أربع سنوات مرّت على استيلاء الأسد على داريّا بريف دمشق، بعد توقيع اتفاق تهجيرٍ أفضى إلى خروج كامل سكانها. ومنذ دخول النظام للمدينة، سارع للترويج لبدء تفعيل الخدمات وإزالة آثار الدمار عنها، وعودة سكانها تدريجياً؛ لا بل أنه أقام احتفالاً في آب 2018 فرحاً بعودة الحياة لطبيعتها في داريّا ورجوع الأهالي إلى ديارهم. لكن لمصادرنا داخل المدينة كلامٌ آخر.
كانت داريّا من أوائل المدن السورية التي ثارت في وجه النظام، الذي لم يتوانَ عن شن حملة عسكرية عنيفة ضدها، وفرض عليها حصاراً استمر لـ 1375 يوماً، ابتداءً من تشرين الثاني 2012 وحتى 26 آب 2016، حيث تم حينها تهجير كامل أهل المدينة المتبقين فيها، والذين بلغ عددهم سبعة آلاف مدني ومقاتل. وقد كانت داريّا تحتضن نحو 255 ألف نسمة وفق الأرقام الرسمية لعام 2007، إلا أن القصف العنيف للأسد بعد اندلاع الثورة تسبّب في تناقص عدد سكانها تدريجياً، إلى أن باتت فارغةً تماماً من أهلها عقب اتفاق التهجير.
لماذا نالت داريّا كل هذا؟!
فاقت نسبة الدمار في داريّا 90%، وطال معظم معالمها الرئيسية وبناها التحتية، وباتت المدينة السورية الوحيدة المدمرة كلياً من قبل النظام، حيث تلقت حوالي ستة آلاف برميل متفجّر، نحو 3500 برميل في عام 2015 وحده، عدا عن آلاف القذائف والاسطوانات والصواريخ المتنوعة، وفق إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فكيف يبدو شكل المدينة اليوم؟ وهل عاد كل أهلها؟.
مدير شبكة بردى الإعلامية، عمر الدمشقي، قال للجمهورية: «قبل أن نعرف كيف يبدو واقع المدينة اليوم، لابد أن نشير إلى أن داريّا ليست فقط المدينة الوحيدة في سوريا التي تعرضت لدمارٍ كلي، بل هي المدينة الوحيدة التي هُجّر الأسد كل سكانها، على عكس اتفاقيات التهجير التي طالت باقي المناطق المحررة، والتي سُمح بموجبها للبعض بإجراء تسوية والبقاء في بلدته».
وأضاف الدمشقي: «داريّا كانت الحالة الاستثنائية الوحيدة، والسبب ببساطة أنها كانت أيقونة الثورة وشوكة في حلق الأسد على مدار أكثر من خمس سنوات، فرغم آلاف البراميل التي أسقطها على المدينة إلا أنه فشل في السيطرة عليها، وقُتل على أبوابها مئات الجنود من النظام، لذلك كان الأخير يتحيّن الفرصة للسيطرة عليها بغية الانتقام من أهلها».
وتابع الدمشقي قائلاً: «داريّا كانت مصدر رعب للأسد طوال سنوات الثورة، وذلك بسبب موقعها الإستراتيجي، فهي تطل على مطار المزة العسكري والقصر الجمهوري ومقر الفرقة الرابعة، وتفصل مدينة دمشق عن الغوطة الغربية، لذلك هجّر النظام كل أهلها، وما يزال اليوم يمنع أغلبهم من العودة ويضع العراقيل في وجههم، كنوعٍ من الانتقام، أو خشية حصول أي تهديد أمني جديد له، إضافةً إلى أن ذلك يندرج ضمن مخططاته القائمة على التغيير الديمغرافي الذي يعمل عليه بالتنسيق مع إيران، الساعية لتحويل داريّا إلى منطقة نفوذٍ لها».
الدخول ليس حقاً للجميع
وقال مروان عبيد، رئيس مجلس مدينة داريّا التابع للنظام، لموقعٍ موالٍ قبل أيام، إن «عدد الأهالي القاطنين في داريّا 15 ألف نسمة والعودة مستمرة»، و«السكان بدأوا بالعودة لبيوتهم منذ آب 2018»، إلا أن «أم جوزيف»، وهي مهجّرة من داريّا، نفت صحة تلك الأرقام، مشيرةً إلى أن عدد السكان العائدين حتى اليوم لا يتجاوزون، حسب تقديرها، حاجز الخمسة آلاف نسمة.
