*****

في الحقبة الإليزابيثية لإنكلترا (أي خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر)، كما في فرنسا القرن السادس عشر، كانت الترجمة مهمة جداً. يكرّس الجزء الرابع من موسوعة CHEAL The Cambridge History of English and American Literature: Encyclopedia in Eighteen volumes (CHEAL), Cambridge, Cambridge University Press, 1907-1921.، الموجه بكامله إلى الحقبة الإليزابيثية Susan Bassnett-Mc-Guire, Translation Studies, op.cit., p. 42. ، فصلين كاملين لهذه المسألة. قد تُعتبر هذه الحقبة المكثفة في الترجمة لحظةً كبرى في تاريخ الأدب ذي التعبير الإنكليزي.

وقد أظهرت النصوص المترجمة حينها (الكلاسيكيات اللاتينية واليونانية، وكذلك النصوص الفرنسية والإيطالية المعاصرة)، وأيضاً التعليقات اللاحقة للمترجمين (في تصدير وتقديم الكتب لحظة نشرها على سبيل المثال)، أن الترجمة كانت في طورها لتصبح جنساً أدبياً.

في فرنسا، وأثناء عصر النهضة، شهدنا، على المنوال نفسه، مشروعاً ضخماً أُنجِزَ في ترجمة النصوص القديمة. بدايةً من المؤرخين الإغريق: هيرودوت، ثوكيديدس، ديودور، أبيان، جوستين، ومن بعد كسينوفون وفلوطرخس وسينيك وهوميروس وإيسوب و أفلاطون وأبوليوس وفيرجيل وأوفيد وجوفينال وشيشرون، وكلّها ترجمات صدرت أثناء القرن السادس عشر. حينها عرف جاك أميوت الشهرة، بعد أن ترجم عام 1559 الحيوات الموازية لفلوطرخس.

لم يكن للترجمة (التي كان إيتيين دوليه أول من وضع قواعدها واستخدمها ككلمة)، الدلالة التي نعيرها لها اليوم انظر Roger Ellis (ed.), The Medieval Translator, op/cit., p. 42, 46, 48-50. . كان مترجمو القرن الخامس عشر معنيين، ليس بالنص، ولكن بالتاريخ وصلة النص مع جمهوره المتلقي. (…) ولم يكن هناك الكثير من الاهتمام بنقل النص الأصلي بأمانة كبيرة. . لم يكن هدفها، كما سيكون لاحقاً، أن تُتيح النصوص الكلاسيكية لعموم الناس الذين لا يعرفون اللغات التي كُتبت بها النصوص (خاصة اليونانية واللاتينية). فأولئك كانوا في كل الأحوال أميين لا يقرأون ولا يكتبون، اللهم إلا ما ندر من طبقات صغيرة من المتعلمين، من الأرستقراطيين ورجال الكنيسة.

والحال أن المترجمين كانوا يودون تَملُّكَ نصوص لغة اعتُبرت لغة كونية، وتَملُّكَ نصوص صُنّفت على أنها «كلاسيكية»، لها قيمتها، وأن يُعمل على مراكمة أوليّة لرأسمالٍ ما عبر المترجمين (لهذا لم يكن هؤلاء الأخيرون ينفصلون عن السلطة السياسية).

كي نفهم العملية التي يكرس لها المترجمون أنفسهم، لا بدّ لنا أن نعّرف أولاً ما هو «الكلاسيكي».

عند تأثيل الكلمة، نجد أنها مستعارة من اللاتينية (Classicus)، التي تحيل إلى الفئات الخمسة التي شُّكِل منها المجتمع الروماني. الأولى تضم الـ (Classici Cives)، وهم المواطنون ممن يمكنهم دفع الضرائب لأنهم أغنياء؛ والأخيرة تضم (Proletarii Cives)، الفقراء جداً ممن لا يقوون على دفع الضرائب. أول من طبّق هذه التسميات على الكُتّاب هو القواعديّ أولو-جيل (من القرن الثاني)، والذي تكلّم على Classici Scriptores (الكتّاب من الفئة الأولى ومن الطراز الأول). ثم أدخل توما سيبييه الكلمة إلى الفرنسية في كتابه الفن الشعري الفرنسي (Art poétique Françoys). هو كلاسيكيٌ كل من يملك الثروة، ومن هو غنيّ بالنتيجة، فالكلمة تملك منذ الأصل دلالة اقتصادية واضحة، وستحافظ عليها ولكن بتورية تخفيفية. بالنتيجة، «الكلاسيكي» هو قبل كلّ شيء قيمةٌ لا يمكن تقديرها بثمن، قيمةٌ تنخفض في الترجمة وعبر الترجمة، إلا أن مكانة رأسمال اللاتينية (واليونانية والعبرية كذلك) هي من الفخامة بمكان، يجعل ترجمتها إلى اللغات المحكيّة تعطي غنىً أكثر بعد. هذه القيمة سحرية: فهي تقيم قطعاً جذرياً بين ما هو كلاسيكي وما هو غير كلاسيكي.

الكلاسيكي نبيل، أو بالأحرى، بالنسبة للعالم الأدبي هو ما يكون عليه النبيل بالنسبة للاجتماع. هو ما ليس الآخرون عليه، يتميّز عن الآخرين بالاعتراف الذي يؤسس لقيمته. هذه القيمة تؤسِّسُ سلطته، التي تضحي شرعية مباشرة. هو مقدس، وبذلك يصبح موضوعاً لإيمان واعتقاد ما، وتصبح النصوص الأخرى دنيوية. هو ينتمي إذاً إلى مجموعة ذات قيمة، «لوحده» انظر Monique de Saint-Martin, « Une grande famille », Actes de la recherche en sciences sociales, n° 31, 1980, p.6. .

