يتوزع أربعة وتسعون قبراً لسوريين قضوا في لبنان على روضتين (اسم يطلق على المدافن في لبنان) في مقبرة سيروب في صيدا، جميعها بـ «شواهد» بيضاء تُظهِر أسماء وتواريخ المتوفين، وقسم منها تسكنه أكثر من جثة بعد أن ضاق المكان. المحظوظ منهم من امتلك مكاناً للدفن، فلا أرض تؤوي جثث النازحين، يمنعهم عنها امتناع كثير من المقابر عن إيواء «الغرباء» بين أمواتهم، والكلفة العالية للدفن، وكذلك غياب الجهات الداعمة للموتى الذين يموتون مرتين، مفارقة الحياة وكرامة الدفن، ليغدو البحث عن قبر أكثرَ صعوبة من إيجاد سكن وأعلى كلفة.
يُدفن موتى السوريين في لبنان في مقابر بالواسطة أو الشفقة، غالباً دون علامات أو دلالات توصلك إلى المكان؛ أو في بساتين بعيدة، سراً أو علانية. أوفرهم حظاً من يملك القدرة على الدفن في سوريا بعد رحلة خطرة مليئة بالأوراق والوثائق والأختام والإهانات والاتاوات، وأقلّهم حظاً من يستلم زمام دفنه مهرب يُلقيه في قارعة الطريق أو على سفح جبل، تاركاً جسده للريح والحيوانات الضارية بعد دفع مبالغ مالية مرهقة.
لبنان لا يدفن «الغرباء»
لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد المتوفين السوريين في لبنان، إلا أن تقارير إخبارية قدرت العدد بنحو أربعة عشر ألف سوري، وتشير الإحصائيات التي نقلها موقع المدن عن ليزا أبو خالد، المنسقة الإعلامية في مفوضية الأمم المتحدة، أن عدد وفيات السوريين في لبنان وصل إلى ثمانية آلاف وأربعمئة شخص حتى أيار 2018، نصفهم أرفق الإعلان عن وفاتهم لدى المفوضية بوثيقة وفاة، فيما الحالات الأخرى لم تثبتها وثيقة. ويقدر أحمد وهبي، المسؤول عن مقبرة سيروب في دائرة الأوقاف بصيدا، في حديثه مع الجمهورية متوسط عدد الوفيات السورية في لبنان بألف شخص سنوياً، إذ سجلت المدينة منذ آذار 2018 وفاة مئتين وثلاثة وعشرين شخصاً، دفن أربعة وتسعون منهم في مقبرة سيروب، بينما توزع الآخرون في مقابر أخرى بعد الاتصالات التي أجرتها دائرة الأوقاف لتأمين مدافن لهم.
ويوجد في لبنان عدد من المقابر التي تسمح بدفن السوريين، منها مقبرة الغرباء وسيروب ومجدل عنجر والرحمة والجراحية وبر الياس والعمرية والفاعور، إضافة لبعض القرى التي تسمح بدفن الموتى في مقابرها بعد وساطات أو دفع مبالغ مالية. وقد تبرّع بعض الأشخاص بأراضٍ لتقام عليها مدافن تؤوي السوريين. كما تفرض مقابر مبالغ كبيرة لشراء قبر، وهو ما لا يمكن دفعه من قبل اللاجئين.
ويرفض المسؤولون عن المقابر في الغالب دفن «الغرباء» في مناطقهم بحجة امتلائها، وقد شهدت بعض المناطق تصرفات من قبيل نبش القبر وإعادة الجثة لذويها، كما حدث في بلدة عاصون شمال لبنان، حين أجبر حارس المقبرة أحد اللاجئين، واسمه أحمد القاسم، على نبش قبر ابنه، مهدداً بأنه، في حال لم يخرجوه، سينبش القبر ويرمي الجثة خارج المقبرة، مؤكداً لهم أنها ليست مقبرة للغرباء، ليتم دفنه لاحقاً في أرض خاصة لأحد المتبرعين من أبناء القرية.
كذلك، يشيع أن توضع لافتات على أبواب بعض المقابر، تقضي بمنع دفن السوريين فيها.
