حظي مجلس الشعب في سوريا بالكمية الأكبر من السخرية طوال عقود حكم نظام الأسد التي قاربت الخمسين سنة، إذ حرص النظام على تركه طوال الوقت ديكوراً كاريكاتورياً لما يجب أن يكون سلطة تشريعية بلا سلطة، فالتشريع أصبح عملياً ودستورياً بيد رئيس النظام منذ إقرار دستور عام 1973 أيام حافظ الأسد. ولكن على الصعيد الاجتماعي، لم يقف مجلس الشعب عند لعب دور الديكور التجميلي، فقد تجاوزه للعب أدوار مفصّلة من قبل النظام بدّقة، وعلى رأسها تثبيت نفوذ الشخصيات الصاعدة جديداً من الوجوه الاجتماعية والعشائرية والاقتصادية، أو الإبقاء على نفوذ أولئك الذين حظوا بثقة الأسد فحافظوا على أمكنتهم لفترات طويلة.
وكانت التقسيمات التي رسّخها نظام الأسد الأب للمجلس طاغية طوال الوقت، وهي التي صنعت دور هذا المجلس طوال سنوات حكم النظام وحتى اليوم، فقد كان توزيع مقاعد المستقلين في كل محافظة هو وسيلة حافظ الأسد لإشراك الوجهاء المحليين في معادلات النفوذ، بالحد الأدنى طبعاً، وذلك بهدف الحفاظ على ولائهم التام الذي احتاجه، في كثير من الأوقات، لأسباب سياسية كبرى أو صغرى على مستوى مناطقهم. يقول عضو مجلس الشعب دياب الماشي، في فيلم الطوفان للراحل عمر أميرلاي، إنّ عشيرته سارعت بإرسال مئة رجل بأسلحتهم لمواجهة الإخوان المسلمين في مدينة حلب، وكان ذلك أثناء المواجهات المشهورة بين الطليعة المقاتلة ونظام الأسد نهاية السبعينات وبداية الثمانينات.
يحصل عضو مجلس الشعب بالمقابل على نفوذ بين أبناء منطقته، ويكون صلة وصل مع العاصمة لتسيير أمورهم، مقابل الاحتفاظ بزعامته عليهم، وحتى ابتزازهم مادياً. وكان المجلس يحظى أيضاً بتقسيمات مختلفة نوعاً ما في حلب ودمشق، إذ حُجزت مقاعد المستقلين كلّها تقريباً لتجار وصناعيي هاتين المدينتين. وكان يجب أن يحظى الصناعي أو التاجر بتوافق بين نظرائه ليحصل على مقعد في مجلس الشعب، ما يجعله ممثل هذه الفئة لدى سلطة الأسد. وتتنوع تركيبة التمثيل في المجلس حسب التقسيمات التي رآها الأسد الأب وأجهزته الأمنية، فقد عزّز مثلاً البنية العشائرية في بعض المناطق، مقابل عزلها عن الحياة العامة أو إضعافها في مناطق أخرى، وسمح لعائلات إقطاعية تاريخياً بالحفاظ على نفوذها في مناطق، بينما جردهم منها تماماً في مناطق أخرى، وكل ذلك وفق التركيبة التي كانت توافق مصلحة استمرار النظام، وبقي الحال على ما هو عليه حتى الثورة السورية.
بدا واضحاً للنظام أنّ فئة الوجهاء المحليين، التي كان قد سمّنها طوال العقود الفائتة، لم تعد ناجحة كصلة وصل مع المجتمعات التي ثارت عليه، وكان فرض الحل الأمني المباشر أيضاً ضارّاً بهؤلاء، ما أدى إلى استحالة لعب دورهم المعهود، وهكذا رأينا تحولات عديدة، إذ انقلب بعضهم ضد النظام، وفضّل آخرون الحفاظ على ولائهم له، متخلين عن مجتمعهم المحلي، ومنتقلين للعيش خارجه في مناطق سيطرة النظام في حالة خروج مناطقهم عن سيطرته، حتى شهدنا نهاية تلك الفئة من الوجهاء عملياً لصالح نفوذ أكبر للميليشيات وأمراء الحرب الجدد.
