ليس يسيراً الوصول إلى أرقام دقيقة متعلّقة بالتجارة الخارجية السورية حتى العام 2012، فسياسات الشفافية تكاد تكون منعدمة منذ عقودٍ سبقت هذا التاريخ، وكل ما يمتلكه الدارسون للاقتصاد السوري من أرقام حول الميزان التجاري مصدرُه البيانات الرسمية التي لا يمكن الجزم بدقّتها. وفضلاً عن سرّية الدولة وعدم وجود مصادر معلومات مفتوحة في عهد حافظ الأسد، فإنه ثمة في سوريا اقصاد ظل مليء بالأسرار، شهد ذروته خلال حقبة بشار الأسد، وهو هام ونشيط يستورد ويصدّر دون رقابة وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، ولا تلحظه الأرقام المُعلن عنها، إذ أنّ من يسيطرون عليه وعلى عوالمه المجهولة محاسيبٌ يتموضعون فوق الدولة.
أما فيما يتعلّق بالمرحلة الزمنية الممتدة منذ العام 2012 وحتى اليوم، فإن الوصول إلى الأرقام يُعدّ أمراً أكثر تعقيداً، إذ ليس هنالك جهة واحدة تسيطر على البلاد وتدير حدود الدولة، في حين نشطت جهات وقوى اقتصادية جديدة أمسكت بزمام أشكالٍ معينةٍ من التجارة الخارجية، وسيطرت على حصص وازنة من السوق السورية على مدى الأعوام الماضية.
إذاً، جميع الأرقام الواردة في هذا النص استندت إلى دراسةٍ أعدّها مركز مداد للدراسات الموجود في دمشق في العام 2018، والذي أخذ بدوره البيانات من جهةٍ حكومية هي المكتب المركزي للإحصاء. ورغم أنّ الدراسة عُنيت بالتعاملات التي صرّح بها النظام السوري بين عامي 1992 و2016، فإنّ فيها نقاطاً هامّة من الجيّد إعادة تسليط الضوء عليها، وهو ما ستسعى السطور اللاحقة إلى فعله، مع إضافة بعض الأرقام المتعلقة بالفترة الممتدة بين عامي 2016 و2019، والتي جرى جمعها من مصادر عديدة أخرى. وجميع الأرقام الواردة هنا لا تشمل الخطوط الائتمانية التي مُنحت للنظام السوري لاستيراد المحروقات والسلاح وبعض السلع، لا سيما من إيران وروسيا، كما أنها لا تأخذ في الاعتبار عمليات التهريب عبر الحدود وحجم التجارة عن طريق المعابر مع تركيا وكردستان العراق حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية وفصائل من المعارضة.
ظلت التجارة الخارجية السورية هامشية الحضور والتأثير على الصعيدين العربي والدولي، ولم تحجز لنفسها مساحاتٍ ثابتة في أسواق الدول المُصدّرة والمستوردة، بل إنها كانت تركّز في عمليات التصدير على منتجاتٍ بعينها، لتصدّر منها كمياتٍ كبيرة حتّى لو كان ذلك على حساب الطلب الداخلي واحتياجات السكان. ومن أمثلة ذلك أنّه في العام 2001 كانت نسبة الصادرات النفطية 75% من مجمل الصادرات السورية، ثمّ انتقل التركيز بعد ذلك إلى الأغذية والتوابل والحيوانات الحية، ليصل حجم حضور الصادرات غير النفطية إلى نحو 50% من مجمل الصادرات خلال بعض السنوات اللاحقة. فيما حافظت الصادرات النفطية على معدلات مرتفعة، تتجاوز دائماً نسبة 40% من مجمل الصادرات، رغم توصيات صندوق النقد الدولي في تقريره المتعلق بسوريا، الصادر في يناير 2009، والذي أشار إلى أنّ نمو الناتج المحلي غير النفطي في المرحلة الممتدة بين عامي 2004 و2007 لم يتجاوز معدل 5% سنوياً، بينما احتياطات سوريا النفطية مُهدّدة كونها لا تتجاوز 3% من احتياطيات دولة مُصدّرة كالكويت.