أم محمد، المعروفة بأم جوزيف، كان لها دور ثوري فاعل، وكانت تعمل على تهريب السلاح لفصائل المعارضة خلال سيطرتهم على داريّا. ورغم تهجيرها ظلّت على اطلاع على حال المدينة بشكلٍ مستمر، حيث أكدت أن سكان داريّا قاموا بتسجيل أسمائهم لدى المختار التابع لمنطقتهم للعودة إلى بيوتهم، إلا أن كثيراً منهم لم يحصل على موافقة حتى الآن.
وأضافت أم جوزيف للجمهورية: «البلدية قامت، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية، بتقسيم الأشخاص الذين سجّلوا أسماؤهم للدخول إلى ثلاث فئات، الفئة “أ”، وتضم الموالين للنظام والحزبيين، حيث حصلوا على بطاقات موافقة بالدخول، بحيث يمكن لهم الدخول والخروج دون الحاجة لدفع أي رشاوى للحاجز؛ أما الفئة “ب”، فتشمل الأهالي الذين توجد بيوتهم ضمن أحياء لم يستملكها النظام والإيرانيين، أو تلك التي انتهوا من سرقة كل محتوياتها».
وتابعت أم جوزيف قائلةً: «هناك الكثير من الأشخاص ضمن الفئة “ب” حصلوا على موافقة بالدخول لكنهم لم يحصلوا على بطاقة، لذلك يتوجّب عليهم دفع مبلغ ألف ليرة سورية للحاجز في كل مرة يريدون فيها الخروج أو الدخول. أما الفئة “ج” فتشمل الأشخاص الذين لم يحصلوا حتى الآن على موافقة بالدخول رغم مرور ثلاث سنوات على تسجيل بعضهم لأسمائهم، حيث يلجأ النظام للمماطلة والتسويف معهم، ويتذرّع أنه لا يُسمح لهم بالعودة لأن مناطقهم ما تزال فيها ألغام وأنقاض، بينما في الواقع لا يُسمح لهم بالعودة لأن بيوتهم صادرتها ميليشيات الأسد وإيران، أو لم ينتهوا من سرقتها بعد، أو بسبب وجود إشكاليات أمنية عليهم».

ولم يُسمح للأهالي بالعودة إلى بيوتهم سوى منذ بضعة أشهر، وليس كما روّج النظام بأن السكان بدأوا بالعودة منذ عامين. إضافةً إلى أن الاحتفال الذي نُظّم حينها بمناسبة عودة الأهالي كان مجرد دعاية إعلامية، إذ فرض عناصر الأسد على الأهالي حينها إخلاء المدينة بالكامل مع حلول الساعة الخامسة عصراً، وهو الحال الذي استمر طوال أعوام 2017-2018-2019، حين كان يُسمح للسكان بالدخول لتفقد بيوتهم فقط من الساعة الثانية حتى الخامسة عصراً، يُضاف إلى ذلك تقاضي الحواجز من أغلب الأهالي مبلغ 25 ألف ليرة مع عدة علب سجائر (كروزات)، لدرجة أن البعض امتنع عن الدخول لعدم امتلاكه المبلغ المطلوب، وفق ما ذكرت أم جوزيف.
وتسيطر على داريّا العديد من الميليشيات، حيث يتواجد عند المدخل الشمالي حاجز للفرقة الرابعة، وفي وسط المدينة عند دوار الباسل تنتشر ميليشيات للنظام وعناصر روسية، إضافةً إلى انتشار عدة حواجز للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في أحياء النكاشات والشاميات والخليج وشريدي، بينما تتواجد في الشوارع المؤدية إلى مقام السيدة سكينة حواجز لحزب الله.
خدمات شبه غائبة
معاناة سكان داريّا لم تقتصر على مسألة الدخول والخروج، بل عانوا أيضاً من قلة الخدمات، على عكس تصريحات النظام، إذ زعم رئيس مجلس مدينة داريّا، مروان عبيد، أنه خلال عامين تم إعادة تأهيل مباني البلدية ومخفر الشرطة والمستوصف والهاتف والفرن الآلي، إضافةً إلى شبكات الصرف الصحي والمياه والكهرباء، وترحيل الأنقاض من كافة الطرقات وتعبيد الطرقات الرئيسية.
