لا يحضر الدمار في بصريات الفن التشكيلي السوري انطلاقاً من عام 2011 فحسب، بل يعود إلى المشاريع الفنية التي تناولت الخراب والدمار جرّاء الاعتداءات الإسرائيلية في أراضي الجولان السوري. منها مشروع بيوت دمرتها الحرب (2011) للفنان فهد حلبي، وهو عبارة عن سلسلة لوحات زيتية تقدم توثيقاً تصويرياً لبيوت دمّرتها الحروب في قرى الجولان عام 1967، ثمّ خلال حرب تشرين 1973، ولمنازل مدمرة في غزة أيضاً. في اللوحات المرسومة بالأبيض والأسود، وتدرّجات من الرمادي، تقشّفٌ لونيٌّ يعبّر عن اختصار في مفردات الموضوعة المرسومة، فيعتبر الفنان أنّ الحزن والخراب لا يحتاجان إلى الألوان ودرجاتها حتّى يتمّ التعبير عنهما. يختار الفنان التقّشف في الكلام عمّن ماتوا أو هاجروا وتركوا وراءهم هذا الركام الرماديّ، على حد تعبيره. السكينة في رسومات أبنيته المُهدّمة هي التي تشحن اللوحة بأجواء الموت والخسران. في عام 2019، شارك هذا العمل في معرضٍ جماعيٍّ بعنوان «مياه التاسعة والنصف»، جمع عدة فنانين وفنانات من الجولان، فكتب الفنان في البيان الخاص بهذا العمل الفني: «ربّما يشكّل المشروع تنبّؤاً بالكارثة السورية والخراب الذي سيحلّ في المدن لاحقاً».
جدلية البناء والهدم
أعمال الفيديائية رندة مدّاح هي من الأعمال الفنية التي نلقى فيها مرحلة الانتقال من موضوعة الدمار الناتج عن الاعتداءات الإسرائيلية، إلى الخراب والدمار الذي وقع على المدن السورية منذ عام 2011 وسبّبته كافة الأطراف المسلحة. في فيديو بعنوان أفق خفيف (2012)، تقوم الفنانة بترتيب بيتٍ مدمّر جرّاء العدوان الإسرائيلي عام 1967 على قرية عين فيت في الجولان المحتل. بعد أن تنتهي الفنانة من تنظيف المكان وترتيبه بالكامل، تضع الطاولة في المنتصف وتضع فوقها قذيفة. صحيحٌ، كما توضح الفنانة في البيان المرافق للعمل الفني، أن موضوعة الفيديو هي التدمير الإسرائيلي، لكنّ إنتاج الفيديو ترافق مع انتشار الدمار في سوريا. تكتب الفنانة في التوضيح: «أسأل نفسي، هل يمكن على الإطلاق محو الدمار؟ هل باستطاعة أعمال الترميم إزالة آثار الدمار؟».

تُعتبر عملية إعادة ترتيب المنزل المهدم التي نراها في الفيديو نوعاً من الأمل في إمكانية إعادة تنظيم الأشياء. إذ تضيف الفنانة: «كيف تسترجع شيئاً من الذاكرة بعد أن تغيّر المكان فعلياً كما تغيّرت حياة سكانه وحتى لغتهم؟»، وبذلك تربط بين الذاكرة والعلاقة مع المكان. لكن، في نهاية الفيديو، حين تعيد الفنانة وضع القذيفة فوق طاولة المنتصف، تحيل إلى دائرةٍ مستمرّةٍ من الهدم والتعمير، لا خروج منها في حال الحرب.
في فيديو آخر لها بعنوان ترميم (2018) تعالج الفنانة مجدداً جدلية البناء والهدم، فتحاول بالفعل ترميم فجوةٍ في حائطٍ من مبنىً متضرّر، باستخدام الورق اللاصق والطلاء. في محاولةٍ لمحو أثر العنف من المكان، وإعادة صياغة تجربة المكان عبر ترميم نواقصه، ما يعيد الأسئلة مجدداً حول المكان والدمار والذاكرة. تكتب الفنانة في التوضيح المرافق لهذا الفيديو: «كيف لي أن أستوعب التدمير؟ الحدود شوّهتْ وجهَ المكان الذي أتيتُ منه، وغيّرتْ خارطته، ورفعت الجدران حول حياة الناس وداخل لغتهم حتى ألفوها وكادوا ينسون وجودها».