كما أنّ سياسات القائمين على التجارة الخارجية لم تكن تراعي تنوّع الثروات والمنتوجات السورية، ولم تعمل على تطويرها وحجز مساحاتٍ تنافسيّةٍ لها من خلال عقد شراكاتٍ إقليمية ودولية من شأنها تعزيز هذه المنتجات واستثمارها اقتصادياً وثقافياً، ومن ذلك ندرة المعارض الدولية التي تساهم فيها الشركات السورية، حتى أنّ معامل التجميع التي شُيّدت في البلاد، وأبرزها معمل تجميع السيارات السوري الإيراني، لم تتجاوز حدود السوق المحلية نتيجة الكلفة العالية وضعف الكفاءة، وبالتالي لم تسهم إطلاقاً في تنشيط التجارة الخارجية.
وبينما يتعذّر الحصول على أرقام تخصّ العقدين الأولين من حكم حافظ الأسد، نظراً لعدم تواجد مصادر مفتوحة للمعلومات في ما يخصّ هذه الفترة، فإنه يمكن التمييز خلال العقد الأخير من حكم حافظ الأسد وطوال فترة حكم وريثه بشار بين أربع مراحلٍ للتجارة الخارجية السورية:
– المرحلة الأولى تمتدّ من عام 1991 وحتى العام 1999، وتزامنت نقطة انطلاق هذه المرحلة مع صدور التعليمات التنفيذية لمرسوم الاستثمار رقم 10، حيث فُسح المجال أمام هامش ضئيل نسبياً من الحرية الاقتصادية مقارنةً بما كانت عليه حالة الانغلاق الكامل التي ميّزت أول عشرين سنة من حكم حافظ الأسد، والذي كانت جزءاً من طبيعة الشمولية المُطلقة التي اتسمت بها تلك المرحلة. وطوال تلك المرحلة، ورغم صدور قانون الاستثمار رقم 10، ظلت حصيلة الميزان التجاري سالبة لصالح المستوردات، بحسب البيانات التي يوردها المكتب المركزي للإحصاء، علاوةً على أنّ أرقام الصادرات والمستوردات، كما يُبين الرسم المُرافق، كانت خجولةً وبأرقام ضئيلة، وتعتمد في معظمها على تصدير النفط الخام.
– المرحلة الثانية تمتد من العام 2000 وحتى العام 2005، وتزامنت مع وصول بشار الأسد إلى الحكم وارثاً السلطة عن أبيه، وتميزت بإصدار عددٍ كبيرٍ جداً من المراسيم والقرارات التي بشّرت بانفتاح تجاري وثقافي وسياسي على الخارج. وهدفت بعض هذه القرارات لتوفير المرونة في التجارة الخارجية ورفع نسب الصادرات السورية والتخفّف من عمليات الاستيراد. ولكن يبقى القرار الأهم الذي أحدث طفرةً في الميزان التجاري هو إعفاء الصادرات السورية من جميع الرسوم والضرائب المفروضة خلال المراحل السابقة، وذلك بموجب المرسوم التشريعي رقم 15 لعام 2001.
وكان من بين خطط النظام السوري حينها مزيدٌ من الانفتاح على العالم، والهدف من ذلك في جانبٍ منه إرسال رسائل لدول العالم عن تغيّر بنية النظام السوري من الانغلاق والشمولية الكاملة وسيطرة مؤسسات الدولة على الاقتصاد والتجارة في عهد حافظ الأسد، إلى توجّه أكثر انفتاحاً على العالم مع الرئيس الشاب. ولكنّ ذلك تعثّر في العام 2004 مع تراجع الصادرات النفطية، كما أنّ القوانين الكثيرة غير محسوبة العواقب، والتي سهلت التجارة الخارجية، أوصلت البلاد إلى معدلات استيراد كبيرة جداً، فاقت مجدداً الصادرات، لا سيما بعد التقارب السوري التركي الذي أجاز للمنتوجات التركية أن تغزو الأسواق السورية بأسعارٍ منافسة، تراجع على إثرها عددٌ من القطاعات الإنتاجية السورية الهامة، أبرزها قطاع الملبوسات والأقمشة.
