بين 4 و5 دولارات، وتباع فقط لإنشاء مخيمات، يعود للمكتب الاقتصادي في الهيئة، أو لمسؤولي كل «قاطع عسكري» بشكل مباشر.
وتبلغ تكلفة بناء غرفة واحدة مع منتفعاتها، بمتوسط مساحة 40 متراً، نحو 500 دولار، وذلك كما يخبرنا أحد متعهدي البناء في إدلب، الذي قال إن البناء يكون من القرميد وبمواصفات جيدة، إلا أن هذه التكلفة لا تشمل الإكساء الذي يختلف بين شخص وآخر، بحسب إمكانياته المالية، غير أن الحد الأدنى يحتاج لنحو 500 دولار إضافية.
يخبرنا المتعهد الذي تحدثنا إليه أن نسبة النازحين الذين تحولوا إلى بناء هذه المنازل قليلة جداً مقارنة بالأعداد الكبيرة التي تسكن الخيام، فتأمين نحو 1500 دولار ليس بالأمر اليسير على معظم السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر، بينما تلجأ نسبة جيدة قَدَّرَها بنحو 20% من سكّان المخيمات إلى بناء جدران من الحجارة دون سقف إسمنتي، بل يتم سقفها بشادر كشرط يفرضه أصحاب الأراضي المؤجرة للمخيمات، خوفاً من استملاكها، وبكلفة تصل لنحو مئتي دولار تقريباً.
يقول بعض من تحدثنا معهم إن السكان يرغبون بالحل الثاني لبقائهم ضمن المخيمات نفسها، وذلك للحصول على المساعدات الإنسانية والمياه وبعض سلل النظافة، التي سيفقدون قسماً كبيراً منها بمجرد خروجهم، مع احتمالية دعمهم من قبل بعض المنظمات بمشاريع لفترة مؤقتة، كتجهيز الصرف الصحي وتأمين بعض ألواح الطاقة الشمسية والمياه، إلا أن الأمر هنا لا يتبع لسياسة ما أسموه «التبني» المتّبعة في المخيمات التي أنشأتها المنظمات، بل إلى الإمكانية والموافقة على المشاريع المرفوعة.
ويجد بعض الأشخاص في شراء الأرض وبنائها حلاً أفضل يضمن ملكيتهم، ويمكّنهم من التوسع والبناء الطابقي كذلك، كلٌّ ضمن المساحة التي اشتراها، وكذلك يضمن عدم تدخل «إدارة المهجرين» في شؤونهم. أما عن الكلفة العالية، فيخبرنا من تحدثنا معهم، ومنهم محمد عبد الرحمن، أن «كلفة البناء ليست عالية، وتكمن المشكلة في عدم وجود هذه المبالغ، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار الأجرة الشهرية للمنازل في المدن والبلدات، التي توفيرها لعام واحد يمكن الحصول على أرض وغرفة واحدة على الأقل». يقول عبد الرحمن إن بعض السكان استفادوا من التقسيط الذي يمنحه بعض أصحاب الأراضي ومتعهدي البناء، عبر تقسيم المبلغ المطلوب على أشهر، إلا أن قسماً كبيراً من النازحين لا يملكون الدفعة الأولى. كذلك يعتريهم الخوف من امتلاك منزل ودفع تكلفته قبل تحقيق الاستقرار في المنطقة، فـ «من الذي يضمن لك أن تبقى فيه؟»، يتساءل عبد الرحمن كذلك عن سبب بيع أراضي المشاع، وعن الجهة التي تذهب إليها الأموال، وفي هذا السؤال يتشارك مع أبناء القرى الذين يعتبرون هذه الأراضي ملكيتهم «المنهوبة» من قبل إدارة المهجرين والمجالس المحلية، دون أن يؤخذ في الاعتبار حقهم بالاستفادة منها، أو أن توظيف عوائدها لصالح تطوير البلدة وتحسين مرافقها العامة.
وتتبع «إدارة المهجرين» و«مديرية الأملاك» لحكومة الإنقاذ، غير أن هذه التبعية ظاهرية فقط، إذ أن المسيطر الفعلي هو المكتب الاقتصادي في هيئة تحرير الشام. أما المجالس المحلية، فيقول بعض من التقيناهم من أعضائها، وأخفينا أسماءهم لضرورات أمنية، إنهم لا يملكون التصرف بهذه الأراضي، وإن العقود المبرمة بالإيجار والبيع تعود للمكتب الاقتصادي في الهيئة فقط.
