عندما نتخيل المدن المستقبلية التي سنعيش فيها، غالباً ما تكون مدناً واسعة، شوارعها نظيفة وبيوتها مرتبة، وذكية بحيث يجد المرء على جدرانها / شاشاتها كل ما يريد، مع شبكة مواصلات سريعة تعتمد على الطاقات النظيفة. لكن وقبل أن تكتمل الصورة اليوتوبية المتخيلة، نكتشف أن عنصراً هاماً مفقوداً في هذه الصورة، وهو الآخرون من حولنا؛ الأولاد والأصدقاء والجيران. وحدتنا وعزلتنا البشرية هي واحدة من أكثر الجوانب التي تعكر تخيلاتنا عن المستقبل سوداويةً، وذلك لأن كل ما نشهده من تطور تكنولوجي وتغييرات سيكولوجية ستجعلنا في اكتفاء ذاتي قد يغنينا حتى عن إلقاء التحية على جارنا، أو على الأقل هذا ما نستشرفه من أفلام ومسلسلات عديدة تناولت شكل العلاقات الإنسانية في المستقبل، مثل فيلم Her للمخرج سبايك جونز أو مسلسل Black Mirror.
تدفقت صور المستقبل بجانبيها السوداوي والمشرق بكثافة أشد خلال الأشهر الستة الماضية، خاصةً بعد أن أتاح لنا وباء كوفيد-19 أن نجرّب أدوات التحول إلى مدن مستقبلية وقطاعات وصناعات نظيفة وإلكترونية، تغني عن التقارب الجسدي والتجمع البشري في مكان واحد، كما حدث في مجال التعليم أو في المجال الثقافي، حيث استبدلت المعارض بصور فوتوغرافية للوحات الفن التشكيلي وزيارات افتراضية على الإنترنت، كما أن عروض الأفلام صارت متاحة عبر روابط إلكترونية ليشاهدها المتفرج في البيت. لكن ماذا عن العروض المسرحية التي اضطرت المسارح لإلغائها خلال مدة الحظر، وربما إلى أجل غير مسمى؟ وهو ما دفع عدداً كبيراً من هذه المسارح لتقديم عروض مسرحية مسجلة من الأرشيف عبر الإنترنت، بديلاً عن العروض الجديدة. كما برز شكل آخر من أشكال التكيف مع الظرف الحالي، وهو العرض الحي من خلال البث المباشر عبر منصات التواصل الاجتماعي.
أولى المواجهات الشخصية لي مع الصورة المستقبلية للمسرح كانت أثناء البروفات لتقديم القراءات المسرحية لنص «فيلم عاطفي قصير» للكاتب وسيم الشرقي، وذلك في بداية شهر آذار الماضي ضمن مشروع قاف للقراءات المسرحية. أعلنت السلطات في برلين آنذاك ضرورة إلغاء كافة العروض المسرحية والفعاليات الثقافية والفنية منعاً لانتشار كورونا، وتبلّغنا عشية البروفة الأخيرة عن القرار بإلغاء العرض، أو ضرورة اختيار صيغة افتراضية تغني عن حضور الجمهور إلى مكان العرض.

استجابةً للظرف الطارئ، اخترنا تقديم القراءات المسرحية كعرض افتراضي بوساطة البث الحي على موقع فيسبوك، بديلاً عن العرض الحي، ما تطلب إجراء تغييرات جذرية في كلا الجانبين الفني والتقني. تقنياً، تطلب الأمر تحضير كافة مستلزمات العرض الافتراضي من معدات الصوت والكاميرا خلال 24 ساعة، وتعديل الإضاءة بما يؤمن وضوح الصورة على الكاميرا. هكذا صار مكان العرض مدججاً بالأسلاك التي تصل الكاميرا والمايكروفون باللابتوب، وأخرى تصل اللابتوب مع الراوتر الموجود خارج القاعة من أجل ضمان الاتصال الجيد بالانترنت، وأسلاك أخرى أيضاً تتدلى فوق الأبواب التي يجب ألا تُغلق بالكامل حتى لا ينقطع اتصال أي جهاز مع الآخر. أما فنياً، فكانت التحديات أكثر صعوبةً، لأن الخشبة تقلصت إلى الحد الذي تسمح به عدسة الكاميرا، والذي يجب أن يستوعب عدد الممثلين على الخشبة والشاشة التي تعرض الترجمة من خلفهم. كما أن أداء الممثلين أصبح مقيداً بسبب الحضور المفاجئ للكاميرا، التي لم يتوقعها ولم يتدرب على وجودها أيٌّ من الممثلين، ولا أنا بصفتي مخرجة لهذه القراءات.