في عمله الفني، إلى من يهمه الأمر، يجمع فادي حموي بين فن الأداء والتجهيز. حين يدخل المتلقي إلى فضاء التجهيز، يجد مكاناً مهدماً يمتدّ ركاماً على مرمى البصر، ويقابل الفنان نفسه وهو يعيد ترتيب الركام. في زاوية المكان كاميرا تعكس لزائر المعرض صورته وكأنه يقف في الأنقاض. يطرح العمل الفني هنا على المتلقي تجربةً بصريةً تُظهره واقفاً في الدمار. في بحثها المعنون (التدميرية في الفن السوري المعاصر)، تعتبر الكاتبة ساندي قسطون أنّ هذا العمل الفني يندرج ضمن نظرية جاك دريدا عن إعادة تشكيل الرموز البصرية والظواهر السيمولوجية، وذلك عبر تفكيكها وإعادة بنائها مجدداً، تقول الباحثة: «نشهد في عمل فادي حموي عملية إعادة بناء الركام ليحمل من بعدها معانٍ بصرية سميولوجية جديدة، ومنه يولد العمل الفني نفسه. وبالتالي، فإنّ الفنان يستخرج العمل الفني من الركام».
الركام كفضاء فني
في سلسلة صوره الرقمية بعنوان المتحف السوري (2012)، يجعل الفنان تمّام عزّام من الدمار إطاراً مكانياً لعرض لوحاتٍ معروفةٍ من تاريخ الفن. يأخذ الفنان صوراً لأبنية سورية مهدّمة ليضيف فوقها أعمالاً فنيةً لفنانين عالميين. في صورة بعنوان القبلة، نجد لوحة القبلة لغوستاف كليمت معروضةً فوق بناءٍ متهدم. يجعل الفنان من الخراب والركام إطاراً ملائماً لعرض الأعمال الفنية، وبهذا تتجاور بصريات الأبنية المهدمة والأحياء المدمَّرة مع صالات المتحف والفضاءات الفنية التي تعرض بداخلها لوحات عالمية مثل موناليزا ليوناردو دافنشي، أو الرقص لهنري ماتيس، أو ليلة مقمرة لفنسنت فان كوخ. يصبح الخراب هنا إطاراً للوحة، وبالتالي فضاءً فنياً. وفي صورة رحلة سعيدة، تحمل مجموعة كبيرة من البوالين الملونة بناءً مدمراً ككتلةٍ مرفوعةٍ في الهواء. البوالين ترفع الركام كأنه كتلة فنية قديرة تستحق المشاهدة، وفي الوقت ذاته ترحل به بعيداً عن الأنظار.
الخراب الأخلاقي
في النحت، يقدّم الفنان خالد ضوا أعمالاً طينية تجسّد الخراب بوصفه حضوراً للموت الممتد على مساحة العمل الفني. وفي عمله بعنوان تم التدمير (2014) نجد تمثال شخصيةٍ عسكرية يقف بحالة الاستعداد والتحية وكأنه يلفظ عنوان العمل «تم التدمير»، ومن حوله تنتشر مجموعةٌ من الأجساد البشرية المتراكبة في موتٍ فوق بعضها بعضاً. التدمير يعادل القتل هنا، الخراب يعني انتشار الموت. لذلك، لا يحضر الخراب في أعمال خالد ضوا متجسداً في المكان المهدّم أو البناء المدمر، بل يحضر كمفهوم ذهني-نفسي توحي به عوالم العمل النحتي. وفي عمله كل شيء خراب (2018)، نجد شخصية الزعيم مع مساعديه يتربع على عرش، ومن تحته تتمدّد جثث القتلى والموتى. الخراب في أعمال خالد ضوا لا يقتصر على الفوضى البصرية، بل هو يمتدّ للتعبير عن الفوضى الأخلاقية التي تسود في أوقات الحرب والجريمة.