وتلعب المعارف والوساطات والكلفة العالية دوراً في مسألة تأمين المدافن، وهو ما قاله أبو شعبان، الذي فقد ولديه غرقاً منذ أشهر، واضطر لدفنهما في منطقة بعيدة عن مكان سكنه، ودفع ستمائة ألف ليرة لبنانية، بعد رفض المسؤولين عن المقبرة منحهم إذناً بالدفن.

ويقول الشيخ حسين قاسم، أحد المسؤولين عن مقبرة سيروب بصيدا، إن دار الإفتاء خصصت روضتين لدفن السوريين بعد الحصول على إذن منها. ولا يُسمح بدفن السوريين غير المقيمين في صيدا بموجب القرار الصادر من مفتي المدينة سليم سوسان.
وتبلغ مساحة المقبرة مئة وثمانية دونمات، مقسمة إلى مئة وخمسين روضة، اثنتان منها للسوريين، كل منهما تتسع لنحو سبعين قبراً. يقول الشيخ قاسم إن المفوضيّة والمنظّمات الإنسانيّة العالميّة متقاعسة في ملف الدفن، فلا خطط واضحة تنظّم العمليّة، مع غياب المساعدات اللبنانيّة بهذا الخصوص، بينما المدافن الأخرى في مدينة صيدا لا يُسمح بدفن السوريين فيها بأي شكل، فهي مزدحمة تكاد لا تتسع لأبناء المدينة. كما أن إدارة المخيمات الفلسطينية في المدينة، مثل مخيم عين الحلوة (أكبر مخيم في لبنان) ومخيم المية ومية، لا تسمح بدفن سوريي الأصل مطلقاً، وفقط بوجود الواسطة يسمح بدفن الفلسطيني السوري.
ويؤكد أحمد شحادة، حارس مقبرة سيروب، أنه لا يسمح بالدفن بدون إذن دار الإفتاء، فكل يوم تأتي حالة على الأقل لكن استيعاب المقبرة لا يتعدى خمسة قبور شهرياً. روضات السوريين بحاجة إلى توسعة لتقبل الأعداد المتزايدة، خاصة بعد صعوبة وخطورة نقل الميت إلى سورية، وتَمنُّع مناطق الجنوب اللبناني عن دفنهم، وباعتبار أن صيدا هي بوابة الجنوب، فإن هذه المقبرة أول مقصد للمقيمين في الجنوب.
يقول أحمد وهبي إن وباء كورونا حال دون دفن السوريين، حتى المقيمين في صيدا، في مقبرة سيروب؛ بعد القرار الذي أصدرته دار الإفتاء بمنع الدفن في قبر جديد، تحسباً لوفيات قد تأتي لمصابين بالوباء، إذ لم يعد هناك مكان سوى لخمسة وأربعين قبراً في الروضتين. ويسمح بالدفن في القبور القديمة التي دفن فيها أشخاص من العائلة نفسها إذا كانت ثلاث سنوات قد مضت على وفاتهم.
قبور في البساتين ودون شواهد أو دلالات
في تقريرها المنشور في موقع العين، تقول الصحفية لينة الشريف «لا توجد أسماء على رخام المقابر، مجرد عشب ذابل يصدر صوتاً ناعماً مع النسيم في وادي البقاع.. قبر واحد يحمل علامات، اسم الطفل ليس مقروءاً على الصخرة التي حفر عليها بأداة خشنة تعكس علامات والد بائس».
في صور، جنوب لبنان، اضطر شريف لدفن ابنه، بعد موته «بصعقة كهربائية» في البستان الذي يعمل ويقيم فيه، فلا واسطة لديه تخوله الحصول على قبر، كما أنه ضاق ذرعاً بتكاليف الدفن. يقول شريف: «طلبت من صاحب البستان مساعدتي لدفن ابني في مقبرة المدينة، أحجم عن مساعدتي متذرعاً بالخصوصية الدينية، وأخبرني أنه لا يمانع إن دفنته في البستان»، وهو ما حصل.
