الساعة السادسة وثمانية دقائق. المبنى يهوي، هزة أرضية قوية. نركض إلى رواق المنزل للاحتماء، يقع الفانوس الورقي على رأسنا. يأتي صوت مريب بعد لحظات، ليوقف التكهنات، أو يزيدها. لقد تعرضنا للقصف؛ أين القصف؟ ومن قصفنا؟ أخرج إلى الشرفة لأرى سحابة دخان وردية تغطي السماء. لم أرَ  في حياتي دخانًا ورديًا. أنظر إلى الساعة، ما زال الوقت نفسه. أتى الصوت ليوقف الهزة، وليتوقّف معه الوقت في الثانية التي دوّى فيها. هذه اللحظة التي تأكدت فيها أنني لم أمت، وأن الأنقاض التي رأيتها هي مجرّد هلوسات.

ماذا أفعل الآن؟ ماذا حصل؟ أنظر حولي لأجد أن من كانوا معي في البيت ما زالوا هنا. ماذا نفعل؟ لقد حبستنا السحابة الأولى في الوقت، كبّلتنا. هل ما زلنا أحياء؟ هل قصفتنا إسرائيل؟ علينا أن نفعل شيئًا. أشغّل التلفاز على المحطة الأرضية الوحيدة التي يلتقطها. أنباء عن انفجارٍ قرب بيت الوسط في وسط بيروت. محطات التلفزة مشغولة بصحة سعد الحريري، الذي يجوب حديقة قصره المنهوب من أموال الناس لمعاينة الأضرار التي لحقت به. أنظر إلى الساعة، دقيقة مضت وكأنها ساعة. ما زلتُ أرتج، لقد تسمّرت قدماي على الأرض، غير عالمٍ بما يجب أن أفعله.

إنفجارٌ في المرفأ، تصرخ صديقتي من الجهة الأخرى من الاتصال. هي أيضًا محبوسة في السحابة وغير قادرة على الحركة. لقد انتشر الفيديو الأول للانفجار. عشرون ثانية كررتُها ألف مرة. لم أشأ تصديق ما رأيت. لقد صار للانفجار إسم: إنفجار بيروت. لقد انفجرت بيروت فينا، أو أننا انفجرنا في بيروت، كأن القنبلة وُضعت في قلبنا، لنرى الموت الذي لم نكن نتوقعه، خلال هروبنا من الموت الذي نعيش فيه.

وصل الليل، جاء السواد يواسي الدمار. لا كهرباء في المنطقة المجاورة للانفجار. مشينا على الزجاج لنتمكن من الوصول إلى الجهة الأخرى من الاتصال. صوت الزجاج لا يتوقف. الهواء ثقيل، رائحته مقززة. الضحايا على الطرقات، في الزحمة وقرب المستشفيات. الأطباء والممرضون الجرحى يعالجون الجرحى على الأرصفة. دماء، عيون فارغة، بكاء، نحيب. نقترب أكثر من موقع الانفجار، يزداد الدمار. المستشفيات غير قادرة على استيعاب المرضى. على الطريق باتجاه الصيدلية، فجوة الدمار تتسع. كل لحظة تمر بعد الانفجار، ينكشف معها حجم الخسارة التي لحقت بنا. دقائق قضيتها أجوب شوارع بيروت للبحث عن أدوات لتضميد الجروح، التي نفذت من معظم الصيدليات. دقائق مرّت وكأنها أيام. القوى الأمنية تلتزم بقانون السير، عنصران ينتظران الإشارة الخضراء للمرور. أين نحن؟

الليل يمر ببطء، نحيبُ أهالي الضحايا قريبٌ جدًا. نحيبٌ يعلن خسارة تلو الأخرى. الليل مرّ بلا نوم. الجلد يحرق، والعيون. ألم حاد في الرأس. هل نحن متعبون أم أن هذه السموم التي انفجرت تقتل من بقي على قيد الحياة؟ أشرقت الشمس، انقشع الدمار. أشاهد تسجيلات الفيديو للانفجار مجددًّا. فيديوهات جديدة تظهر تباعًا. يبدو أن من صوّروها ما زالوا أحياء. أشاهد الفيديو ببطء، تتسع السحابة تدريجيًا، أشعر بتموّجاتها تنهك جسدي في كل مرة أشاهد الفيديو فيه، وكأن الإنفجار يحصل مرة جديدة. أحاول النوم، إنفجارات متتالية في رأسي. أستيقظ لأتأكد أن ما رأيته لم يحصل فعلًا. أحاول إرهاق نفسي لأنام مجددًّا، محاولات كثيرة باءت بالفشل.

النحيب يتزايد، أهل يبحثون عن أولادهم، أناس يبحثون عن أحبائهم وأصدقائهم وسط الدمار. في كل لحظة تمر، نعي ضخامة الخسارة. من بين صور المفقودين والضحايا صورة شمسية، تمسك بها امرأة لرجل ربما في الأربعين من عمره. صورة علي مشيّك، العامل الذي عاد إلى المرفأ من أجل 5 آلاف ليرة إضافية. صورة تزيد من حجم المجزرة.

أستفيقُ من كابوس آخر. أتوجّه إلى الشارع. تتسع فجوة الدمار في رأسي. الانفجار فكَّ الحصار، يهنئ رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون نفسه بعد الانفجار. فأموال المساعدات الإنسانية ستدخل إلى البلاد، وصفقات إعادة الإعمار ستتحوّل إلى تراكم جديد في الثروات. في الواقع، هناك حصار آخر في طور النشوء. حصار يهدد حياة ضحايا الإنفجار وعائلاتهم، يهدد سكان المناطق المجاورة للمرفأ الذين رفضوا ترميم منازلهم. حصار سيهدد منطقة بكاملها بحجة إعادة الإعمار للمرة الثانية على التوالي، في أقل من عقدين من الزمن.  يهددنا جميعًا، أينما كنا، وبدرجات متفاوتة. حصار حبسنا في 4 آب، الساعة السادسة وثمانية دقائق مساءً، يتّسع كلما مرّ وقتٌ على الكارثة.