وأشار عبيد إلى وضع أربع مدارس ضمن الخدمة، والعمل على تأهيل ثلاث مدارس أخرى، كما تمّ إعادة تفعيل باصيّ نقل داخلي و20 ميكرو لنقل الركاب، وتأهيل مبنى النفوس وكنيسة وعدد من الجوامع، وسوق شعبي لتجمّع البائعين.
وقد شكّك مواطن عائد إلى داريّا، فضّل عدم ذكر اسمه لأسبابٍ أمنية، بصحة كلام رئيس المجلس الموالي للنظام، موضحاً أن:«البلدية قامت بترحيل الأنقاض من الشوارع الرئيسية فقط، أما الركام الموجود أمام المنازل فلم يتم ترحيله أبداً، وبالتالي اضطر الأشخاص الذين عادوا إلى بيوتهم لترحيله على نفقتهم الخاصة، بتكلفة تتراوح بين 100-150 ألف ليرة سورية، وفي بعض الأحيان تتشارك أكثر من عائلة في دفع تكلفة الترحيل».
وأضاف المواطن أن «كل شخص عاد الى داريّا عليه التقديم للحصول على عدّاد كهرباء ومياه حتى لو كان لديه مسبقاً، ورغم ذلك فإن الكهرباء لا تعمل سوى 3-4 ساعات يومياً وبشكل متقطّع، كما أن المياه لم تصل إلى كل الأحياء، ولا توجد شبكة هاتف أرضي، بينما تم افتتاح مدرسة واحدة فقط وعدة جوامع. كذلك، توجد فعلاً عدة سرافيس، لكنها لا تخدّم السكان بشكلٍ جيد، ما يضطر أغلب الأهالي لاستعمال الدراجات الهوائية والنارية للذهاب إلى العاصمة، وبعضهم يسير على الأقدام للوصول إلى أوتوستراد المتحلق الجنوبي عند المدخل الشمالي للمدينة، والذي خصصه النظام لدخول وخروج السيارات والأهالي، ومن ثم يستقلّون أية حافلة متجهة إلى دمشق».
سوء الواقع الخدمي والأمني والمعيشي لم يُشجّع كثيراً من الأهالي على العودة، وأغلب من عادوا هم ممّن كانوا نازحين في دمشق وريفها، وباتوا غير قادرين على تحمّل تكاليف إيجارات المنازل. غالبية الأهالي وجودوا بيوتهم بلا أي شبابيك أو أبواب، بل وفتحات في جدرانها، ولكنهم اضطروا للإقامة فيها بسبب عدم قدرتهم على صيانتها، إضافةً إلى أن البعض سكن بيته بلا كهرباء ومياه.
وقد استغل النظام حاجة الأهالي العائدين لصيانة بيوتهم، وقام باحتكار بيع تجهيزات البيوت، ومنع أي شخص من شراء أي اثاث أو معدات بناء من خارج المدينة، ما تسبّب في ارتفاع أسعار اللوازم المنزلية، حيث بلغ سعر الباب من النوع العادي مئة ألف ليرة، والنافذة بـ 75 ألف.
وكورونا
ازدادت معاناة أهالي داريّا مع تفشي فيروس كورونا في مناطق سيطرة النظام، فلم تكن تلك المدينة المنكوبة بمنأى عن هذا الوباء. وأفاد مصدر خاص من داخل داريّا أنه توجد أكثر من 400 إصابة بكورونا و45 حالة وفاة، أغلبهم تتراوح أعمارهم بين 35-50 سنة، حيث لا يوجد ضمن المدينة سوى مستوصف يتواجد فيه طبيب عام واحد، يُقدّم إسعافات أولية بسيطة لكامل سكان المدينة.
في ظل هذا الواقع، يبدو أن عودة كثير من الأهالي إلى داريّا ستطول، وربما لا يأتي يوم العودة هذا، خاصةً في ظل هدم النظام للكثير من المنازل بحجة التنظيم وفق القانون رقم 10، إضافةً إلى التواجد الإيراني الذي يسعى لاستملاك أكبر عدد من البيوت واستجلاب عائلات شيعية للإقامة فيها ضمن مخطط التغيير الديمغرافي، هذا في حين ما يزال من عاد إلى المدينة ينتظر عودة الخدمات إليها.