مشاريع تسعى لتبديل الخيام بمساكن مؤقتة
خلال السنوات الثلاث الماضية، عمدت بعض المنظمات الإنسانية العاملة في إدلب إلى تنفيذ مشاريع بناء مساكن حجرية كبديل عن الخيام. ويمكن وصف هذه المشاريع بـ «الصغيرة»، إلا أن العام الحالي شهد تطوراً هاماً على هذا الصعيد، من خلال الحملة التي أطلقتها منظمات تتبع للحكومة التركية، منها الهلال الأحمر التركي وآفاد وIHH ووقف الديانة التركي، وذلك لبناء نحو خمسين ألف مسكن مؤقت للعائلات على مراحل. ونقلت تقارير إخبارية عن مسؤولين في هذه المنظمات أن العدد سيزيد إلى نحو مئة ألف، ويتم الإشراف عليها مباشرة من قبل مهندسين أتراك، بتعهدات وعمال سوريين. أما المبالغ المالية اللازمة فتكون عبر التبرعات، وذلك لتخفيف الضغط عن النازحين والحد من لجوئهم إلى الأراضي التركية.
وكانت هذه المنظمات قد سلمت عدداً من هذه الكتل السكنية بداية العام الحالي، بلغ عددها نحو ألفي شقة، لتقوم منذ أيام بالإعلان عن الانتهاء من بناء سبعة آلاف مسكن جديد، إلا أنه لم يتم توزيعها حتى الآن. وحصلت هذه المنظمات على الأراضي اللازمة للمشاريع من إدارة المهجرين والمجالس المحلية، وهي من الأراضي التي تُصنَّف بـ «المشاع»، وكذلك من أراضي الوقف التي يعود التصرف بها لمديرية الأوقاف في حكومة الإنقاذ.
تنقسم هذه الكتل السكنية إلى نوعين، بمساحة 35 و42 متراً مربعاً، جميعها مكسوة ومزودة بالخدمات الأساسية، كالطرقات والأرصفة والمدارس والسوق التجاري، إضافة إلى نقاط طبية. ويتركز معظمها في منطقة دير حسان من مشهد روحين وحتى جبل بركات، وكذلك في حربنوش ومعرتمصرين وحارم. بعضها سيتم فرشه بالأدوات الأساسية اللازمة، وبعضها سيسلم فارغاً، وذلك وفقاً للمنظمة القائمة على كل مشروع.
تشكل هذه المشاريع حلاً مؤقتاً لعدد كبير من العائلات النازحة في المخيمات، وذلك في حال تم تنفيذها وفق خطة المئة ألف مسكن، وتوزيعها بشكل عادل، إلا أن هناك مخاوف كبيرة عند السكان بهذا الخصوص، سنطرحها بحسب من تحدثنا معهم من سكان ومتعهدين وأصحاب جمعيات، فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم.
تكمن المشكلة الأولى في التوزيع غير العادل، إذ يخشى السكان أن تستلم إدارة المهجرين هذا الملف، وهو ما يثير قلقهم، خاصة مع وجود تجارب سابقة لهم مع هذه الإدارة في مخيمي حزرة والشومرية، إذ قامت فصائل عسكرية تابعة لهيئة تحرير الشام بالاستيلاء على قسم من البيوت التي وُزِّعَت على النازحين وطردهم منها. وعند مراجعة إدارة المهجرين، قالت الأخيرة إنها «إدارة مدنية وليس لديها إمكانية لفعل شيء». وتتحدث الشهادات التي حصلنا عليها عن قيام عناصر في هذه الفصائل بتأجير المنازل بخمسين دولار للشقة الواحدة في مخيم الشومرية، وذلك لأشخاص من خارج المخيمات، بينما ضاع حق الذين خُصّصت لهم هذه الشقق دون أن تنفع جميع مطالباتهم.
يتساءل السكان عن دور إدارة المهجرين، وعن السبب في فرض نفسها على المخيمات إن كانت لا تستطيع حمايتهم أو تعويضهم عن حقوقهم، إذ يتوجب الحصول على خيمة أو مسكن التسجيل لدى الإدارة. كذلك يحتاج بيع البيوت التي بنيت على نفقة السكان الشخصية داخل المخيمات إلى موافقة هذه الإدارة، التي تفرض أن يكون تعيين مديري المخيمات والعاملين فيها والحراس وأئمة المساجد من قبلها، كما تقوم هي على إدارة شؤون المخيمات العامة كالأسواق وتوزيع المساعدات.
ومن المفترض أن يتم تخديم هذه المخيمات بخزانات المياه والطاقة الكهربائية عبر ألواح الطاقة الشمسية، إلا إن المخيمات التي تم تسليمها في السابق قد تعرضت لسرقة الخزانات والألواح. ولا يمكن تحديد الجهة التي ارتكبت السرقة، إلا أن المسؤولية تقع على الحراس من إدارة المهجرين، التي لم تتحرك لتعويض السكان عما تمت سرقته.