يقطع أبو الصادق مسافة مئة كيلو متر لزيارة قبر زوجته في كل مرة يرغب بذلك، إذ لم يجد سوى مقبرة صغيرة في بلدة شحيم (قضاء الشوف) منحته مترين من التراب لدفنها، إثر رفض المجلس الإسلامي الشيعي منحه الإذن بدفنها في مقابر قضاء بنت جبيل، وتعذّر وجود مقبرة مخصصة للسوريين في المنطقة.
أم أحمد، كما رغبت بتسميتها خوفاً من ملاحقتها قانونياً، قالت إنها لم تستطع إيجاد قبر لطفلها ذي السنة الواحدة، ولا تمتلك تكاليف الدفن ما دفعها لدفنه في منطقة جبلية قريبة من مكان سكنها. ليلاً نبشت التراب، كما أخبرتنا، بعد أن كفنت وليدها كما اتفق، ودون أن تصلي عليه، فـ «الأطفال ملائكة في الجنة»، هكذا كانت تقنع نفسها. وتقول إنها وضعت أربعة أحجار متفرقة بشكل مربع، تبعد كل منها نحو متر عن الأخريات، لتجنب معرفة أن المكان لقبر. تقول إنها تزوره خائفة في كل مرة، وتجلس إلى جواره وهي تلتفت صوب جميع الاتجاهات.
أخبرت أم أحمد من تعرفهم أنها دفنت طفلها في سوريا، هو يرقد على بعد أمتار منها دون قدرتها على الإفصاح عن مكان وجوده، أو زراعة الورد على قبره وريه بالماء.
تقارير إخبارية رصدت حالات مشابهة، كانت إحداها لامرأة تعد عشر خطوات للوصول إلى قبر طفلها، بينما وضع رجل ثلاثة أحجار متقاربة، وعلّم المكان بصخور تحيط بقبر ولده.
ويعود امتناع السوريين عن وضع الدلالات على القبور لأسباب تتعلق بالخوف من نبش الجثة بسبب دفنها في الأماكن غير المخصصة، بينما تمنع الكلفة العالية قسماً منهم عن المقابر المخصصة، إذ تبلغ كلفة الشاهدة ما يزيد عن مئة وخمسين دولاراً.
تكاليف الدفن عالية والمساعدات شحيحة
لا تتكفل المفوضية بدفع مساعدات للسوريين في حالة الوفاة، وتغيب المنظمات الإنسانية عن الاهتمام بهذا الشأن. يقول الشيخ هيثم الطعيمي، رئيس جمعية الإنماء والتجدد، إن هناك أزمة حقيقية في التعاطي مع ملف الدفن، فالمنظمات الدولية ليس لديها «باب لإنشاء مقبرة، ولا يتدخلون في هذا الأمر، لأنه مرتبط بالمؤسسات الدينية التي يجب أن تتابع هذا الملف».
وتتراوح كلفة الدفن والغسل والكفل بين 600 -750 ألف ليرة لبنانية، أي نحو 500 دولار، وتبقى المساعدات في الدفن فردية، من قبل بعض أصحاب الخير، بحسب من تحدثنا معهم: وفي بعض الأحيان تقوم دار الإفتاء بتخفيض المبلغ المطلوب، بعد دراسة وضع عائلة المتوفى، لتتقاضى نحو مئتي دولار، بحسب أحمد وهبي.
وتقدم الأونروا مساعدة مالية للفلسطينيين السوريين تتراوح بين كامل المبلغ أو 600 ألف ليرة لبنانية، بعد دراسة وضع العائلة، وتبلغ كلفة الدفن في المقابر التابعة للمخيمات الفلسطينية نحو مئتين وخمسين دولاراً.
ولإتمام مراسم الدفن، يتوجب الحصول على إفادة بالواقعة من المخفر الذي يتبع له المتوفى، ووثيقة من طبيب شرعي توضح سبب الوفاة. وقد حددت الحكومة اللبنانية أجر الطبيب الشرعي بخمسين ألف ليرة لبنانية للكشف وكتابة الوثيقة، ومئة ألف في حال التشريح الجزئي ومئة وخمسين ألف في حال تشريح الجثة بالكامل.