من شأنه أن يسمو فوق الآخرين، لأنه ينتمي إلى نبالة أدبية. وترتبط قيمته، المبنية أساساً على اسمه واعتراف الجميع به، بأقدميته: كلما كان قديماً كلما كان شرعياً ونبيلاً أكثر. أقدميته واستمراريته تؤسسان لنبالته ومكانته.

وهو «خالد» (وينجو بذلك من تلف الزمان) لأنه لا يشارك المنافسة و«الدُرجة» التي تشكّل هوية النصوص الأخرى. حاول سانت- بوف (1804 1869) أن يصيغ تعريفاً لما هو الكلاسيكي «الحديث» في أكتوبر 1850 ضمن ما سميّ بـ أحاديث الاثنين، فكتب:

حسب التعريف المتداول، الكلاسيكي هو الكاتب القديم، المكرّس إعجاباً وتقديراً، صاحب السلطة في جنسه. (…) الكلاسيكي الحقيقي (…) هو الكاتب الذي أغنى الفكر الإنساني، الذي زاد في كنوزه حقاً، الذي جعله يتقدم خطوة، الذي اكتشف حقيقة أخلاقية  لا تقبل التأويلات أو استحوذ على شغف أبدي في هذا القلب الذي يبدو أنه عرف واستكشف كل شيء، الذي صاغ فكره وملاحظته واختراعه بشكل لا يهم كيف هو ولكنه واسع وكبير، دقيق وناجع، سليم وجميل بحد ذاته، هو الذي يتحدث إلى الكل في أسلوبٍ  يخصّهُ وحده، ولكنه كذلك أسلوب الجميع، أسلوب جديد دون اجتراح كلمات جديدة، جديد وعتيق، معاصر بسهولة لكل الأعمار والعصور Charles-Augustin Sainte-Beuve, 21 octobre 1850, Causeries du lundi. .

نرى أن سانت- بوف استعاد التعريف الاقتصادي المُوارَى («يغني»، «كنز») وأضاف عليه الخلود، مثل بودلير عندما عرّف «الحداثة» عام 1863: «الحداثة هي الانتقالي، الهارب، العرضي، نصف الفن، حيث النصف الآخر هو الخالد والمُستدام الذي لا يتغير»Charles Beaudelaire, « le peintre de la vie moderne », in Œuvres complètes, préface, présentation et notes par Marcel A. Ruff, Paris, Seuil, 1968, p. 553. . الكلاسيكي هو «الجديد والقديم»، الإحالة إلى القديم كـ «خالد» لم تَخبُ، ولكنها لم تعدْ الإحالة الوحيدة. يُنتِجُ الكلاسيكي القيمة لكونه مقدّراً، فيصبح صاحب سطوة (كما قال سانت- بوف) في غياب من يُصدر ويُنتج القيمة. لهذا فالكلاسيكي سلطة، سطوة خاصة. وبالتوافق مع تعريف ت. س. إليوت، في ما هو الكلاسيكي T. S. Elliot, What Is a Classic? An Address Delivered Before the Virgil Society on the A6th of October 1944, Londres, Faber & Faber, 1945 ، يفيد الكلاسيكي كذلك كوحدة قياس للنصوص الأخرى، التي تنسخ عنه.

كان أناس العصور الوسطى وحتى القرن السابع عشر يسمونها السطوة انظرSerge Lusignan, Parler vulgairement, op.cit., p. 132-134. وانظر أيضاً Roger Ellis (éd.), The Medieval Translator op.cit., p. 15 (auctoritas)، وقد تكوّنت من سلطة مطلقة إلى درجة أنه أصبح من الصعب على  المرء أن يأخذ سدّة الكلام ويعبر عن نفسه قبل أن يعطي لصاحبِ السطوةَ الكلامَ أولاً. كان القدماء أصحاب سطوات في كل المجالات. كانت تُؤلَّف الكتبُ ذات السطوة، والتي يمكن أن تفيد في كل المناسبات يلاحظ شارل ساندرس بيرس أن “السمة الأكثر عجباً في التفكير القروسطي على العموم هو تذكيره الدائم بالسطوة(…)، السطوة بلا حدود (…) فكان من المستحيل أن نجد مقطعاً لا يذكر فيه أرسطو حين يتعلق الأمر بالمنطق. (…) فلا تخطر على بال جان دو ساليسبيري أن يستغني عن تلك السطوة أو أن يلحق تلك السطوة بالعقل” Charles Sanders Peirce, « Questions concernant certaines facultés », Textes anticartésiens, présentation et traduction de l’anglais par Joseph Chenu, Paris, Aubier-Montaigne, 1984, p. 175-176, note a. لم تكن الصلة بين الكاتب (auctor) والسطوة (auctoritas) يوماً بتلك القوة كما كانت في تلك الأزمنة، حيث كان يستحوذ على السطوة مجموعة من الكتّاب الموتى، المقدسين والمكرسين، مشكلين بذلك مدونة مغلقة، يُشار إليها بالبنان كمدونة «ينبغي تقليدها». أي أولئك الذين يستحوذون على السطوة بامتياز، أولئك الذي لا يمكن لسلطة أن تبزّ سلطتهم. سطوتهم التي لا يمكن زعزعتها كانت تذكيراً دائماً، وغير منقطع، بوضعيتهم المُشرِفَة من علٍ على الآخرين.

يبدو أن «الفرق» بين النبالة (والكلاسيكي) من جهة، وبين الآخرين من جهة أخرى، يتأتى من مكانة الأولى، أي في هذه الحالة «إيمان» الآخرين بسلطة الأولى ورأسمالها الرمزي وبـ «الفخم» أو «المنير»، ما لهُ ضياءٌ ولمعانٌ خاص.

