الذهول والغضب والحزن؛ تختصر هذه الكلمات ردود الفعل الأولى على الكارثة التي شهدتها بيروت، ولكن ليس الأولى فقط، بل ردود الفعل الثانية والثالثة والرابعة. لم يكن سكّان بيروت يعرفون أن ميناء مدينتهم مفخخ على هذا النحو، لكنهم كانوا بلا شك يعرفون أن حياتهم مفخخة، وكانوا أصلاً يترقبون احتمال الأذى في كل وقت، من عبوات ناسفة وطائرات وأحزاب وميليشيات ومصارف ولصوص وزعماء طوائف، غير أن الأذى الرهيب الذي طال حياتهم وأرزاقهم في لحظات قليلة جاء تكثيفاً بليغاً لكل الأذى الذي يمكن لأي إنسان أن يترقبه أو يتصوره.
شهدنا مزيج الذهول والغضب والحزن هذا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً في أحاديثنا السريعة المتلعثمة مع أصدقاء في لبنان للاطمئنان عليهم، وفي مقالات عديدة نشرتها مواقع صحفية عدة. هذا المزيج كان الشعور الطاغي لدى عموم اللبنانيين وغيرهم من سكان بيروت اللاجئين والعمال من جنسيات شتى، لكنه لم يكن شعور السلطة اللبنانية بأي حال، لم يكن شعور قادتها وأحزابها ورموزها وشبيحتها الممسكين بخناق لبنان وأهله.
رأينا هؤلاء في الساعات اللاحقة للانفجار يصدرون بيانات باردة شديدة السخف، ويتقاذفون المسؤولية ويحاولون التنصل منها، ويتحدثون عن تحقيقات لمعرفة المسؤولين عن الانفجار. ولكن عن أي تحقيقات ومسؤولية يتحدثون؟ لقد رأينا في اليوم التالي للانفجار مشهداً لا يُصدَّق؛ بلطجية من أنصار سعد الحريري يعتدون على معتصمين ونشطاء إغاثة في ساحة الشهداء، على بعد مئات الأمتار من موقع الانفجار، وقبل مرور أربع وعشرين ساعة على وقوعه.
يختصر مشهد بلطجية سعد الحريري إياه الحكاية كلها. ثمة زعماء لديهم ميليشيات من المتوحشين والقتلة، وهؤلاء لا يمكن أن يمسّهم الذهول، ولا يمكن أن يغيروا شيئاً في سلوكهم أياً كان ما يلحق ببلدهم وأهلهم من فواجع. هكذا نستطيع أن نفهم بشكل أفضل كلام أصدقائنا اللبنانيين عن الثأر، إذ ما الذي يمكن فعله أو قوله في مواجهة سلطة إجرامية كهذه؟
Marwan Tahtah / Getty
كتب صهيب أيوب عن ثأر صافٍ مثل دمعة: «كان بإمكان كلٍّ منّا إن لم يمت مفجَّراً أو محترقاً أو مسموماً أو غريقاً، أن يموت من القهر. وحسان دياب يبحث بين ركام ما سقط في السراي الحكومي عن مشطه العظم، كي يرتّب شعره الذي تبعثر قليلاً، في لحظةٍ مات فيها العشرات وتكسّرت فيها المباني وتهدّدت حيوات الآلاف». وكتب سامر فرنجية؛ لن نحاسب، سننتقم: «نحن لا شيء بعد اليوم، ولذلك سنقتلكم، ليس لأنه لم يعد لدينا ما نخسره، بل لأنه لم يعد هناك ما نفعله إلّا قتلكم. سنلملم الزجاج من الشوارع، وسنحتفظ به بأيادينا، وعندما يأتي النهار، سنملأ قبوركم به». وكتبت ديانا مقلد عن علي الذي فُقدَ قبل أن يحصل على دولارين: «وعلي رجل ثلاثيني خسرَ عمله الثابت في إحدى الشركات بسبب الأزمة الاقتصادية، وليتمكن من إعالة زوجته وأطفاله الثلاثة بدأ العمل في أهراءات القمح في مرفأ بيروت منذ شهرين حيث كان يتقاضى أجرة 20 ألف ليرة يومياً، أي ما يعادل دولارين ونصف الدولار. تقول زوجته إنه يوم الانفجار أنهى عمله عند الرابعة لكنه تلقى اتصالاً بضرورة العودة لأن هناك شحنة عليه العمل على تفريغها. عاد واختفى والعائلة لم تسمع عنه بعدها أي شيء، “يردوا علينا.. يقولولنا طيب أو ميت بس”، تقول زوجته وهي تبكي». وكتبت عليا ابراهيم عن اللعنة والمحاسبة: «بصفته السلطة الحاكمة بقوة سلاحه، يتحمل “حزب الله” المسؤولية الأكبر ولكن ذلك لا ينفي المسؤولية عن كل من غطى المعادلة التي سمحت له بأن يحكم… تفجير المرفأ مجرد نموذج يختصر المشهد: تبييض أموال وتهريب وصفقات وسلطة سياسية فاسدة تتقاسم الأرباح وقضاء مرتهن وأجهزة أمنية متواطئة… ولكن أيضاً نحن. كل فرد قَبِلَ أن يخضع لابتزاز زمرة من أمراء الحرب ورجال العصابات. هذه لعنتنا وهي باقية طالما بقيت هذه المنظومة».