ساعات قليلة بعد الإنفجار حتى انهالت على شاشات التلفزة نصائح التعامل مع الصدمة. نصائح للأطفال، للكبار، للعائلات التي خسرت منازلها، وتلك التي خسرت أحد أفرادها في الانفجار. زحمة معالجين وأطباء يشاركوننا الوصفة السحرية للتعامل مع هذه الكارثة. نصائح متعلّقة بالعودة إلى الروتين، وأخرى لتشتيت التركيز عن الكارثة. نصائح للاعتناء بالنفس وبالآخرين، نصائح لكل سيناريو وشخص طالته الكارثة. ولكن المشكلة ليست نفسية. المجزرة التي حصلت في 4 آب هي بالدرجة الأولى جريمة، هي ليست صدمة تدخل في سجل الصدمات التي نعيشها في هذا البلد. هناك من وضع القنبلة قربنا، قتلنا عمدًا، دمّر حياتنا وبيوتنا. حتى المحاسبة والانتقام غير كافيين للتعويض عما حصل، والحلول للتعايش مع هذه الجريمة ليست موجودة في عيادات الأطباء النفسيين وجلسات العلاج النفسي.

وفِّروا نصائحكم. دعونا نشعر بالحزن والغضب والذعر. دعونا نصدق أننا ما زلنا أحياء، أن نلملم ما تبقى من حياتنا بعد هذا الإنفجار، دعونا نغضب ونحزن على ما خسرناه. دعونا نفهم ما حصل، ونعيش تبعاته. دعونا نتحدّث عن مشاعرنا، عن رغبتنا بالانتقام.

ماذا حصل في 4 آب؟ وكيف حصل ذلك؟ قد لا نعرف كيف حصل ذلك، ولكن ما نعرفه هو أن هنالك مواد متفجّرة وضعت في قلوبنا. 7 سنوات والقنبلة الموقوتة على الشاطئ، تنتظر معنا الثانية التي تنفجر فيها وتفجّر بها قلوبنا في دوامة لا تنتهي من القتل والإجرام. لقد عشنا مع هذه القنبلة 7 سنوات. لقد شهدت على موتنا البطيء في هذه المدينة، وعلى محاولتنا الزائفة للتظاهر بأننا بخير. الحقيقة الوحيدة اليوم هي أننا تحطّمنا. خوفنا من الأسوأ القادم أصبح ماضيًا. لقد انعدمَ معنى حياتنا في ثانية. فقدنا قيمة زائفة لوجودنا.

في الثامن من آب، نزلنا إلى الشارع لتشييع الضحايا. نمشي قليلًا ثم نقف. تنأمّل الدمار. لم يعد يستوعب رأسي كم المشاهد التي رأيتها. نتنفّس رائحة الموت. نصل إلى ساحة الشهداء، تستقبلنا القنابل المسيلة للدموع. ثم رصاص مطاطي، فرصاص حي. يبدو أن المجزرة لم تنتهِ.  لقد تخطى عدد الجرحى يومها 700 شخص. مرّ اليوم، عدنا إلى الدوامة.

أسبوعان على المجزرة، وما زلتُ عالقًا في لحظة الانفجار. نثرات الزجاج ما زالت هنا، في ثيابنا، على وسائدنا. صوت الزجاج أيضًا ما زال هنا. اليوم ما زال هناك مفقودون تحت الركام. اليوم أناس يشيعّون أحباءهم الذين وجدوهم الآن، ومنهم من ينتظرون خبرًا عنهم، متأملين عودتهم سالمين. اليوم، ومنذ الرابع من آب، هناك معنى جديد لحياتنا يتشكّل في كل ثانية. معنى جديد للعبث الذي يحيط بنا، والموت الذي يترصّدنا.

إنه اليوم العشرون بعد الانفجار. صوت الزجاج ما زال حاضرًا. حالات كورونا تتزايد بسرعة. أسعار السلع ترتفع أكثر. الناس يتراصفون أمام مراكز تحويل الأموال، فقد تم السماح لنا بسحب الأموال. عاملات وعمال أمام القنصليات يطالبون بالعودة إلى بلادهن. بعض الأدوية غير موجودة في الصيدليات. سيرفع مصرف لبنان الدعم عن السلع الأساسية قريبًا.

إنه اليوم الواحد والعشرون بعد الانفجار. الرابع من آب يبتعد، ونحن هناك، مسجونون في تلك السحابة. ثلاثة أسابيع مرّت على المجزرة. 52 شخصًا ما زالوا في عداد المفقودين. الدولة الأمنية تزيد من بطشها، فالانفجار  لا يكفي. إنها الساعة الخامسة، التجوّل ممنوع بعد السادسة. السحابة تضيق أكثر فأكثر، إننا نختنق. سنعيش بعد الرابع من آب شهودًا على ما حصل. سنعيش في ذاك الوقت كأننا لم نعش في وقت آخر. ولكن مهلًا، فلنُقارب الموضوع من زاوية أخرى، زاوية ستضمّد جروحنا وتخفف هول المصيبة علينا، ذلك أن «محاولة الإطاحة بالعهد»، كما قال جبران باسيل، «قد باءت بالفشل».