إن معنى «الكلاسيكي» من حيث أنه يدل على «ما ينبغي تقليده» هو ما بقي لنا من المعاني الأولى، عقيدة التقليد كما كانت تجري العادة في عصر النهضة، كما بقي كذلك المعنى الذي استحوذت عليه المؤسسة المدرسية التعليمية، وكأن الأمر يتعلق ببساطة بالتحديد والتقييد. إن المعنى الـ «لويس الرابع عشري»، على حد تعبير آلان فيالا ( أي «الكلاسيكيات»من حيث أن أجواء عصر لويس الرابع عشر هي أجواء فخامة تشبه فخامة الكلاسيكيات (المترجمة))، مشتق ببساطة من المعنى الأول، ويدلل على أولئك الذين يبقون خاضعين لسطوة الأسلاف الأولين (Antiques) في المعركة القائمة بين القديمين (Anciens) والحديثين، أي أولئك الذين كتبوا في ذلك العصر، والذين من شأنهم أن يمثّلوا أفضل أشكال السرد الفرنسي، وربما لأن اللغة الفرنسية كانت تسود حينها.

إن «الكلسكة» (جعل الشيء كلاسيكياً) هي سيرورة يصبح عمل ما (أو كاتب ما، فَهُما واحدٌ في هذه الحالة) في منتهاها معترفاً به من قبل هيئات التكريس الأكثر شرعية كقيمة مطلقة، صرحاً أو لحظةً لا يمكن نقاشها. الكلاسيكي هو الذي يُعتبر ذو سطوة خاصة، عملاً لا يشق له غبار. هو بالتعريف خارجٌ عن الترددات والاعتباطية  في مجال المعايير الأدبية. بطريقة ما، يتواجد الكلاسيكي حصراً ضمن فئة «خارج المسابقة» في الفضاء الأدبي، فئة نادرة ومطلوبة بقوة. بهذا المعنى، هو يُستخدم ويُترجم قبل كل شيء كقيمة وسلطة شرعية. قيمة مهمة ( أي أن لا أحد يشكك بها)، والتي تتيح خاصةً أن يصبح المرء غنياً.

في إنكلترا، كانت الاستيرادات الأدبية تتم غالباً كما في فرنسا، بدءاً من اللاتينية واليونانية، ولكن كذلك بدءاً من الفرنسي. كانت تعمل جميعها كحامل لقيمة ينبغي إدخالها إلى إنكلترا: كان الأمر يتعلق بإدخال نصوص كلاسيكية لزيادة حجم الرأسمال الموجود (ضمن مشروع جماعي). إنْ كان الكلاسيكي قيمة وبالتالي سطوة وغلبة، كيف يمكن إذاً تَملُّكُ تلك القيم واستحواذها؟ اللهم إلا بالترجمة CHEAL, op. cit., p. 1-2..

يظهر شارل ويبلي مؤرخ أدبي بريطاني يعلق على هذه الترجمات ويشرحها في هذه الفصول من CHEAL أنه كان للإنكليز المتثقفين معرفة وممارسة أحسن للغة الفرنسية TOHLTE, op. cit., p.22. مما لهم معرفة وباع باللغات القديمة Roger Ellis (éd.), The Medieval Translator, op. cit., p. 41. ، وكان المترجمون الإنكليز المتبحرون والبارزون في ميدان اللغات القديمة قلّةً. هذه المعرفة الحسنة بالفرنسية هي، بلا شك، مؤشر لإرهاصات الهيمنة التي كانت الفرنسية ستبسطها فيما بعد على كامل أوروبا. إن ثنائية اللغة عند الإنكليز خلال القرن السابع عشر (كما ثنائية اللغة الإيطالية في بداية القرن التاسع عشر، والتي سنعود إليها) كانت مؤشراً موضوعياً للتبعية اللغوية (بالمقابل فالثنائية اللغوية عند الفرنسيين أو الإيطاليين، لم تكن واردة)، وإن سحبنا هذا المنطق على كامل أوروبا فهذا يعني عدة أمور: 1) أن كل البلدان الأوربية كانت خاضعة لهيمنة اللاتينية، 2) وأن الجميع كانوا حريصين على زيادة حجم رأسمالهم الرمزي، فالترجمة إذاً كانت غاية ووسيلة نضال رمزيين، 3) وأن أحداً لم يكن ليفكر بوضع حدٍّ لسيطرة اللاتينية الآخذة في الأفول، 4) أن الأهمية الممنوحة للنصوص الإيطالية (ميكافيلي على سبيل المثال) كانت كذلك مؤشراً واضحاً بأن الإيطالية، وبحكم قدمها ونصوصها الكثيرة (من شعر وسرديات)، المكتوبة حينها بالتوسكانية، كانت لغة المكانة والنبالة الأدبية (كانت التوسكانية لغة سائدة).