هذه أمثلة فقط عن ما قاله وشعر به وكتبه لبنانيون كثر بعد هذه الفاجعة، ليس فاجعة الانفجار وحدها، بل فاجعة أن السلطة في لبنان تمعن في تدميره وتحطيم حياة أهله، دون أن يكون هناك أفق للخروج من نفق يسير باتجاه واحد إلى هاوية تبدو بلا قعر. وكنّا قد شهدنا مع أهل لبنان ضوءاً في آخر ذاك النفق، عندما انطلقت انتفاضة السابع عشر من تشرين العام الماضي، لكن الضوء تلاشى لاحقاً وراء العنف والقمع واستحضار الحرب الأهلية والأزمات الاقتصادية الخانقة ووباء كورونا.
ثمة فوارق لا تحصى بين سوريا ولبنان، ولكن لا مجال لتجاهل ما يظهر في الحكايتين من تشابه. لقد رأينا ضوءاً في آخر النفق عام 2011، وها نحن غارقون اليوم في جراحنا ولجوئنا ومدننا المدمرة وذاكرتنا المحترقة. وقد عاش سوريون كثيرون في بيروت لحظة الانفجار الفاجعة، وقلّما نجا أحدهم من استعادة ما كان قد عاشه من مشاهد القصف المُدمِّر في سوريا قبل خروجه منها، وقلّما نجا أحدهم من حضور الذاكرة السورية الثقيل فوراً. يقول عروة المقداد: «شعرتُ للوهلة الأولى أن هذا قصفٌ جوي. لقد أدى الانفجار إلى أضرار في معظم البيوت في الحي الذي أقطن فيه في الأشرفية، والذي يبعد نحو كيلومتر أو أكثر قليلاً عن موقع الانفجار. مشيتُ في الشوارع، وكان أول ما عاد إلى ذهني مشاهد رأيتها في أحياء حلب الشرقية عام 2012. لأول مرة شعرتُ أنني لستُ غريباً في الأشرفية، فأنا أعرف هذه المشاهد القيامية جيداً. كان ضغط الانفجار هائلاً، وكان كل شيء يبدو محطماً. في اليومين التاليين تعاون الناس على البدء بالتنظيف وإصلاح ما يمكن إصلاحه، لكن الذهول والصدمة لا يزالان يخيمان على جميع الوجوه. ليس لدي دليلٌ مؤكدٌ على ما سأقوله الآن، لكن يبدو لي أن هذا مدبّرٌ وليس حادثاً عرضياً. هكذا اعتدنا أن يهرب الأسديون وحلفاؤهم من كل استعصاء يواجهونه، عبر افتعال أحداث كبيرة دموية تعيد خلط الأوراق وترتيب المشهد. لا أعرف، لكن بدا لي كما لو أن الحادث فصلٌ جديد من فصول الحرب المستمرة علينا جميعاً».
ويبدو فعلاً أننا لن نعرف الحقيقة في أي يوم. تتحدث السلطة اللبنانية عن شحنة ضخمة من نترات الأمونيوم انفجرت لسبب مجهول، وسيستمر الحديث طويلاً عن لجان تحقيق، وعن خيوط تقود إلى معلومات غير مؤكدة، وستبقى كل الاحتمالات مفتوحة. الأرجح أننا لن نعرف الوقائع المادية الجنائية بشكل مؤكد، وأننا لن نعرف على وجه اليقين من هو الشخص المسؤول بشكل مباشر، ويبدو واضحاً أن السلطة ستبذل كل ما في وسعها كي لا يعرف أحدٌ شيئاً موثوقاً. يعيدنا هذا إلى سوريا رغم أنوفنا، ذلك أن خلط الحقائق بالأكاذيب، والتضليل بشأن كل حدث كبر أم صغر، حتى يصبح مستحيلاً أن يعرف أي أحد ما الذي حدث على وجه اليقين، هو أسلوب أسدي في الحكم وإدارة الأزمات.