وهو ما بدأ ينعكس على انتخابات مجلس الشعب، والانتخابات التي جرت يوم أمس ليست استثناء، فقد تقدم إلى مقاعد المجلس الخاصة بالمستقلين، قادة ميليشيات، ورجال أعمال ميليشياويون، وممثلون عن عائلات قتلى قوات النظام، فيما حافظت مقاعد المستقلين في دمشق ومدينة حلب على توازناتها القديمة، إذ لا زالت تلك المقاعد مخصصة للتجار والصناعيين في المدينتين. والمعيار الأساسي هو مدى ولاء رجل الأعمال أو الصناعي، لتتراجع أهمية مدى تمثيل المرشح في بيئة رجال الأعمال الدمشقيين والحلبيين، لكنّ التقسيمة هنا بقيت ذاتها، ولا يبدو أنّ انسحاب محمد حمشو من الانتخابات سيعني تغييرها، إذ تستعد قائمة دمشق المنافسة لقائمة حمشو، بزعامة الصناعي سامر الدبس، بتحضير نفسها لاستلام مقاعد المستقلين في المجلس عن مدينة دمشق.
أما صعود بعض الأسماء الجديدة من المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها خلال العامين الماضيين، فإنه سيكون على ما يبدو فرصة لترويج لرجال أعمال هم في الواقع واجهات لضباط أمن ومتنفذين في البلد، إذ تقول مصادر خاصة للجمهورية، بأنّ المرشح لمجلس الشعب عن مدينة دوما عامر تيسير خيتي، صاحب مجموعة خيتي القابضة، ليس إلّا واجهة أعمال لغسان بلال مدير مكتب ماهر الأسد ومدير المكتب الأمني في الفرقة الرابعة، والذي ورد اسمه في عدد من قوائم العقوبات، من بينها قائمة العقوبات التي صدرت وفق قانون قيصر مؤخراً.
تسمح نظرةٌ فاحصة بدقّة أكبر للمرشحين الرابحين في الانتخابات التي جرى الاقتراع فيها يوم أمس، بكشف تلك الوجوه الجديدة التي ستظهر إلى العلن في محافظات مثل ريف دمشق ودرعا، لكنّ نظرة عامة إلى مشهد انتخابات مجلس الشعب في مناطق النظام، لن تلاحظ اختلافات جوهرية في عمل هذا المجلس، الذي يلعب مهمة الديكور التشريعي في المقام الأول، كما أنّه أصبح يلعب دور تثبيت نفوذ الشخصيات التي صعدت خلال الأعوام العشرة الماضية، بعد أن تراجع دوره كصلة وصل بين السلطة والمجتمعات المحلية، وهو دور بدأ على ما يبدو حزب البعث بلعبه، من خلال تنشيط عمله في مناطق اتفاقات المصالحة والتهجير بالذات، ليكون الصلة الفعلية بين السلطة والمجتمع المحلي، والتي تمرّ عبرها التهديدات، وكذلك الطلبات والاستثناءات التي تبتز كما جرت العادة أموال السكان.
ولعبت عملية «الاستئناس الحزبي»، التي أجراها حزب البعث بين أعضائه لاختيار مرشحيه، دوراً في تنشيط دوائر هذا الحزب مجدداً باعتبارها قنوات للاستفادة المباشرة من السلطة، ليكون صعود دوائر الحزب في مدن مثل حلب ومناطق مثل الغوطة الشرقية، دليلاً على استعادة دور هذه المؤسسة التي كانت قد أصبحت أقرب للمعطلة في السنوات القليلة التي سبقت الثورة.
يتيح الدستور السوري بنسخته القديمة التي كتبت عام 1973، ونسخته الأحدث التي أقرها النظام عام 2014، لرئيس الجمهورية صلاحيات التشريع وإصدار القوانين أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب أو بينها، كما تتيح له حلّ المجلس، فكانت البلاد محرومة حتى من سلطة تشريعية صورية تصدر القوانين الهامة والحيوية، والتي كانت تصدر عن رأس النظام ليُصادِق عليها بالإجماع أعضاء مجلس الشعب، الذين يستطيع ضابط مخابرات صغير إرهابهم والتحكم في ما يفعلون ضمن المجلس وخارجه.
لا يزال مجلس الشعب إذاً فاقداً لأي دور حقيقي في الحكم، غير أنه يمكننا مشاهدة تحولات النفوذ من خلال متابعة أسماء الناجحين الذين سيتم الإعلان عنها اليوم أو غداً، ولكلٍّ منهم رئيس فرع مخابرات أو شخصية في النظام ترعاه، ولكلٍّ منهم دورٌ محددٌ له بدقة، لكنه دورٌ لا يتضمن القيام بأي مهمة سياسية حقيقية، فالسياسية والتشريع ليستا من مهمات هذا المجلس منذ خمسين عاماً.