لقد سعى الإنكليز إلى استجلاب كلاسيكيات السلف الإغريقي واللاتيني إلى أراضي اللغة الإنكليزية متوسلين الترجمات الفرنسية (قام توماس نيكولس بترجمة ثوكيديدس إنطلاقاً من نسخة كلود سيسل الفرنسية، وهذا الأخير كان قد ترجم اليونانية إنطلاقاً من النسخة اللاتينية للورانتيوس فالا، أما توماس نورث فقد ترجم حياة الرجال الأعلام لفلوطرخس بدءاً من الترجمة الفرنسية الشهيرة جداً لجاك أميوت بعنوان Lives of the Noble Grecians and Romans عام 1579، وهو كتاب كان سيترك عظيم الأثر. من شأن هذا الأمر أن يدلّ دون أدنى شك على أن وسيلة المواصلات، عربة الاستيراد، لم تكن تهم كثيراً، فالفرنسية، كما يكتب ويبلي: «لم تكن سوى الجادّة التي يمر عبرها كثيرٌ من الكلاسيكيات إلى لغتنا وأدبنا. واستخدامها الشائع أغرى المترجمين بأن يُعرِّفوا بمعرفة فرنسا وفلسفتها في إنكلترا. وكانت الكتب الفرنسية الموجودة بالإنكليزية كثيرة ومن صنوف متعددة. أولها أهميةً كان مونتيني دو فلوريو عام 1603، ومن بعده يمكن أن نضع أمير دو كومون الذي ترجمه دانتي» CHEAL, op.cit., p.9 (ma traduction). . لم يكن يهم أحداً من المترجمين  ما هي اللغة التي يُتاح النص الكلاسيكي بها، وهو ما كان يُعبّر عنه في مجازات العصر ب «ترييش» (من ريش) أو «تلبيس» Theo Hermans, Translations in Systems, op. cit., p. 115. (من لباس)، أي أن معطفاً وُضع على «جوهر» لاتيني، وبالتالي ثمين، وهذا إن كان يدل على أي شيء فهو يدل على عدم اكتراثهم Ibid., p. 120 ; Roger Ellis (éd.), The Medieval Translator, op. cit., p. 53. . وهكذا تبيّنَ أن شكسبير، الذي نعتقد اليوم أنه لا يعرف اللاتينية واليونانية، كان قد استوحى، بل حتى «استعار» اقتباسات (الكلمات بعينها) CHEAL, op. cit., p. 7. وخطوطاً سردية من فلوطرخس عبر نورث TOHLTE, op. cit., p. 14. . يرى ويبلي فيما يخص ترجمة نورث أن «لأسلوبه فضيلة درامية تعرض للقارئ حركة ثابتة وهي قيمة قدرّها شكسبير عفوياً» CHEAL, op. cit., p.12,. نعرف أيضاً بأن شكسبير هذا نفسه استعار من ويليام بينتر ومن مؤلفه (Palace of Pleasure 1566-1567) TOHLTE, op. cit., p. 14.، وهو مجموعة قصص وحكايا مترجمة من اللاتينية ومن اليونانية ومن الإيطالية CHEAL, op. cit., p. 7. عَرَفَت شهرة واسعة؛ استعارَ ليس أقل من حبكة روميو وجولييت.

لم تكن الترجمة «الجيدة» هي الترجمة الأمينة أو الأكثر وفاءً (إن كان المقصود بـ«الأمانة» النقل الأكثر قرباً من الأصل) TOHLTE, op. cit., p.23.، بل كانت وكما يصفها المترجمون أنفسهم «فتحاً»، أسراً، سلباً للغنى وللسلطة: وهذا ما يفسر لماذا كانوا يختارون نصوصاً لاتينية. فيلمون هولاند، أحد كبار المترجمين الإنكليز في ذلك العصر، كان يصف مشروعه الترجمي كفتح، وحتى كانتقام عسكري. أما جورج شابمان، وهو مترجم شهير جداً للإلياذة والأوديسة (هو الذي نشر ترجمة بسبعة أجزاء للإلياذة عام 1598)، فقد كتب في واحدة من مقدماته: «لو كان بلدي مرابياً لشكرني» CHEAL, op. cit., p. 9.. هاتان الطريقتان في نقل عملية فكرية ولسانيّة إلى الميدان الملموس للفتح الحربي بهذا المعنى يحكي دوغلاس روبنسون أيضاً على اليونان وروما: «فكان المشروع ما بعد الاستعماري لروما (…) هو استملاك الحضارة اليونانية والأدب والفلسفة والعدالة إلخ» Translation and Empire, op. cit., p. 52. والاغتناء «الوطني» لم تكونا مجرد مجاز. كانتا بالأحرى طريقتين لإيضاح الحقيقة والوظيفة الموضوعية للترجمات التي كانت تُرى حينها كأسلحة في الصراعات بين اللغات، والآداب والأمم الأوروبية، كاستيراد ناجح للقيم الكبرى. حتى أن ويبلي يُقارِن بين هؤلاء المترجمين وبين المغامرين أو الرواد أو الفاتحين؛ بالنسبة له، مثلهم مثل «المسافرين الأوائل الذين استحوذوا بقوة على كنز الآخرين وجيّروا لمصلحتهم اكتشافات الإسبانيين والبرتغاليين» CHEAL, op. cit., p.12 (نجد مرة أخرى المفردات الاقتصادية التي يتم إنكارها: كنز، مصلحة… إلخ). بعبارة أخرى، فالأمر هو فتح أصقاع جديدة، وبالتالي اغتنامُ «كنوز» تُغني ما سيكون لاحقاً «الأمة» الإنكليزية. وجَعلُ «أمة» المترجم أكثر غنىً وتمكّناً يفترض أن «نجاح» الترجمة لا يُقاس أبداً على ضوء «الأمانة» أو على ضوء التقارب أو التطابق مع الأصل، ولكنه يُقاس بالجزالة والليونة التي يُعملها الفاتح الذي يتمكن من إعادة الكتابة والنقل والتمرير، القدرة على إعادة زرع نص من لغة ثمينة وذات مكانة إلى لغة أخرى بمكانة وشأن أقل، والمساهمة بذلك في إغنائها موضوعياً. بعبارة أخرى، كان يُنظر إلى الترجمة حقاً كنقل للقيمة، وعائد يُضاف إلى الرأسمال الوطني (عائد مكانة وسلطة وقدرة وحجم)، حتى أنها وُصّفِت وضوحاً كذلك. بهذا المعنى يمكن فهم ما يؤكده ويبلي بأن توماس نورث كان «بعيداً عن أميوت بمقدار بعد أميوت عن النص الأصلي»، وبأن المترجمين «لم يكونوا يبذلون أي جهدٍ لنقل جماليات النص الأصلي إلى لغتهم التي يترجمون إليها» Ibid., p. 12 et 11) .