يقول أحد أصدقائي، وكان يسير في الشارع وقت الانفجار: «سمعت أصوات انفجارات وضجيجاً يشبه الغارات أو القصف، ثم سمعتُ صوتاً هائلاً وشعرتُ بضغط دفعني من مكاني، ثم رأيت الزجاج والحطام المتناثر في كل مكان. ربما أكون قد فقدتُ السمع قليلاً، لكنني استعدته بعد لحظات ورحتُ أسمعُ الصراخ والضوضاء وأصوات الزجاج المتكسر المنسحق تحت أقدام الراكضين يميناً ويساراً كأنه يوم القيامة. هذه مشاهد مألوفة بالنسبة لي، حتى أنني اعتقدتُ للحظات أن هذا حلمٌ من أحلامي الكثيرة التي تداهمني في الليل، لتجبرني على استعادة لحظات من سوريا أريد نسيانها. لا يمكنني أصدق أن ما حصل كان نتيجة إهمال فقط، وحتى لو كان هذا صحيحاً، فإن المسؤولين عن الجريمة، عمداً أو إهمالاً، يستعدون للتنصل من المسؤولية عنها ثم الاستفادة منها بأقصى ما يمكنهم. سيستغلون الأمر كلّه، الفوضى والمساعدات المالية وأعمال الإصلاح والإعمار، لتدعيم سلطتهم وتعزيز مواقعهم».
وبالفعل، تقول الأنباء إن الحكومة اللبنانية شكّلت «لجنة تحقيق إدارية»، وكأن الأمر يتعلق بخطأ ارتكبه موظفٌ هنا أو هناك. وأعضاء هذه اللجنة هم أنفسهم المسؤولون عن كل كوارث البلد ومنها هذه الكارثة، فاللجنة برئاسة حسان دياب رئيس الحكومة نفسه، وبعضوية وزراء وقادة في الأجهزة الأمنية. وطبعاً لم ينسَ جبران باسيل أن يتحدث عن قضية اللاجئين، طالباً من فرنسا دعم لبنان بخصوص هذا الملف، وإلا فإن هؤلاء اللاجئين سيتّجهون إلى أوروبا في النهاية. وفي الرسالة التي سلمها باسيل لماكرون، جاء أن «محنة بيروت فرصة لتجديد لبنان الكبير»؛ يبحث أركان السلطة إذن عن الفرصة التي تحملها الكارثة لهم، فيما يحاول سكّان بيروت إزالة ما يمكن إزالته من آثار الكارثة، واستئناف ما يمكنهم استئنافه من حياتهم.
تقطن شيرين الحايك في حي يبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن ميناء بيروت، لذا لم يكن الدمار كبيراً، لكن مع ذلك كان هناك زجاج محطم وبعض الإصابات، وصدمة كبيرة وصوت قوي ورعب، تقول: «شعرت أن البناء الذي أقطن فيه ارتفع عن الأرض ثم هوى مجدداً. لم نعرف إذا ما كان هذا قصفاً أم اغتيلاً أم زلزالاً. نزلنا إلى الشوارع، سمعت بعض الناس يقولون إنه ربما يكون اغتيالاً.». وكان صعباً عليها أن تشرح أكثر حتى عندما تحدثنا بعد يومين من الانفجار، تقول: «كيف تشرح أنك نجوتَ من الموت في بلادٍ فسادُ حكامها يأكل كلّ ما يتحرك؟ نحن لسنا بخير؛ لم نمت لكننا لسنا بخير. كيف نكون بخير والمشافي لم تعد تستقبل الجرحى، كيف نكون بخير وهناك جثث في البحر وأخرى اختفت، كيف نكون بخير ونحنُ لا نعرف ما الذي سينفجر غداً».
أن لا تعرف ما الذي سينفجر غداً، تلك هي القصة. يقول أحد أصدقائنا من السوريين المقيمين في بيروت بعد رؤية بيته مدمراً تماماً: «تعودنا الترقيع في حيواتنا. بعد هول الانفجار، أخذتُ كأساً من العرق وفكرتُ في الزاوية التي عليّ أن أنظفها من شظايا الزجاج، كي أركن إليها وأنام. كذلك فكرتُ بتركيب باب ورشة بقفل بدل باب الدار المخلوع غير القابل للإصلاح حالياً، أما كل شيء آخر فيمكن أن نفكر به فيما بعد، إذا لم تأتِ ضربة أخرى على الرأس. الضربات المتتالية على الرأس، والنهوض بعدها، هذا ما نتقنه هنا».
هو العيش المفخخ أبداً، المفتوح في كل لحظة على الخسارة والفقد والموت، وعلى الذهول والغضب والحزن. وتبدو الجهات التي تفرض على اللبنانيين والسوريين هذا العيش واضحة تماماً، مكشوفة تماماً، وفي الوقت نفسه محصّنةً من تبعات كلّ غضب. ولكن كيف لهذا أن يحدث مراراً وتكراراً؟ يبدو السؤال مخيفاً لأننا نعرف القتلة بالاسم، ولأننا نعجز مع ذلك عن محاسبتهم أو إيقافهم. ولكن لأنه سؤال عن العجز، فإنه لا مناص من التفتيش بحثاً عن أجوبة؛ كيف لهذا أن يحدث مراراً وتكراراً؟