تمثل تلك المنازل الصغيرة حلماً لكثير من العائلات، إلا أنه لا توجد آلية واضحة لمعرفة المستفيدين، ويأمل السكان أن يتغير الحال في الشقق السكنية الجديدة، وأن تُضاف بنود جديدة كعقود تضمن أحقية المستفيدين وتمنع أي جهة من مصادرتها أو طردهم منها، وكذلك تحديد جهة مسؤولة من قبل المنظمات للشكوى في حالة التوزيع غير العادل، وإصدار توضيح من قبل إدارة المهجرين حول آلية التوزيع التي ستعتمدها. يكرر من تحدثنا إليهم مقولة «شي ما منك… دخانك عامينا»، في إشارة إلى عدم تقديم إدارة المهجرين أي مساعدة في حملات النزوح والاستجابات الطارئة وبناء المخيمات والتخفيف عن السكان، وإلى أن ما تفعله فقط هو «أخذ حصتها بحجة التنظيم والإدارة»، على حد قولهم.
الاستثمار العقاري
عند المرور في الطريق الواصل بين مدينتي الدانا وسرمدا، يكاد المرء لا يجد مساحة خضراء على طول الطريق، بعد أن تحولت معظم الأراضي الزراعية في هذه المنطقة إلى مشاريع سكنية من قبل مستثمرين وأصحاب أموال. يقول أحمد العلي، وهو أحد المستثمرين في المنطقة، إن الاستثمار في العقارات هو الأنجح اليوم، إذ يعتبر وسيلة للادخار بعد التغيرات التي تشهدها الليرة السورية وكذلك الذهب، وعدم وجود أماكن آمنة أو بنوك لوضع المبالغ المالية التي يملكها أصحاب رؤوس الأموال. وأيضاً لما تدره هذه التجارة من أرباح بعد ارتفاع أسعار العقارات، وغلاء الإيجارات.
معظم الأبنية الجديدة على طول هذا الطريق بنيت بشكل متشابه وطابقي على طرفي الطريق، إذ يغلب عليها وجود المحلات في الأرضيات وثلاثة إلى أربعة طوابق، في كل منها شقتان، ما يعني دخلاً شهرياً بنحو ألف دولار على الأقل من كل بناء، فضلاً عن ارتفاع قيمتها في حال تم عرضها للبيع.
أما داخل المدن، فقد نشطت الحركة العمرانية في معظم المدن والبلدات، وتحولت من أبنية عربية من طابق واحد أو طابقين إلى أبنية طابقية لاستثمارها بعد حركة النزوح الكبيرة وزيادة عدد السكان. الأمر لا يقتصر على سرمدا والدانا، بل في معظم البلدات شبه الآمنة أو القريبة من المخيمات، بعد الزيادة السكانية الكبيرة التي حولتها إلى مناطق تجارية.
ويضرب تاجر البناء أحمد اليوسف مثالاً عن بلدة حزانو، التي كانت تخلو في معظمها من الأبنية الطابقية، ومع تحويل سوق السيارات من سرمدا إليها، وحركة النزوح الأخيرة، تضاعف عدد السكان وزادت الأبنية الطابقية، وتوسّع العمران في البلدة بشكل لافت. كما بدأت بعض الجمعيات العقارية ببناء كتل ومجمعات داخل هذه المناطق، إذ يتم بيعها بالتقسيط وعلى دفعات، وبمتوسط سعري يبدأ من عشرة آلاف دولار، بينما سعت بعض الجمعيات لتخصيص بعض هذه الأبنية، بالتقسيط أيضاً، لأهالي منطقة معينة، كالجمعيات السكنية لأهالي محافظة حمص التي تبنى غرب مدينة سرمدا، ويتم الاستكتاب عليها من مهجري حمص فقط، وكذلك مجمعات سكنية أخرى لأهالي عندان وقرى وتجمعات مثل قرية رتيان.
لا تُشاهَد حركة عمرانية واسعة بعيداً عن كتل المخيمات والشريط الحدودي، في مدينة إدلب على سبيل المثال أو جسر الشغور، وذلك لأسباب تتعلق بالتخوف من عودة المعارك والنزوح، كونها قريبة من خطوط التماس مع قوات الأسد.
تسببت حركة العمران الأخيرة أيضاً بتشوه معماري في المنطقة، التي فقدت خصائصها الريفية وهويتها المعمارية، لصالح الأبنية الطابقية التي يصفها من تحدثنا إليهم بـ «الرديئة» لسوء المواد المستخدمة في بنائها، وبأنها «تجارية» خالية من الفن والمظهر اللافت. كذلك تسببت بهدم معظم البيوت القديمة التي كانت تمثل جزءاً من تاريخ هذه المدن والبلدات، فيما تحاكي الأبنية الجديدة شكل العمارة التركية بشكل كبير، خاصة في الكسوة الداخلية. كما تسببت هذه الأبنية بفقدان مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وأراضي المشاع، ولم يراعَ خلال بنائها ترك مساحات «للتنفس»، كما يقول الأهالي، وذلك نتيجة السعي للاستفادة من كل متر وتحويله إلى «إسمنت».