مؤشر حاسم آخر كان يوضح أن الاستراتيجية المتبّعة هي استراتيجية فتح وتملّك، وهو أن العديد من مترجمي تلك الحقبة كانوا مقتنعين بمبدأ التزيين والزخرفة وزيادة النص المترجم بإضافة جملٍ كاملة وصِفات وتعابير وصيغ… إلخ. وكأن الأمر بالنسبة إليهم لم يكن فقط بهدف تزيين وتجميل النص، ولكن قبل كل شيء «زيادة» الترجمة. كان فيلمون هولاند واحداً من كبار «المزخرفين» Theo Hermans, Translations in Systems, op. cit., p. 110. هؤلاء. كتب ويلبي عنه: «كان يحب الزخرفة، مع كل حرارة وشغف عصر الزخارف، وكان يزخرف كُتّابه المُترجَمين بكل ما تتيحه الإنكليزية الإليزابيثية. اختصار وجزالة القدماء لم يعنيا شيئاً له. فطموحه كان أن يسبغ عليهم ما كان يمكن أن يكونوه، ليس كإنكليز عاديين ولكن كأناس فريدين في عصرهم» CHEAL, op. cit., p. 13 .

وقد عَزا أنطوان بيرمان هذا المنحى الذي نجده في كل مكان من أوروبا عصر النهضة  إلى ما يمكن تسميته بـ«مبدأ الوفرة». لا يمكن تفسير هذا المبدأ إن لم نفترض مشروعاً جماعياً ومشتركاً للمتنورين الأوربيين، مشروع تملك «وطني» للكلاسيكيات الأكثر «قيمة» والمضيفة للقيمة الأكبر. ولكن الأكثر من ذلك، فإن هذا الاتجاه نحو المُزيّدَات في الترجمات ارتبطَ بمفهوم الترجمة كـ«تعويض». كانت محاولةً لتعويض «بخسِ» قيمة النص حين يُنقل إلى لغةٍ أقل شأناً من اللغة المصدر، التعويض بالزخرفة التي من شأنها أن تنقل «القيمة». والحال أن فن الزخرفة والتزيين هو بشكل أو بآخر محاولة لتعويض ضياعٍ ما حصل في الترجمة، وذلك بزيادة المفردات. هذه الممارسة التي يبدو أنها تُناقِض جذرياً تصورنا الخاص حول الترجمة، بحيث أنها لا تقبل بأقل من تحويل النص المصدر (أو التصرف فيه بحرية كاملة غير مقبولة اليوم)، هي في الحقيقة طريقة أخرى نحو هدف اليوم نفسه من الترجمة: إيجاد استراتيجيات لنقل القيمة بأقل ضائعات وخسارات ممكنة؛ بطريقة ما كان الأمر يتعلق بتسوية سعر الصرف بين اللغات. كان كل شيء يتم وكأن الإضافة والمُزيّدات تُعوض الخسارة الجوهرية  لترجمة من هذا النوع بـ«تجميل» النص الهدف، تجميل يقوم على «الزيادة» والإضافة للعناصر، والتي من شأنها أن تعطيه جمالاً.

وكان من سبقهم إلى المشروع نفسه غالباً ما يطرح المثال الذي يحتذى، أو بالأحرى السوابق اللاتينية، كنوعٍ من التبرير أو الشرعنة لما قاموا به. على سبيل المثال، خلال فرنسا القرن السادس عشر كانت  مجموعة البليياد البليياد هنا تشير إلى دائرة من سبعة شعراء تشكلت في القرن السادس عشر في فرنسا، من بينهم بيير دو رونسارو وجواكيم دو بيلي، أخذت على عاتقها تجديد وإغناء اللغة الفرنسية وإعطائها مكانة سياسية بعد تبعيتها للغة اللاتينية، لتكريس وحدة فرنسا السياسية. في سياق آخر، ليس سياقنا هنا، قد تشير كلمة بليياد إلى سلسلة مطبوعات تطبعها دار نشر غاليمار، ذات مكانة رفيعة وبجودة مضمون وشكل مطبوع يدلل على مكانة الكتاب الصادر، كإرث إنساني. لا يدخلها إلا أمهات الأدب الفرنسي أو العالمي. الجدير بالذكر أن مقدمة ابن خلدون طبعت في البليياد. (المترجمة) قد جعلت من ثيمة إغناء اللغة الفرنسية واعزاً حقيقياً، ولم تفتأ تحيل إلى ما تعتبره سوابق تسبغ النبالة والشرعية.

أما مسألة الأمانة TOHLTE, op. cit., p. 34. فلم تُصَغ كموضوعة كما هي ولم تخضع للسجال، فهي لم تكن في قلب المسألة ولم تكن رهانَ الترجمة في تلك اللحظة. والتقليد الدارج لما نطلق عليه اليوم، وبمفارقة تاريخية بحتة، «الانتحال» هو الدليل على ذلك، فاستعادةُ شاعر ما حينها لنص مترجم من لغة أخرى، وبحرفيته كلمةً كلمة، كان أمراً متناغماً مع هدف الاستملاك اللغوي لتلك الحقبة. أظهر سيدني لي في كتابه حول السوناتات الإليزابيثية Sidney Lee, Elisabethan Sonnets, vol.1 et 2 [1904], Charleston (NC), Bibliobazaar, 2008. أن الشعراء الإنكليز كانوا قد أخذوا من الشعر الفرنسي الذي سبقهم مباشرة، الكثير. وفي مقارنة بالغة الدقة بين النصوص، بيّن أن سوناتات توماس لودج، أو صاموئيل دانييل، أو توماس ويّات، أخذت عن رونسار، أو فيليب ديبورت أو بيترارك. لم يكن الأمر «سرقةً» أو نسخاً لم يعترف به و«مُداناً» أخلاقياً؛ لم يكن هذا هو المنطق المتداول حينها. فمجرد نقل (أو ترجمة) تلك الأشعار إلى لغة جديدة كان يجعل منها أعمالاً تُمكّن مترجميها من اعتبار أنفسهم مؤلفيها، وتُمكّنهم من ادعاء إغناء اللغة والأدب الإنكليزي. يكتب وينلي على هولاند: «لقد ارتكب سرقاته جهاراً وعلى العلن لنرى أنه لم يكن يخشى التطاول على أي قانونٍ كان. اجتاح الآخرين كملكٍ متوج، ما كان من شأنه أن يكون سرقة بالنسبة للآخرين كان يعد انتصاراً بالنسبه له. (…)كان كلٌّ من ويات ودانييل ولودج وسبنسر يشيرون إلى السوناتات المأخوذة من الفرنسية أو الإيطالية وكأنها مُلكهم لأنهم هم من ترجمها» CHEAL, op. cit., p. 28 (ma traduction) . في كتابه العلم المرح (1882)، عبّر نيتشه بحدة عن هذا الأمر، حيث أظهر أنه في ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر، كان لا يزال هذا التمثيل حول الترجمة متبنىً على شكل واسع، وبأن استملاك ما هو من الإرث روماني كان إلى حد ما بديهياً:

يمكن محاكمة الحس التاريخي لعصرٍ ما عبر محاكمة الطريقة التي تمت فيه الترجمات، وعبر الطريقة التي يحاول عبرها أن يدمج إليه قروناً وكتباً قديمة. (…) أما السلف اللاتيني…، فبأي عنف ساذج أتمّ ذلك! ألم يضعوا أيديهم على كل ما هو عظيم وجميل في ما كانت عليه اليونان القديمة حينها؟ (…) كانوا يجهلون كل متع الحس التاريخي، كل الغرائبية، كل ماضٍ كان يغيظهم ويوقظ فيهم الفاتح الروماني. وبذلك فقد كانوا يفتحون عبر الترجمة…ليس فقط عبر تجاهل التاريخ ولكن أيضاً عبر (…)  المحي، بدءاً من اسم الكاتب الأصلي ليوضع اسم المترجم محله، دون أدنى فكرة أنها سرقة؛ لا بل مع ضمير بالغ الارتياح، ضمير الإنبريوم الروماني. Friedrich Nietzsche, le Gai Savoir, traduit de l’allemand par Alexandre Vialatte, Paris, Gallimard, coll. « folio», 1985, Livre II, 83, p. 116.

دعونا نؤكد من الآن بأن وظيفة الاستملاك وفتوحات الترجمة ليست تمثيلاً عبثياً، تهويماً دون أساس أو أنها شكل من أشكال الفكر التي لا يمكن استعادة منطقها بحكم تقادمها. بل على العكس. وكما أظهر إيريك أوبرباخ، فإن ظهور ما أُطلق عليه «اللغات الأدبية» في أوروبا بين القرنين السابع والتاسع، أي اللغات المكتوبة في حضن اللغات المحلية المتداولة، والتي سمحت بتطوير نصوص مكتوبة من شأنها أن تترجم التعبير الأكثر رهافة وتعقيداً للواقع الشعوري والاجتماعي، هذا الظهور لم يكن إلا نتاج تراكمٍ بطيء جداً وتطوري جداً لغنى التعبير والحرفة الأسلوبية والمعارف الخطابية؛ باختصار: الرأسمال الخاص. كان هذا التراكم يُنتَج على شكل اجتراحات وإبداعات، ولكن كذلك عبر نقل وتقليد وخلق تقنيات سردية أو شاعرية، انطلاقاً من اللاتينية.

يمكننا إذاً أن نصوغ الفرضية التالية، ومفادها أنه في وقت متأخر جداً، أي بدءاً من القرن السادس عشر، استطاعت الترجمة أن تصبح طريقاً آخر لمراكمة الرأسمال نفسه، أي المتابعة وبشكل آخر مختلف وفي ظرف لغوي جديد (حيث أن الثنائية اللغوية بين اللاتينية واللغة المحلية المتداولة كانت آخذة بالأفول)، متابعة عملية المراكمة، والتجميع و تركيز «غنى» اللغات والآداب (و/أو «اللغات الأدبية») الأوروبية. في اللحظة التي كانت فيها اللغات المحكية المحلية في طور «تحررها» من هيمنة اللاتينية، التي كانت لوقت طويل اللغة المكتوبة الوحيدة في حوزة المتنورين، بحكم أقدميتها ومكانتها الواسعة وبحكم أنها كانت المخزن الوحيد للكثير من التراثات الأدبية، والتي كانت تستفيد مما أطلق عليه أورباخ «تقدماً» نسبةً إلى «تأخر» اللغات المتاحة والمتداولة. في تلك اللحظة، كانت الترجمة إمكانية حقيقية لاستيراد من نوع خاص، للزيادة والتكبير باستيراد مهاراتٍ وتقنيات خطابية وأدبية إلى اللغات الممارسة يومياً.

عبر تلك الترجمات القيّمة، كان يتم تملّك نماذج أضحت غير متاحة بسبب أفول اللاتينية. وبقدر ما كان الموضوع متعلقاً باستيراد المكانة والرِفعة (حيث التمكن من قراءة الإلياذة والأوديسة بالإنكليزية هو سبغ نبالة على هذه اللغة بفضل نصوصٍ من أرفع النصوص في تاريخ الإنسانية)، بقدر ما كان متعلقاً باستيراد رأسمال من المهارات كذلك.

من جهة أخرى، كان على الكتّاب المتحدّرين من الحقول الأدبية الوطنية المُهيمَن عليها، إن أرادوا الدخول في المنافسة الأدبية العالمية، أن يعملوا على استيراد رأسمالٍ ما، وأن يربحوا الأقدمية والنبالة بتأميم (أي الترجمة إلى اللغات الوطنية في هذه الحالة) النصوص الكونية المعترف فيها كرأسمال كوني عالمي. لهذا السبب، فإن النصوص المترجمة من لغة عالمية مكتوبة إلى لغةٍ أدبية يمكن (ويجب) أن تُحلَّلَ وفق منظور «اختلاس رؤوس الأموال».