كل ذلك عدا عن الآثار النفسية المحبطة التي ألمّت بفريق العمل بسبب غياب الجمهور، وعدم القدرة على رصد تفاعلاته مع العرض، فلا يمكننا أن نعرف ما الذي أضحكه وما الذي أحزنه. ما معنى أن نقدّمَ عرضاً «مسرحياً» دون الجمهور الذي يكافئنا بمجيئه إلى المسرح ويصفق في ختام العرض؟ وما معنى أن يستهدف البث الحي جوهر وخصوصية المسرح التي تميزه عن غيره من الأعمال الفنية، باعتباره عرضاً حياً غير مسجل، ينص على اتفاق ضمني حول تاريخ وموعد محدد في مكان ما، يجتمع فيه متفرج واحد على الأقل مع ممثل واحد على الأقل، وذلك من أجل أن يصير العمل الفني المُقدَّم مسرحاً؟
قررت مؤسسة برزخ الاستمرار في تقديم مشروع قاف للقراءات المسرحية، وذلك عبر البث الحي على منصات التواصل الاجتماعي، بعد أن كان يفترض أن يتم تقديمها في بيت الأدب في برلين. ويذكر لنا غسان حمّاش، مدير المؤسسة، الصعوبات الإنتاجية التي واجهتهم في التحضير للقراءات المسرحية، لا سيما وأن أولى تجارب البث الحي المباشر، والتي جاءت مباشرة بعد القرار بتوقف العروض المسرحية، كانت مفاجئة وتطلّبت زمناً أطول للتحضيرات التقنية والفنية؛ «أما في التجربة الثانية، وكان ذلك مع عرض القراءات المسرحية “بهيدي اللحظة بالذات” لمنى مرعي وإخراج وهاد سليمان، كنّا قد حضرنا أنفسنا جيداً وجهزنا كافة الاستعدادات التقنية، كما أن المخرجة والممثلين كان لديهم علم مسبق بشكل العرض. ولم تقتصر التغييرات على الوسيط المستخدم، الفيديو بدلاً من الخشبة، بل أيضاً على إدارة الممثلين وأدائهم. وهذا معناه جهدٌ مضاعفٌ للتحكم بشكل الأداء والشحنة الدرامية التي تلائم الوسيط الهجين ما بين المسرح والفيديو». الحلّ البديل الذي لجأت إليه مؤسسة برزج في إنتاجها للعرض الأخير، كما أشار حمّاش، هو «إجراء البروفات بالشكل المعتاد، وتقديم العرض مرة واحدة وتصويره بدون إعادة، وتسجيله ومن ثم عرضه في الموعد المحدد لمرة واحدة على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك تفادياً للمشاكل التقنية التي من الممكن أن تطرأ، والتي تؤثر بشكل كبير على جودة العرض».