– المرحلة الثالثة تمتد من العام 2006 حتى العام 2011، والتي تزامنت مع الخطة الخمسية العاشرة التي أقرّ بموجبها المؤتمر القطري لحزب البعث اعتماد ما أسماه نهج السوق الاجتماعي، الذي كان وزير الاقتصاد ونائب رئيس الحكومة عبدالله الدردري أبرز منظريه والقائمين على تطبيقه. وعللت الخطة الموضوعة هذا التوجه الجديد حينها بهشاشة الميزان التجاري نتيجة اعتماده على تصدير النفط الخام بالدرجة الأولى، حيث شكلت صادرات النفط في الفترة الممتدة من العام 1997 إلى العام 2004 نحو 70% من إجمالي الصادرات السورية، بينما لم تستورد سوريا الكثير من المواد الخام والأولية بغرض تنشيط الصناعة المحلية، بل شكلت السلع الوسيطة طوال الفترة الممتدة من عام 1990 إلى العام 2003 قرابة 57% من إجمالي المستوردات.
ورغم الوعود التبشيرية التي روّج لها القائمون على الخطة الجديدة، فإنّ هذه المرحلة اتسمت أيضاً بعجز في الميزان التجاري، بدأت نسبته في بداية عام 2011 بـ 1.52% من إجمالي الناتج المحلي، لتصل في نهاية العام نفسه إلى 14.14%، كما تجاوزت نسبته في العامين 2008 و2009 معدل 8% من إجمالي الناتج المحلي.
– المرحلة الرابعة تمتد من العام 2012 وحتى العام 2019، وهي السنوات التي تحطّمت فيها عوامل الإنتاج السورية، وتخللتها عقوبات اقتصادية متعددة وتدمير للبنى التحتية، فضلاً عن حالة الحرب التي تتوجّب استيراداتٍ كبيرة من السلاح، وهي غالباً لا تظهر في الأرقام. وتصاعدت عموماً عمليات الاستيراد بشكلٍ متعاظم، مع انخفاضٍ شبهٍ كامل للصادرات، حتى بلغ رقم المستوردات عام 2019 قرابة 5.2 مليار يورو، وفي عام 2018 بلغت قيمة المستوردات 4.1 مليار يورو. أما الصادرات، فلم تتجاوز في عام 2019 قيمة 523.3 مليون يورو، بعد أن كانت في العام 2018 حوالي 430 مليون يورو. وبذلك تكون قيمة الميزان التجاري في العام 2018 قرابة 3.67 مليار يورو، وفي العام 2019 بلغت 4.6 مليار يورو.

وطيلة المراحل الأربع التي تمّت الإشارة إليها، لم يشهد الميزان التجاري فائضاً سوى في الفترة الواقعة بين عامي 2000 و2003، وارتفع خلال هذه الفترة سعر كيلوغرام الصادرات حتى بلغ وسطي سعر الكيلو الواحد 13.1 ليرة سورية، أي بزيادةٍ قدرها 627% عن العام 1999، ونسبة قريبة من ذلك مقارنةً مع الأعوام السابقة لذلك التاريخ، والتي تميّزت فيها الصادرات السورية بالتخلّف والاعتماد بشكلٍ رئيسيّ على تصدير الثروات بشكلها الخام، مقابل احتياجات قليلة جداً كان نظام الأسد مضطراً لاستيرادها. وهذا لا يعني أنّ البلد كانت مكتفيةً ذاتياً، ففي مخيلات الأجيال السورية التي شهدت تلك الحقبة الكم الهائل من الاحتياجات الأولية التي لا تتوافر في الأسواق السورية، ولعلّ أقرب الأمثلة الراسخة إلى اليوم في البال حليب الأطفال والمناديل الورقية ومستلزمات الإعمار.
