يعيش السوريون في الخليج عموماً، وفي المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، ظروفاً ربما تكون من بين الأسوأ في الشتات السوري. وساهمت عدة عوامل على امتداد الأعوام الأخيرة في خلق هذه الظروف وإعطائها الملمح الحالي، الذي يشعر فيه الوافد إلى هذه البلاد بأنه «تورّط بقرار القدوم إليها»، حسب تعبير واحد ممن تحدثنا إليهم من السوريين المقيمين في السعودية.
تراكمت العوامل التي أدت إلى هذه الظروف تاريخياً، وجاءت جائحة كورونا لتكون قاصمة الظهر بالنسبة للسوريين ونظرائهم الوافدين من البلدان المسحوقة من أجل العمل، بعد أن كانت بلدان الخليج محطّاً لآمالهم وآمال عائلاتهم بمستقبل أفضل، يسعون إليه بخبراتهم في هذا السوق الذي تميّز بوفرة الفرص والمداخيل المعقولة.
كان حجر الأساس الأول الذي بُنيت عليه مُعضلة الوافدين إلى دول الخليج، هو عدم إعطائهم حقوقاً قانونية تؤهلهم للحصول على المواطنة، أو الإقامة الدائمة على الأقل، وذلك مهما تقادمت إقامتهم وسنوات عملهم في هذه الدول. ومع خروج احتمال «العودة إلى الوطن» من حسبان أعداد كبيرة من السوريين، وغيرهم من الوافدين أيضاً، وذلك نتيجة الأوضاع السياسية والأمنية في بلادهم، ثم مع التشريعات اللاحقة للتوجّه الرسمي بتوطين أو سعودة العمالة، وما رافقها من صعوبات على الوافدين وعائلاتهم، رنّ كثيرون ناقوس الخطر نظراً لتضاؤل الآمال بوجود مستقبل معقول أو إنساني في السعودية، وهذا في ظل عدم قدرة حامل جواز السفر السوري على الذهاب إلى بلد آخر في معظم الأحوال.
تتمثل الصعوبات الأساسية، التي يواجهها الوافدون من بلدان لا يستطيعون العودة إليها، بالمبالغ المالية المتكاثرة التي عليهم دفعها سنوياً للإقامة ورسوم المرافقين، وتراجع فرص العمل وتضاؤل المدخول المادي، وشروط الكفالة القاسية، وغياب الضمانات الصحية والاجتماعية في ظل الجائحة التي أدت مؤخراً إلى دفع سؤال البقاء والمغادرة إلى الواجهة من جديد.
وفد الآلاف إلى السعودية من كافة البلدان، وكان عليهم جميعاً تأمين كفيل يعيشون تحت رحمته ومزاجه، وبدأت الدولة في السنوات الأخيرة بخطة لسعودة العمالة تقتضي إعطاء الأولوية في التوظيف للمواطنين وفرض رسوم تراكمية تتضاعف سنوياً على الوافدين ومرافقيهم (هناك حديث عن تخفيف هذه الرسوم مؤخراً). وهكذا وجد هؤلاء أنفسهم في وضع مادي مُستنزِف، يتفاقم أكثر مع تخفيض الرواتب أو انقطاعها في ظل فيروس كورونا، الذي أدى أيضاً إلى منع السفر من وإلى المملكة، ما وضع الوافدين الراغبين بزيارة عائلاتهم في هذه الأوقات الصعبة أمام سؤال صعب: إما البقاء في ظل هذه الظروف المتردّية أكثر فأكثر والتكاليف المعيشية الغالية، أو المغادرة إلى الأبد في ظل البدائل الشحيحة أو المعدومة. وقد تحدثت الجمهورية بهذا الشأن إلى ثلاثة أشخاص، رفضوا ذكر أسمائهم حرصاً على سلامتهم.