يخبرنا من تحدثنا معهم إن الطبيب الشرعي يتقاضى أضعاف هذه المبالغ، إذ يفرض الأطباء مبالغ تتراوح بين 300- 500 ألف لإجراء الكشف وكتابة التقارير، ما يعني عشرة أضعاف المبلغ الذي حددته الحكومة. ويوجد في صيدا وحدها، بحسب الوهبي، تسعون طبيباً شرعياً، تعينهم وزارة العدل ولهم مكاتب في المدينة، ويقومون بالكشف في المشافي أو داخل منازل المتوفين، وسيء الحظ من يكون موته في يوم عطلة كالآحاد، إذ يُرتب عليه ذلك مبالغ إضافية.
ويزيد من أكلاف الوفاة اضطرار العائلات لوضع المتوفى داخل برادات المشافي لاستكمال الأوراق، وهو ما يستوجب دفع نحو مئة ألف ليرة لبنانية في أقل تقدير.
جثامين مُرحلّة إلى سوريا
على صفحة وزارة الخارجية والمغتربين السورية، تجد مجموعة من المتطلّبات للموافقة على تسهيل نقل جثث المتوفين السوريين خارج البلاد مجاناً، كتسجيل الواقعة لدى البعثة أصولاً والإذن بنقل الجثمان، وتزويد مرافق الجثة بنسخة أصلية عن شهادة الوفادة المصدقة أصولاً، وتقرير الطب الشرعي، وخلو الجثمان من الأمراض السارية، وإغلاق التابوت بإحكام وبالشمع الأحمر.
يقول جميع من تحدثنا معهم، وسنورد قصص قسم منهم، إن ذلك لا يتعدى كونه «حبراً على ورق»، وإن البعثة لم تقدم لهم أي تسهيلات للنقل، بل في كل مرة كانت تتركهم لقدرهم أو تصعب من عملية النقل. وهذا ما أكدته بعض المواقع الالكترونية اللبنانية، عن وجود جثث في البرادات اللبنانية لسوريين لم يتسلّمهم أيٌّ من ذويهم، ولم تقم البعثة بنقلهم رغم مخاطبتها بذلك، ما اضطر الحكومة اللبنانية لدفنهم في قطعة أرض خُصصت لذلك.
جثة مخالفة
فقدت مريم (أم عمر) أختها سعاد في لبنان بسبب جلطة دماغية منذ نحو سنة، ووقع الاختيار عليها لنقل جثتها إلى قرية تلمنس بريف إدلب. تقول إن تلك كانت وصية «المرحومة»، ولا يمكن لزوج أختها وأولادها تنفيذها خوفاً عليهم من الاعتقال والتّهم الجاهزة.
تخبرنا أم عمر أنها شعرت بوصية أختها تخترق روحها: هي لا تريد أن تدفن غريبة كما عاشت، أرادت أن تأنس بمن حولها بالقرب من قبر أبيها وأمها، وكذلك تجنباً للكلفة العالية للدفن ومتاعب الحصول على قبر، إن وجد.
«بعد ساعات من الوفاة بدا الكل متخبطاً»، تقول أم عمر. كانت الأسئلة الأكثر صعوبة هي من سيذهب إلى السفارة لاستخراج الأوراق اللازمة، مع الخوف من الترحيل الذي يعيشه اللاجئون، ثم من أين سنأتي بالتابوت، وما الذي يجب فعله.
«أخبرتنا إدارة المشفى أنها ستنقل الجثة للبراد لإتمام التحضيرات. الطبيب الشرعي طلب مئة وخمسين دولاراً للكشف والتقرير، ولم يكن لدينا إمكانية الرفض لضيق الوقت. وفي اليوم التالي انقسمنا إلى قسمين، زوج أختي الذي توجه إلى مخفر الدرك لكتابة محضر بحادثة الوفاة، وأنا التي كان يجب أن تتجه نحو السفارة بعد انتهائه من كتابة المحضر».