أما في المرحلة الرابعة الممتدة من عام 2012 وحتى العام 2019، فقد انخفضت الصادرات إلى حدودٍ كبيرةٍ جداً، بمعدلٍ وسطيٍّ يتجاوز 73% بالمقارنة مع الفترة السابقة لهذه المرحلة. في حين أن الوسطي السنوي للكميات المُصدّرة لم يتجاوز 4.9 ألف طن، بعد أن وصل إلى 18.2 طناً خلال المرحلة الثالثة الممتدة منذ العام 2006 وحتى العام 2011.
وتُظهر الأرقام المتعلقة بقيمة الصادرات السورية بين عامي 2012 و2016 زيادةً مطّردة، إلا أنها ليست زيادة حقيقية في قيمة وكمية الصادرات، وإنما بسبب معدلات التضخم المتعاظمة وفقدان الليرة السورية المستمر لمعدلاتٍ كبيرةٍ من قيمتها.
مؤشر التبعية التجارية في سوريا
يدل مؤشر التبعية التجارية على درجة انفتاح واندماج البلد في التجارة العالمية، وهو يمثّل إجمالي التجارة الخارجية (الصادرات والمستوردات) إلى إجمالي الناتج المحلي للبلد كنسبة مئوية. وكلما زادت قيم المؤشر دلّ ذلك على زيادة انكشاف الاقتصاد المحلي على الاقتصاد العالمي، وبالتالي تأثرّه بالأزمات، أما انخفاض قيمة المؤشر فهي دليل على انغلاق اقتصاد الدولة وانعزاله عن الاقتصاد العالمي.
وبالنظر إلى قيم مؤشر التبعية التجارية في سوريا التي يحسبها مركز مداد، الموضّحة في الرسم البياني أدناه، فإننا نلاحظ أنها كانت منخفضةً بين عامي 1992 و1999، وهو ما يتماشى مع طبيعة الانغلاق الشامل التي انتهجها حافظ الأسد، ومع ضعف الميزان التجاري بشقيه، حيث يبلغ وسطي المؤشر في هذه الفترة 15.44%.
أما في مرحلة بشار الأسد، فقد انكشف البلد أكثر على التجارة الخارجية، وارتفعت الصادرات والمستوردات بنسبٍ لا تتماشى مع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وازداد وسطي قيم المؤشر بين عامي 2000 و2005 بأكثر من 236% عمّا كان عليه قبل هذه الفترة، حيث وصلت قيمة وسطي المؤشر إلى 51.9% خلال هذه الفترة. وحافظ المؤشر بعد ذلك على مساره التصاعدي بين عامي 2006 و2001 قريباً من 54.5%. أما في الأعوام الثمانية الأخيرة، فقد انخفض وسطي المؤشر إلى حدود 40%، ولكنّ ذلك ليس بسبب حاجة أقل إلى الاستيراد، الذي يغلب على الميزان التجاري السوري، ولكن بسبب صعوبة تأمين القطع الأجنبي اللازم لتمويل المستوردات وبفعل تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد. إلا أنّه ورغم درجة الانكشاف الكبيرة التي يدلّل عليها المؤشر، فإنّ سوريا ظلت قليلة التأثّر بالأزمات الاقتصادية العالمية نظراً لصغر حجم اقتصادها، ولكن ما يبقى مهمّاً في المؤشر هو أنه يوضح مدى التشوّه الحاصل بين قيمة الناتج المحلي للبلاد وقيمة الميزان التجاري فيها.

إنّ مطالعة أرقام الميزان التجاري السوري خلال العقود الثلاثة الماضية، مع تحليل خلفياتها، تقدّم تصوراً عن العقلية التي تدير البلاد، دون انتهاج أدنى معايير الحوكمة واستغلال الموارد بشكلٍ يعود بالنفع على الدولة وساكنيها، وتظهر كيف أنّ النظام يُصدّر ويستورد ويسنّ القوانين والتشريعات على وقع مناسباتٍ تتطلب اتخاذ قراراتٍ عاجلة أمام استحقاقاتٍ لا تقبل التأجيل، دون خططٍ رصينة واستراتيجياتٍ محسوبة النتائج.