يقول الشخص الأول إنه قضى نحو 42 عاماً في السعودية، عمل خلالها في التجارة، ثم انتكست أوضاعه المادية بعد خلافه مع الكفيل. ومع بدء الثورة في سوريا قرر عدم العودة بسبب المخاوف الأمنية، وهو يعمل اليوم مياوماً في التجارة الحرة، وتضرَّرَ بشدة نتيجة إجراءات الإغلاق، فلم يعد لديه المال الكافي لتجديد إقامته وإقامة أفراد عائلته المكونة من خمسة أشخاص بينهم فتاة مريضة. وبهذا فقد أبناؤه القدرة على الدراسة والعمل، ولا يستطيعون الوصول إلى الخدمات الصحية والنظام العام. لا يعرف إلى أين يُمكن أن يُرسل أولاده كي لا تستمر أعمارهم بالاحتراق على هامش الحياة، ولا يعرف إن كان سيتمكّن من رؤيتهم مجدداً في حال استطاع إخراجهم إلى بلد آخر، فهو لا يستطيع ترك مصدر دخله بعد هذا العمر والبدء من الصفر في مكان جديد. يقول إن «اثنين وأربعين عاماً في هذه البلاد لم تضمن له أدنى الحقوق الإنسانية»، مضيفاً أنه «في ورطة لا يعرف مخرجاً لها».
شاهدنا الثاني أيضاً قضى أكثر من 35 عاماً في السعودية، ولم يحصل خلالها طبعاً على أية حقوق مضمونة. تعاني ابنته التي تبلغ من العمر 30 عاماً من مرض خطير في الكبد إثر انسداد أحد الأوردة الواصلة إليه، وهو لا يستطيع علاجها بسبب عدم وجود ضمان صحي، وعدم قدرته على تحمّل تكاليف علاجها في المشافي الخاصة، التي قد تصل إلى عشرات آلاف الدولارات. لا يعرف أيضاً كيف يُمكن الوصول إلى مكان قد تتوافر فيه القدرة على علاجها أو إجراء عمل جراحي لها وهي تحمل جواز سفر سوري؛ يقول إنه «طرق كل الأبواب ولم يجد حلّاً لهذه المعضلة»، مشيراً إلى أن لا يستطيع فعل شيء سوى مشاهدة ابنته في هذا الوضع الخطير، رغم أنه «لا يتردد في تقديم كبده لها».
الشخص الثالث الذي تحدثنا إليه كان قد أخرج أسرته من السعودية إلى تركيا، قبل أن تُغلق الأخيرة أبوابها في وجه السوريين عام 2016، وتمكّنَ من الحصول على إقامات سياحية فيها له ولأفراد عائلته، وبذلك استطاع الاحتفاظ بعمله في السعودية والمواظبة على زيارة أسرته في تركيا كل ثلاثة أشهر. وهو كان قد لجأ إلى هذا الحلّ لأنه لم يستطع تحمّل الرسوم التراكمية المفروضة على المرافقين في السعودية، وهي على أي حال «وُضعت لكي لا يستطيع أحد تحمّلها» حسب تعبيره. ثم في ظل جائحة كورونا، يقول إن السلطات السعودية «أصدرت قراراً يقضي بعدم السماح للمقيمين على أراضيها بالعودة إن قرروا الخروج إلى بلد آخر، أو إن كانوا أصلاً خارج البلد، وذلك حتى انتهاء الجائحة، ما تسبب بخسارة الآلاف لأعمالهم ومدخولاتهم».
يقول إنه حاول البقاء في السعودية في البداية، لكن العمل أصبح من المنزل في سياق إجراءات كورونا، ولم يستطع تحمّل أسئلة ابنه الصغير عن الوقت الذي سيراه فيه، فقرر المغامرة والمغادرة إلى تركيا، وهو لا يستطيع اليوم العودة إلى السعودية حتى أجل غير مسمّى، بعد أن طالت أزمة كورونا أكثر مما كان يتوقع.
ضمن هذه الظروف، وفي تحوّل كبير لم يكن متوقعاً، أصبحت شريحة واسعة من المغتربين والعمال السوريين في السعودية بحاجة للمساعدة المادية، ونشأت مبادرات غير رسمية ضمن الجالية لمساعدة المحتاجين ومقطوعي الدخل بسبب كل هذه الصعوبات. بذلك انقلب وضع جزء كبير من الشتات السوري هناك، وبعد أن كانوا فاعلين وقادرين إلى حد ما على مساعدة السوريين داخل البلد في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في سوريا، أصبحوا الآن خارج المعادلة، بل وتحتاج نسبة كبيرة منهم إلى مساعدة.
لا يتم الحديث عن هذه المسألة إلا نادراً في زحمة الكوارث المتتالية، رغم أنها تنطوي على مصائب حقيقية ليس ثمة من يكترث لها، وهي فصل إضافي خارج الضوء من سيرة المأساة السورية التي تشفّ كل يوم عن أبعاد جديدة لم تكن في الحسبان.