في مخفر الشرطة، طُلب من زوج أختي العودة في اليوم التالي بحجة الانشغال. يخبرنا أبو أحمد (زوج سعاد) إنه أحس بالاختناق والعجز، «للموت حرمة»، والبقاء في ثلاجة الموتى كان يزيد من ألمنا جميعاً.

صباح اليوم التالي «بكرت في القدوم للمخفر»، «لا أحد يهتم لأمرنا»، يقول أبو أحمد. فلمجرد الإلحاح عليهم «هددوني بالحبس»، قالوا «في كل يوم يموت مئة سوري، عليك أن تنتظر لنناديك»، لكن تدخل واسطة من أحد المعارف سرَّعت من الإجراءات لنحصل على المحضر نهاية الدوام.
العطلة الرسمية حالت دون وصول أم عمر إلى السفارة حتى يوم الاثنين لختم الأوراق والحصول على إذن بنقل الجثمان. تقول إنها اضطرت لبيع قطعتي الذهب اللتين تملكهما لدفع فاتورة المشفى وثمن التابوت، الذي بلغ نحو ثلاثمائة وخمسين دولاراً. تخبرنا أن الكلفة الإجمالية للموت تجاوزت ألفاً وثلاثمائة دولار، وهو مبلغ لا يملكه معظم اللاجئين.
على الحدود السورية اللبنانية، في معبر العبودية اللبناني، وبعد التدقيق في الأوراق الثبوتية، طلب الأمن العام من مريم أوراق الإقامة الخاصة بها وبأختها. تقول: «تفاجأت برفض مرور الجثة، مطالبين بإجراء تسوية وضع لأختي، كونها دخلت لبنان بطريقة غير شرعية!». توسلت لهم لمراعاة ظرفها وإكرام أختها بالدفن، دون جدوى، كان الجواب حاسماً «القانون قانون».
«الرجعة فجعة»، فكيف برفقة جثة من تحب، ممتعضة من القرارات الظالمة؟ تقول أم عمر إنها اضطرت لدفع مبلغ تسعمائة ألف ليرة لبنانية، ثلاثة آلاف عن كل سنة مخالفة؛ للحصول على ترخيص بإخراج الجثة من لبنان. «لا قدسية للموت هنا، لسنا متساوين حتى عندما نموت».
بعد ستة أيام من الوفاة دخلت الأختان الأراضي السورية. تروي مريم عن سياسة إفراغ الجيوب التي تتبعها حواجز النظام والشبّيحة من الحدود إلى حماة، «لا هم لهم سوى السرقة والسلبطة» حسب وصفها. أحد الضباط أخبرها أنه لا يعترف بختم السفارة، هامساً في أذن السائق «إما أن تنزلوا الجثة ونفتش ما بداخل التابوت، أو تدفعوا لنا وسندعو لها بالرحمة».
جثة تسافر وحدها
يروي محمود، وهو لاجئ سوري في ألمانيا، قصة صديقه الذي توفي وحيداً في لبنان الذي لجأ إليه منذ سنوات. يقول إن اتصال والدة صديقه لتخبره بوفاته كان قاسياً جداً، شاب يموت وحيداً دون أهله، كل ما خطر في باله وهو يتلقى «دعوات الأم» ورجاءها بأن تشم رائحة ولدها قبل دفنه، والدته التي تعيش في مدينة حلب على أمل اللقاء بولدها، ولو كان جثة هامدة.
زَوَّدته الأم برقم المشفى التي قام بالتواصل معها، وكان على محمود دفع مبلغ يقدر بنحو خمسمائة يورو لفاتورة المشفى، والاتصال بأحد سائقي التكسي لإيصال الجثة إلى حلب.
يقول محمود إنه تابع الأمر منذ البداية، إذ قام السائق باستخراج الأوراق المطلوبة ودفع التكاليف وثمن التابوت، وطلب من السائق وضع الثلج حول الجثة لتبقى باردة، خوفاً من انتشار الرائحة. يقول إنه أراد لوالدة صديقه أن تَشمّه برائحة عطرة.