يمكننا أن نتخذ من «برنامج الترجمة» Antoine Berman, L’Epreuve de l’étranger. Culture et traduction dans l’Allemagne romantique, Paris, Gallimard, 1984, p.29 عند الرومانطيقيين الألمان مثالاً، وهو برنامج مكرس خصيصاً ومرة أخرى للعصر الإغريقي والروماني القديم، وجراء تشكل الدولة الأمة المتأخر لألمانيا نسبة إلى الدول الأمم الأخرى في أوروبا، ولأن الألمانية كانت لغةً مُهيمناً عليها في أوروبا، فقد كان من المهم استجلاب الترجمات إلى أراضيها. منذ نهاية القرن الثامن عشر وطوال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان الألمان، إلى جانب «اختراعهم» لأدب وطني وشعبي، ينشؤون استراتيجية جماعية لإلحاق واستملاك «مصادر» من العصر القديم. هذا «التأميم» لإرث أجنبي ونبيل سمح للألمان بـ«تعويض الوقت الفائت»، وسمح لهم كذلك عبر المراكمة الأولى لرأس المال بواسطة الترجمة، بإعادة اغتنام الأقدمية الناقصة، وقبل كل شيء بالمطالبة بتفوق اللاتينية واليونانية لإنكار مكانة لغة أخرى معاصرة حينها، ألا وهي الفرنسية التي كانت قد أصبحت لغة عالمية. اخترع جوناثانأستخدمُ هنا كلمة «يخترع» بمعناها القوي للدلالة على العلاقة بين النص الأصلي والنص المترجم (ملاحظة من باسكال كازانوفا). غوتفريد فون هيردر (1744-1803) «الأمانة»يكمل دوغلاس رونسون المذكور في كتاب أنطوان بيرمان هذا الاقتباس: «على هوميروس أن يدخل كأسير إلى فرنسا، أن يلبس على الطريقة الفرنسية كي لا يخدش عيون الناظرين، عليه أن يتركهم يحلقون له ذقنه المهيبة وأن يخلع ثوبه البسيط، عليه أن يتعلم العادات الفرنسية، وفي كل مرة تشعُّ فيها كرامته وهيبته القروية ينبغي أن يُقزّم كبربري نسخر منه». Translation and Empire, op. cit., p. 56 Treue لمناهضة المركزية العرقية لمفهوم «الجميلات الخائنات تتعرض الكاتبة لهذا المفهوم الذي يعنون الفصل الرابع من الكتاب نفسه. وهو مفهوم يعود إلى سجال فرنسي في عصر الترجمة، في الدلالة على الترجمات المزيدة المزخرفة، والتي ليست بالضرورة وفيّة وأمينة للنص الأصلي (المترجمة). belles infidèles». يلاحظ أنطوان بيرمان أن «لكلمة أمانة وزناً كبيراً في الثقافة الألمانية حينئذ، ويمكن أن تُثمّن كقيمة كبرى، في المجال العاطفي جدير بالذكر أن كلمة أمانة بالفرنسية في هذا السياق هي نفسها الكلمة المستخدمة للتعبير عن الوفاء العاطفي بين الأشخاص fidélité (المترجمة). كما في مجال الترجمة والثقافة الوطنية على حد سواء؟» Antoine Berman, L’Epreuve de l’étranger, op. cit., p..

على الوقع نفسه، أخذت «الأمانة» تنتشر في كل مكان (بما في ذلك في فرنسا) لتصبح المعيار العالمي الجديد فيما يخص الترجمة؛ إلى درجة أن اللغة التي أصبحت سائدة ظلت تحافظ على خصائصها، مع طواعيتها، الظاهرة، للمعايير الجديدة في الترجمة التي كان من شأنها أن تحمي الكاتب والنص الأصليين.  كان فيلهيلم فون هومبولت يؤكد أنه «إن كان ينبغي على الترجمة أن تتيح للغة وروح الأمة استملاك ما لا تملكه (…)، فإن المتطلب الأول هو بكل بساطة الأمانة الصرفة» Wilhelm von Humboldt, Sur la traduction. Partie centre de l’Introduction à L’Agamemnon d’Eschyle, traduit de l’allemand par Denis Thouard, ¨Paris, Seuil, coll. « Points », 2000, p. 39. Je souligne. . في مواجهة «فرنَسَة» النصوص، أي اختزالها إلى عناصر جمالية تدّعي الكونية مع أنها ليست إلا فرنسية، أي مهيمنة، أشاد الألمان بـ«الأمانة»، أي الحقيقة الموضوعية، المرجع الأصدق نسبة إلى الأصل. حين نتكلم على الترجمات الفرنسية أو الترجمات «على الطريقة الفرنسية»،  يمكن أن نستدعي مبدأ المركزية الجمالية، كما لو أننا نتحدث على المركزية العرقية. لنقل إنه كان هناك ثورة ضد سيطرة الفرنسية، وقد ضمن الألمان على عكس الفرنسيين تطابق النص المترجم كلياً مع النص الأصلي الذي تُرجم عنه.

أما عائد رأس المال، فقد أنجزه وأتمّه عمل الألسنيين والفيلولوجيين الذين وضعوا أدواتهم في خدمة مناهضة الهيمنة الفرنسية. إن القواعد المقارنة للغات الهندوأوربية سمحت بإعلاء اللغات الجرمانية إلى مصاف اللاتينية واليونانية من حيث النبل والوجاهة، في منظومة الشرعية التي تحددها الأقدمية اللسانية الأدبية، وذلك بإطلاق حكم رفعة اللغات الهندوأوربية وسُموها على اللغات الأخرى. وفي الوقت نفسه، أدخلتْ الألسنية اللغة الألمانية إلى حيز اللغات القديمة غير العادية، وبالتالي أدخلتها إلى «أدبانية» ترفعها إلى مستوى اللاتينية.