في سلسلة منحوتات له بعنوان واقفاً، يُخلَق التدمير من داخل العمل الفني نفسه، فالنّحات بعد إنجازه العمل الفني يُعمِل فيه السكين بفتحات متتالية، ويُظهِرُ ذلكَ المنحوتةَ في حالة تفسّخ وتهالك، أو في صيرورة من التدمير الذاتي. وفي محاضرة بعنوان عن التدميرية والفن، تطرّق الباحث نبراس شحيد إلى التهديمية في أعمال خالد ضوا، قائلاً إن «التهديمية تَظهر بشكلٍ جليٍّ في أعمال ضوا، أولاً، على مستوى مباشر للغاية، وأقصد التدمير المادي للعمل. يعمد الفنان على تهديم أجساده المنحوتة بكسر أطرافها أو بحفر الثقوب فيها، ويرافق هذا الشكل الأول الأشكال الأخرى من التهديم».
متلازمة السلاح والدمار
في لوحة كونشرتو لفيلون ودبابة للفنان محمد المفتي نجد الدبابة العسكرية بنية اللون تتقدم اللوحة مرسومةً بالأسلوب الواقعي، وفي الخلفية يظهر الدمار بواقعية أيضاً، لكن إلى درجة التجريد البصري للخراب. الدمار هو نتيجة حضور السلاح العسكري، واللوحة تربط بمباشرة ووضوح بين حضور السلاح وحصول الدمار والخراب.

كذلك نجد العلاقة بين الدمار والحضور العسكري في تجهيزٍ للفنان ماهر أبو الحسن، يتشكّل من بناء مدمّر متهدّم الطوابق، على رأسه يتربع بسطار عسكري تسيل الدماء من تحته على الركام. يبيّن العمل أنّ سلطة السلاح تُبنى على الدمار والركام.
الطفولة والدمار
وإذا كان الدمار والخراب من آثار السلاح، فإن تهشّم الطفولة من نتائج الحرب والدمار أيضاً. ذلك ما تقدّمه الفنانة ساندي قسطون في لوحة بعنوان الفتى جمال (2017). اللوحة عبارة عن بورتريه لوجه إنساني مشوّه، يوحي العنوان بأنه وجه فتى. الوجه الإنساني يتشكّل من مجموعة أبنية في حال الدمار والاحتراق، وهذا المكان المدمّر يمتدّ بخرابه إلى الوجه الإنساني.

تعود إلينا جدلية البناء من قلب الدمار، لكن هذه المرة بالعلاقة مع حضور الطفولة في مجموعة صورة رقمية للفنان أمجد وردة، وهي تتألف من صور لأحياء مهدّمة في الواقع، ولمدنٍ في حالة الدمار، لكنّنا نجد في كلٍّ منها أطفالاً بأحجام ضخمة يلهون بألعابهم بين الركام. في واحدة منها يلهو طفلان بعلبة تركيب قطع الليغو في حال البناء، بما يتعارض مع الدمار المحيط بهما. وفي صورة أخرى يلعب الطفل الحاضر فيها بالدحل بين الأبنية المهدّمة. الطفولة تعيد إحياء الخراب والموات. ولهو الطفولة يتجلّى في إعادة تركيب الدمار وبث الحياة من جديد.
الركام والذاكرة
في مشروعها كتاب الرياضيات (2017) تقترح علينا الفنانة هبة الأنصاري الدخول إلى الحميمة من الركام. عملها التجهيزي مستوحى من كتاب الرياضيات المدرسي الذي عثرت عليه الفنانة أثناء تواجدها في مدينة كفرنبل، لطفلة سورية قُتلت بقصف الطيران الحربي على مدينتها. تقدم لنا الفنانة كتاباً للرياضيات يُظهر المعلومات والأشكال الهندسية والأرقام عبر مخلّفات المنازل المهدّمة. تُشكل المعادلات الهندسية في الكتاب من أدوات، ويحتوي الكتاب على أقمشة وتخطيطات ورقية وصفحات مخرّبة. تكتب الفنانة في تقديم عملها الفني: «يعتمد العمل على مفهوم التخريب المنظم وتكرار الأشكال تحت تأثيرات ضغط الانفجارات، وإخضاع الأشياء لعبثية ولا منطقية الانفجار».