على المعبر السوري رفض الضابط مرور الجثة، يقول إن سائق التكسي أخبره أن الضابط بعد استلامه للأوراق قال إن «صديقه مطلوباً لأحد الأفرع الأمنية!»، من يحاكم جثة؟
لم تفلح جميع المحاولات في إدخاله. كذلك، لم يسمح الأمن اللبناني بعودتهم، ليبقى الاثنان، الجثة وسائق التكسي، عالقان. كان الثمن هذه المرة ألف دولار لمرور جثة، بعد يوم ونصف اليوم، ذاب فيهما الثلج وبدأت الرائحة بالانتشار.
يخبرنا محمود أن سائق التكسي أراد دفنها في المعبر أو في أرض قريبة، إلا أنهم لم يسمحوا له بذلك. وبعد دفع المبلغ المطلوب توجه إلى حلب، وعند كل حاجز من الحواجز المنتشرة كان لا بد من دفع مبلغ مالي، جميع عناصر الحاجز لا يدخنون سوى المالبورو بينما أدخن «اللف والقشق»، يقول محمود.
تسعة أيام فصلت بين موت صديق محمود ووصوله إلى والدته، وحين وصلا إلى حلب مَنَعَ الأهالي أم صديقه من فتح التابوت. كانت الرائحة تملأ المكان، ما اضطرهم لدفنه دون وداع.
جثث مهربة
يبكي عبد الواحد ضياع جثّة والده، فبعد وفاة والده نصحه من يعرفهم بنقل الجثّة مع أحد المهربين، وبذلك يتخلص من الترتيبات الصعبة المذكورة سابقاً، لا سيما أن والده مخالف لنظام الإقامة منذ 5 سنوات، ما يتطلب دفع مليون نصف مليون ليرة لبنانية للأمن العام (نحو ألف دولار).
يقول عبد الواحد إن التنسيق كان مع المهرب باستلام الجثة في البقاع، ثم يتكفل بنقل الجثة إلى الأراضي السورية، في الطرف الآخر سيكون هناك مهرّب آخر يتبع للمهرب الأول أو متعاون معه ينقل الجثة على خط عسكري، على حد قوله، حتى آخر نقطة للنظام. بعدها، يستلمها عمّه ويأخذها إلى البلدة.
«دفعنا لهم مليون ونصف مليون ليرة لبنانية»، وكان من المفترض تسليم التابوت للطرف الثاني بعد مدة أقصاها 8 ساعات. «بعد 24 ساعة لم يتصل بنا أي أحد ولم يعد المهرب يجيب على اتصالاتنا». بعد ثلاثة أيام، اتصل بنا المهرب من رقم آخر، وأخبرنا بتعرضهم لإطلاق نار وملاحقة من حرس الحدود، ما اضطره لدفن الجثة ليلاً، في إحدى الأراضي التي اختبؤوا فيها، وإنه لم يعد يستطيع تحديد مكانها لأنه دفنها ليلاً وفي ظروف صعبة.
يشكك عبد الواحد في رواية المهرب، متمنياً ألا يكون قد ترك التابوت في العراء، ففي الحالتين مصيبة برأيه؛ كما أنه لا يستطيع إخبار السلطات لإيجاد الجثة خوفاً من الملاحقة القانونية نتيجة تعامله مع المهربين.
تضيق الأرض بالموتى السوريين، ويصبح الموت الذي كان «راحة» للمتوفيين عبئاً على عائلاتهم؛ والوصول إلى «مسقط الرأس» رفاهية تمر عبر أجهزة «التفييش» وحواجز الإتاوات، مخلفاً ديوناً كبيرة لا يمكن إيفاؤها، ويتحول العزاء إلى رسائل اطمئنان عن وصول الموتى إلى كرامة دفنهم. «الحمد لله لاقينالوا قبر»، «الحمد لله وصلنا بعد تلات أيام»، «نحنا عالحاجز»، «نحنا بالمعبر»، «فيه مقبرة رضيت تسمحلنا ندخل»، «ادفنوه بالبستان»، «خدوه على ضيعة بعيدة»؛ يستدعي ذلك رحلة مكوكية بين القرى والبلدات، هدفها حرّاس المقابر ودور الإفتاء، واستجداء الإنسانية.