ضمن هذا المنطق، نفهم بشكل أفضل ظهور نظريات الترجمة؛ ولأي أسباب كان ينبغي إعلان تقادم وعدم صلاحية الترجمات الفرنسية للنصوص اللاتينية واليونانية نفسها؛ فمقابل الممارسات الفرنسية السائدة، كان ينبغي تأكيد ما هي الترجمة «الحقّة». كانت النظرية الألمانية، وما يترتب عليها من ممارسة للترجمة، مؤسَّسةً على تناقضٍ وتقابلٍ في كل تفصيل مع التقليد الفرنسي في هذا الميدان. كانت هذه الأخيرة في الحقبة نفسها قائمةً على الخفة والتساهل و«قلة الأمانة». كانت تتم الترجمة دون أدنى اهتمام بالأمانة: فقد كانت المكانة المهيمنة للأدب واللغة الفرنسية Friedrich Schleiermacher, Des différentes méthodes de traduire, traduit de l’allemand par Antoine Berman, Paris, Seuil, 1999, p. 91. تدفع بالمترجمين إلى إلحاق النصوص الأصلية بجمالياتهم وطرائق تفكيرهم عبر التصرف فيها.  يقول فريديرك شلايرماخر: «من سيّدعي يوماً أنه قد تُرجم شيءٌ ما من اللغات القديمة أو اللغات الجرمانية إلى اللغة الفرنسية؟». يقول غوتيه: «بالنسبة للمشاعر والأفكار، وحتى بالنسبة للأشياء، تتصرف الفرنسية كما تتصرف بالكلمات الأجنبية التي تؤقلمها على هوى محكيتها: لكل فاكهة غريبة، تتطلب الفرنسية بديلاً ينبت وينمو على أرضها الخاصة» Johann Wolfgang von Goethe, «Übersetzungen”, in Noten und Abhandlungen zu besserem Verständnis des West-östlichen Divans, Goethe Werke, Hamburger Ausgabe, t. II, p. 255-256. . كانت هذه الانتقادات تهدف إلى جعل اللغة الألمانية لغة المرجع الوحيدة، أي بعد فرنسية القرن الثامن عشر، تأتي «لاتينية الحديثين».

وهكذا نمت بين المثقفين الألمان فكرة مراكمة حقيقية وموضوعية لرأس المال اللساني. يكتب غوتيه أيضاً: «بعيداً تماماً عن منتوجاتنا الخاصة، فقد بلغنا درجة وشأناً في الثقافة مرتفعاً جداً، وذلك بفضل استملاكنا التام لما هو غريب عنّا»Cité par Antoine Berman, L’Epreuve de l’étranger, op. cit., p. 26. Je souligne. . حتى فالتر بنيامين، كتب في Der Begriff der Kunstkritik in der deutschen Romantik، وكأنه أمر بديهي، أن «العمل الرومانطيقي المستدام للرومانطقيين هو أنهم ألحقوا بالأدب الألماني أشكالاً فنية من الإرث الروماني اللاتيني. جهدهم الأساسي كان موجهاً بشكل واعٍ نحو الاستملاك، وتطوير وتنقية هذه الأشكال» Walter Benjamin, Werke, I, 1, Francfort, Suhrkamp, 1974, p. 76. Je souligne. . يبقى لنا اليوم من تلك الترجمة المصممة كاستملاك، أو ما أطلقتُ عليه في موضع آخر «الترجمة-المراكمة» Pascale Casanova, « Consécration et accumulation de capital littéraire. La traduction comme échange inégale », art. cité, p. 9. : ما يحدث في البلدان ذات اللغة المُهيمَن عليها بقوة (إنه التاريخ الذي يسمح بفهم الحاضر بعد حين وكأنه نوع من التحقق).

يمكننا أن نضيف إلى هذه العملية البسيطة من مراكمة رأس المال خلال حقبات التأسيس الوطني والسياسي، «التسارع الزمني» لعديدٍ من الفضاءات المُسيطَر عليها والتي كانت مؤسَّسةً قديماً. في هذه الحقول، تشكل الترجمات العالمية أدوات النضال الفُضلى للكُتّاب الأكثر استقلالاً، وهي تسمح باستيراد معايير مركزية ـو حتى عالمية، أي المعايير التي تحدد وتصادق على الحداثة. المترجمون أنفسهم يكونون متعددي اللغات في الحقل الألماني في نهاية القرن الثامن عشر، كان أوغست فيلهيلم شليغل يتقن إتقاناً تاماً اللغات الأوربية الحديثة الأساسية، اليونانية، اللاتينية، الفرنسية القروسطية، الألمانية القديمة، لغات الأوك وكذلك السنسكريتية، ترجم شكسبير ودانتي وبيترارك وبوكاتش وكالديرون وكذلك شعراء إيطاليين و إسبان وبرتغاليين أقل شهرة. ، ويمكنهم بالتالي أن يتواجدوا، وفق الثنائية الكبيرة التي تنظم الحقول الوطنية، بين العالميين: فهم حين يريدون أن يقطعوا مع معايير فضائهم، يسعون لأن يُدخلو إليه أعمال ومؤلفات الحداثة وفق ما عُرِّفَت في المراكز.

يلعب هؤلاء الوسطاء نوعاً ما دوراً معاكساً للعالميين في العواصم الكبرى، فهم لا يدخلون الأطراف إلى المركز ليكرّسوه، بل يستوردون الحداثة وفق ما نصّ عليها «خط غرينتش للكتب» Pascale Casanova, « The Literary Greenwich Meridian. Thoughts on the temporal forms of literary belief”, Field Day Review, n° 4, 2008, p. 7. ، ويقدمونها في حقلهم الوطني. لهذا فهم يلعبون دوراً رئيسياً في توحيد حقل الكتب العالمي. يمكننا هكذا أن نتخيل خارطةً عالمية للكتب تُرسَم انطلاقاً من تواريخ ترجمات النصوص الهرطقية الكبرى، أي النصوص المؤسِّسة للحداثة. هذه الجغرافية الأدبية قد تسمح في الوقت عينه بقياس المسافة الجمالية الموضوعية لمختلف الفضاءات نسبة إلى المركز المشرّع.