لم يكن انفجار مرفأ بيروت مجرد «قشة». كان يعادل، كانفجار، نصف قنبلة نووية حسبما ذهبت بعض التقديرات. وقد وصلت أصداؤه إلى جزيرة قبرص، كما أكد كثيرون. وللمفارقة، فإن ورود اسم جزيرة قبرص في سياق الأخبار الأولية المتعلقة بالانفجار أثار عندنا نحن السوريين، جيران لبنان وأقرانه وشركاؤه في المصير الأسود، حيث جلادنا واحد، أثار عندنا مقارنة تتعلق بتلك الجزيرة، التي يُفترض أنها نائية، والتي أراد عنصر الأمن في مسلسل سوري شهير أن يوصل «عواءنا» جميعاً إليها، فكانت النتيجة أن وصل صدى انفجار لا يمكن لأحد، حتى لمن باع عقله وإدراكه وضميره بالكامل دون تردد أو ندم، لا يمكن له ألّا يجد الصلة الواضحة بين الانفجار المهول وهذا الجلاد، الذي لا يريد أن يختفي حتى ولو أبادنا جميعاً وبقي سيداً مطلقاً حتى على الدمار وحده!
هي بضع ساعات فقط، ثم بدأ اللبنانيون الحركة بعد أن أطلقوا حكمهم دون انتظار أية نتائج «تحقيقات». وهذا طبيعي، ليس فقط لأن الجهة التي ستدير تلك العملية المسماة تجاوزاً «تحقيقات»، وهي «السلطات الرسمية اللبنانية»، لا تملك ذرة نزاهة، ولا حتى كفاءة، تؤهلها لأن يؤخذ كلامها على محمل الجد؛ بل أيضاً لأن الرأي العام وفي مواجهة أية كارثة، بحجم انفجار مرفأ بيروت، سيبدأ من فوره بتوجيه الاتهامات، التي غالباً لا تأتي من فراغ، ويعلن إدانته قبل أية لجنة تحقيق، نزيهة وكفؤة أو عكس ذلك، موجهاً إصبع الاتهام إلى المجرم الرئيسي الذي يعرفه الجميع ويخاف كثر البوح باسمه. ألم يحصل هذا عشية اغتيال رفيق الحريري؟ وكانت النتيجة أن القرار الاتهامي المنتظر خلال بضعة أيام من الآن لن يكون بعيداً جداً عن «عريضة الاتهام» التي قدمها الرأي العام في شوارع بيروت بُعيدَ الاغتيال مباشرة.
وكما هو متوقع فإن حزب الله، على لسان أمينه العام، أنكر تماماً أية صلة بالأمر. ولكن، وبالرغم من الاستخفاف النذل، ليس فقط بعقول اللبنانيين، بل وأيضاً بمأساتهم التي بلغت درجة ما عاد من الممكن احتمالها مع هذه «القشة» الأخيرة، فإن ما لا يمكن أبداً إنكاره أو تجاوزه هو أن مادة بهذه الخطورة، وبكميات بلغت آلاف الأطنان، لا يمكن أن تبقى هكذا حبيسة عنبر في ميناء بيروت طيلة سنوات وسط منطقة مكتظة بالسكان، ويمارس فيها مختلف أنواع النشاطات التجارية والاقتصادية وحتى السياحية؛ لا يمكن لها أن تبقى هناك دون علم حاكم لبنان المطلق حسن نصر الله، وبقية أركان قيادته، وهم المسيطرون فعلياً على كامل مرافئ لبنان، برية وبحرية وجوية كما يعلم الجميع.
هل هم من قرروا إبقاء تلك المادة في مكانها؟! باعتبار أن الميناء أكثر الأماكن «أماناً» من غارة جوية إسرائيلية يمكن أن تطال مادة بهذه الخطورة والكميات الهائلة، وهي تحت تصرف الحزب بالتأكيد، ككل شيء في لبنان، من رئيسه حتى الخفير على أي منفذ حدودي إلى لبنان، حيث لو قررت إسرائيل التخلص من تلك المادة وسحب تلك «الورقة» من يد الحزب في حربها ضده، فعليها أن تقصف الميناء وتتحمل عواقب فعل مدمر كهذا أمام رأي عام عالمي، لن يتسامح بالتأكيد مع عدد الضحايا الهائل والدمار الذي سيفوق الوصف.
أم أنهم غضوا البصر عن الموضوع من باب الإهمال فقط، وعدم تحمل مسؤولية «شؤون إدارية» لا تعنيهم، وهم المقاومون المعنيون بملف واحد أحد، حماية لبنان من غدر العدو الصهيوني؟! ولكن حتى لو فرضنا أن هذا ما حصل فعلاً: «كنزٌ» متفجرٌ كهذا، حطَّ صدفة في الميناء كما أكدت «الحكاية» الرسمية حتى هذه اللحظة؛ كيف يمكن ألّا يلفت انتباه خبراء التفجير الأكثر إتقاناً في منطقتنا؟!