في تجربة أخرى، لكن هذه المرة كانت ضمن البروفات المسرحية في تجمع مقلوبة، عبَّرَ الكاتب المسرحي مضر الحجي عن صعوبات التواصل وإدارة النقاش بين الممثلين في البروفات المسرحية التي تحدث على موقع جتسي، خاصة عندما يكون هناك وجوهٌ جديدة، ويتم التعارف الأول افتراضياً. كما ركز الحجي أيضاً على ضرورة وجود ميّسر للحوار والبروفات في الاجتماعات الافتراضية؛ «فالغريب أن الحاجة لأن يلعب أحدهم هذا الدور التنظيمي لإدارة النقاش والوقت في الاجتماعات الافتراضية كانت أكبر بكثير مما لو التقت المجموعة وجهاً لوجه في مكان واحد. كما أن التعارف الافتراضي الأول أثرَّ أيضاً على البروفات المسرحية الحية التي أُجريت فيما بعد. وما زاد الطين بلّة هو القيود والقوانين المتبعة في أماكن البروفات، مثل منع التقارب الجسدي وارتداء الكمامات طوال الوقت، وهو ما أثرّ بشكل كبير على التواصل مع أعضاء المجموعة في البروفات الحيّة».
وعندما سألنا مضر الحجي عن توقعاته عن الشكل المستقبلي للمسرح، وما هي احتمالات بقاء المسرح على قيد الحياة في ظل استخدام البث الحي بديلاً عن العروض الحية. أجابنا: «جوهر المسرح هو التواصل الحي بين الممثل والمتفرج من جهة، وبين المتفرجين فيما بينهم بعد العرض المسرحي. لا أجد معنى أو ضرورة أن يظل المسرح موجوداً إذا لم يحقق هذا الشرط. للعرض المسرحي أثر اجتماعي مدني، تبرز أهميته من تجمع الناس لحضور عمل مسرحي ما، لذلك أشعر أن البث المباشر سيفقده خصوصيته».

وعلى صعيد آخر، تستند الأبحاث التكنولوجية بشكل أساسي إلى الأهداف البيئية والإيكولوجية في تبرير التحول الإلكتروني والروبوتي في مختلف مجالات الحياة، بما فيها المجالات الفنية والثقافية، لكن الحجي طرح نقطة جدلية مختلفة عن السردية الجديدة: «كما أنه يجب أن نسعى لتعافي البيئة وخلق نظام حيوي حتى ضمن صناعة المسرح، فإنه يجب الانتباه إلى أن المسرح هو وسيلة للحفاظ على الصحة البشرية وعلى التواصل بين الناس. في كل مرة تتدخّل فيها التكنولوجيا في حياتنا، وبالرغم من الخدمات الجليلة لها في تسهيل التواصل بين الأفراد في مختلف أنحاء العالم، إلا أنها تعمل على عزل الأفراد وابتعادهم أكثر عن محيطهم. على العكس، أجد أن التطور التكنولوجي يجب أن يتدخل هذه المرة لصالح المسرح ومن أجل الحفاظ على العروض المسرحية الحيّة. ويجب أن أوضح أن هذا الرأي ليس معناه اختلاف في الأولويات أو عدم الاهتمام بالقدر الكافي بالجوانب البيئية، بل إنه اختلاف في السياقات وفي الحاجات الشخصية والمهنية. من الممكن أن يُظهِرُ مسرحي ألماني حماساً أكبر واستعداداً أكبر للمسرح الافتراضي، لكن شخصياً، لا أزال مؤمناً بضرورة التواصل الحي كقيمة عليا في العمل المسرحي».
يقول الحجي في نهاية الحوار معه إن «هذا الوباء العالمي قد يكون اختباراً قاسياً للعمل المسرحي، فإما أن يكشف عن هشاشة حضور المسرح في حياتنا، أو أن يثبت العكس، وهو حاجتنا الأساسية له».
يبدو التخبط ملموساً عند النظر إلى مجمل الحلول التي لجأت إليها المسارح، إما من خلال العرض في مساحات مفتوحة، أو تحقيق شرط التباعد الاجتماعي ضمن المسارح، أو حتى محاولة إيجاد صيغ أخرى للعرض الافتراضي أو أشكال فنية جديدة، لكنها تعكس حاجاتنا للتمسك بالعمل المسرحي، وإثبات ضرورته في الحياة الثقافية والاجتماعية التي تستمد أهميتها بشكل أساسي من العنصر البشري فيها، ومن الجموع المتفرجة التي تشكل مع الممثلين على الخشبة وفريق العمل في الكواليس جسداً ممتداً حياً.