الفنانة بشرى مصطفى أيضاً تستخرج عناصر الركام لتجعل منها عنصراً بصرياً تشكيلياً، وتشحن المشاهد بحميمية الأماكن المدمّرة. تكتب الفنانة عن مشروعها بعنوان أبواب: «هو عمل فني تركيبي، يسلّط الضوء على محنة الجيل السوري الحالي، أي جيل الحرب، ومحاولاته الحثيثة في إيجاد فضاء أوسع لطموحاته، عبر خوضه صعوباتٍ كثيرة، وسعيه إلى فتح الأبواب لمستقبل أكثر إنصافاً وعدلاً، هي رحلة بحثٍ عن مستقبلٍ بات مُبهماً، ومحاولة للعبور إلى الضفّه الأكثر أماناً. يُصاغ المشروع ضمن رؤية بصريّة من إثني عشر باباً حقيقياً من مناطق سكنية منكوبة، تنتصب بشكلٍ شاقولي على قاعدة دائرية. يتخلل ذلك عمل نحتي لإنسان يحاول العبور، العبور الذي لا ينتهي. ويرافق العرض مؤثراتٌ صوتيةٌ وإضاءة». وقد تعرَّضَ هذا العمل الفني للإدانة من بعض النقاد، كونه يوظّف أبواب منازل تعرضت للتدمير في إطار العمل الفني.
الفن يعيد إحياء الأماكن المدمرة
جرى توظيف الفن أيضاً من جانب الفنانين والفنانات السوريات لإعادة تجسيد أماكن معروفة في مدن تدمّرت بفعل الحرب. ويزخر موقع الذاكرة الإبداعية للثورة السورية بعدد من الأعمال النحتية لفنانين مجهولين، تُعيد عبر مادة الماكيت تجسيد أماكن تعرّضت للدمار مثل جسر دير الزور ونُصب صلاح الدين. كذلك يعمل النحات السوري عاصم الباشا على إعادة نحت رأس تمثال أبي العلاء المعري، الذي تعرّض للتدمير على يد الجماعات الدينية المتطرفة في مدينة معرة النعمان في إدلب عام 2013. يعمل الباشا على إعادة تشكيل رأس أبي العلاء المعري بأسلوبه الفني، لإعادة نصبه في مكانه مجدداً. عائداً بذلك أيضاً إلى جدلية الهدم والبناء، والإبداع والتدمير.

ليس الدمار والرّكام والخراب من الموضوعات التقليدية في الفن، فهي مرتبطة بحضور الحرب وآثارها، وتأتي استلهاماً من تجربتها وموضوعاتها الأخلاقية وعوالمها البصرية والمعمارية. لذلك، فإن محاولة الفن التطرق إلى موضوعة الدمار، وتشكيل العمل الفني من الركام، واستلهام الخراب في أبعاد جمالية مغايرة لما هو عليه في ماهيته، هي محاولة تثبت قدرة المخيلة الإنسانية على الابتكار الفني حتى من أقسى التجارب السياسية والاجتماعية، مثل الحرب.