طبعاً، حتى اللحظة ما تزال التكهنات قائمة بشأن المسبب الحقيقي للانفجار، متضمنة حتى احتمال وجود سلاح نوعي للحزب كان مخبأ في الميناء فعلاً! تكهنات لا أحد يمتلك وسيلة ممكنة لفحصها، ولا أحد بات يمتلك من الوقت والطاقة للتوقف عندها لأن الأمر برمته تجاوز جانبه «البوليسي» بمراحل وخلال لحظات، نتيجة هول الفاجعة.
في نهاية المطاف، الحزب الذي هو المسؤول الأول عن الكارثة حسب عريضة الاتهام التي رفعها الرأي العام اللبناني، يريد تجاوز أثر تلك «القشة» بأي ثمن. وحتى لو كان هناك، من بين متخذي القرار في الحزب، من امتلك من البلادة وانعدام الإحساس ما يجعله يعتقد أنه لو حصل الانفجار فإنه لن يغير من «المعادلة» شيئاً، فإن ردة الفعل الظاهرة للجميع الآن، وبعد عقود طوال من القهر بأشكاله المختلفة، حتى أكثرها فجاجة وفجوراً، من احتلال بيروت من قبل قوات الحزب عام 2007 وصولاً إلى الهتاف الأخير في مواجهة المتظاهرين اللبنانيين المطالبين باستعادة وطنهم ليكون لجميع أبنائه: «شيعة… شيعة»، حين لم يجد أنصار الحزب وأشياعه وأتباعه إلا التأكيد على «القيمة» الوحيدة التي يريد الحزب تكريسها على الضد تماماً من وطن للجميع؛ ردة الفعل هذه بعد الانفجار الأخير تعيد وضع اللبنانيين بأكملهم في مواجهة السؤال: كيف يمكن أن نعيش في بلد كل ما فيه مجرد واجهة لحكم فئة واحدة، تُوزِّعُ الحصص والمغانم على وكلائها وعلى شركائها في الحكم وفي إبقاء الكابوس جاثماً فوق صدور اللبنانيين جميعاً، ويديرها فوق هذا كله رجلٌ واحدٌ مختبئٌ في جحر؟! السؤال الذي لا يريد الحزب حتى مجرد طرحه بهذه الطريقة، لأن مجرد طرح السؤال نفسه بهذه الطريقة سيقصم ظهر الحزب حتى قبل البدء بطرح إجابات.
في لبنان أو سوريا أو العراق أو مصر، أو أي بلد عربي ابتلي بحكم «أقلية» ذات خلفية طائفية أو عرقية أو قَبلية أو عائلية أو أوليغارشية عسكرية، هناك دائماً تلك «القشة» التي تأتي في غير ميعادها لتضع الجميع في مواجهة قهر استمرّ سنوات أو عقوداً، وتعيد تذكيرهم بقيمتهم الوحيدة في نظر جلادهم، حتى ولو قال لهم «إنتو مش عارفين إنكو نور عينينا؟!»، أو حتى لو اختبأ خلف «طبقة سياسية» أو «عهد» ما، أو خلف متحف كامل لتماثيل البراز المحنط «الجبهة الوطنية التقدمية»؛ تعيد تلك «القشة» تذكيرهم بالقيمة الوحيدة المتروكة لهم في ظل هكذا «تركيبة»: مجرد عبيد عليهم أن ينصاعوا حتى في مواجهة موتهم المحقق!
اللبنانيون ليسوا بحاجة إلى من يُذكّرهم بهذا. الانفجار الأخير «كفّى ووفّى». بل إنهم ومنذ أكتوبر في العام الماضي، وبالرغم من كل الصعوبات، لم يتوقفوا عن المطالبة باسترداد وطنهم. وكائنة ما كانت «الأهداف» المراد الإطاحة بها من خلال تحركهم الذي لم يتوقف خلال الأشهر الماضية، فإنهم لم يكفوا عن التأكيد على المطالب التي تشكل مقتلاً حقيقياً لحكم أية أقلية كائنة ما كانت. المشكلة كانت وما تزال مع أولئك الذين ظنوا أن سطوتهم تمنحهم حصانة مطلقة، وتجعلهم بمنأى عن أية محاسبة بسبب انتهاكات لم تتوقف لحظة واحدة، قبل وخلال وبعد ثورة اللبنانيين، لو قُدِّرَ لهم الاستمرار بعدها. وهم، اللبنانيون، ليسوا أيضاً بحاجة إلى من «يصوب» لهم البوصلة ويحدد لهم الهدف الحقيقي الواجب مواجهته قبل الجميع، أو حتى يحزن مسبقاً على مصيرهم المعروف سلفاً باعتبار أن هناك من مّر به قبلهم. هم في كل الأحوال لم ينتظروا لا حزنَ ولا قلقَ ولا تصويبات أحد عندما هبوا في أكتوبر الماضي إثر «قشة» أخرى سبقت تلك الأخيرة المدمرة. نحن، من نتابع الفصل الجديد من ثورة اللبنانيين إثر كارثة المرفأ، السوريون قبل الجميع من بين المتابعين، نحن الذين بحاجة إلى شيء محدد من اللبنانيين، ومن كل من ثاروا في مواجهة جلاديهم: نحن بحاجة إلى أن ينتصروا، الآن أو في أي يوم قريب، كي نعود إلى الحياة من جديد.