بدأت أعمال التنقيب عن النفط في سوريا منذ ثلاثينات القرن العشرين، لكنّ أول تدفّقٍ تجاريٍّ للنفط لم يحدث إلا بحلول عام 1957. وبعد ذلك بفترةٍ قصيرة، في نهاية الخمسينات تحديداً، تمّ التعاقد مع مؤسسة تكنو إكسبورت السوفيتية، التي وضعت أول خريطةٍ جيولوجية للبلاد، حُفرت بموجبها عدّة آبار استكشافية في شمال شرق سوريا، جرى من خلالها تأمين وجود النفط والغاز، ليبدأ الإنتاج التجاري النفطي الفعلي منها في العام 1968القسم الأكبر من المعلومات والأرقام الواردة في هذا التقرير هي تلخيص لدراسة منشورة في مجلة جامعة دمشق بعنوان التقييم الجغرافي لموارد النفط والغاز في سورية (دراسة في الجغرافية الاقتصادية)، منشورة في العام 2005، وهي من إعداد الدكتور عبد الرؤوف رهبان بالاستناد إلى أرقام المكتب المركزي للإحصاء. كما استعملنا الأرقام والمعلومات الواردة في تقرير مجلس خبراء صندوق النقد الدولي الذي زار سوريا في العام 2008، وعدا ذلك تمّت الإشارة إلى مصادر المعلومات في الرسوم المرافقة والروابط التشعّبية الموجودة داخل التقرير.
الإنتاج والاحتياطيات
تطوّر إنتاج النفط في سوريا بعد ذلك على نحو مطّرد، حتّى وصل إلى ذروته عام 1995 بإنتاج 591 ألف برميل نفط يومياً. ولم تكن الزيادة في الإنتاج بسبب تطور الاكتشافات وزيادة الاحتياطي المؤكد من النفط في البلاد، بل كانت ناتجة بشكل أساسي عن دخول الشركات الأجنبية، أو ما يعرف بشركات عقود الخدمة، في عملية الإنتاج، وكذلك من زيادة الطلب المحلي والعالمي على النفط. أما في العام 1996، فقد أخذ إنتاج النفط بالتراجع، وذلك بسبب هرم آبار الإنتاج وانخفاض مستوى الطبقات الخازنة للنفط وعدم تطوير تكنولوجيا الاستخراج والاسترداد من الآبار. ولكن، خلافاً لذلك، وفي العام 2002، حدثت طفرة غير متوقعة في الإنتاج، حيث وصل إلى أعلى مستوياته منذ بدء إنتاج النفط في سوريا، بواقع 625 ألف برميل نفط يومياً، ولكنّ الرقم اقتصر على ذلك العام، وعاد الإنتاج في عام 2005 للانخفاض إلى مستوى أدنى مما كان عليه طوال العقد السابق لهذا التاريخ، حيث بلغت كميات الإنتاج نحو 422 ألف برميل يومياً.
تتركز حقول النفط السورية في المربع الشمالي الشرقي من البلاد، وقد قدّرت منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (أوابيك) في التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2005 الاحتياطيات النفطية السورية المُثبتة بنحو 3.15 مليار برميل، بينما قدّرت الاحتياطي الإجمالي المُكتشف بنحو 6.9 مليار برميل. وتنسب دراسة صادرةٌ عن مجلة جامعة دمشق لوزير النفط السوري الأسبق إبراهيم حداد في العام 2005 قوله: «إنّ احتياطيات البلاد تبلغ نحو 6.7 مليار برميل، قد تمّ إنتاج 4.3 مليار برميل منها، وبقي نحو 2.4 مليار برميل كاحتياطي نفطي قابل للإنتاج».
وعليه فإنّ إمكانات سوريا النفطية المُثبتة متواضعةٌ جداً، ولا تشكّل أكثر من 0.3% من مجمل الاحتياطي العالمي، وهو رقمٌ ضئيلٌ جداً إذا ما قورن باحتياطيات دولٍ مصدرة للنفط كالسعودية والعراق والإمارات والكويت، والتي تملك لوحدها قرابة نصف الاحتياطي العالمي من النفط. وإذا كانت دراساتٌ عديدة قد اعتبرت نضوب النفط، بشكلٍ عام، أمراً حتمياً، فإن الاحتياطات النفطية القابلة للاستغلال في سوريا وفق كميات الإنتاج الموضّحة في الأشكال البيانية أدناه، كان من المتوقع نفادها في عام 2030 إذا لم تُعوّض باكتشافاتٍ جديدة، وهو ما حذّر منه تقرير خبراء صندوق النقد الدولي في عام 2008. ورغم خطط نظام الأسد الساعية لتقليص الإنتاج إلى أدنى مستوياته عند 300 ألف برميل يومياً في عام 2025، إلا أنّ ذلك لم يكن سيغيّر من حتمية نفاد النفط في المساحات المُستغلة.
أمّا تحوّل سوريا إلى دولةٍ مستوردةٍ للنفط فقد كان من المتوقّع أن يبدأ في العام 2010، ولذا جاءت التوصيات بتأخير ذلك إلى العام 2020 من خلال تثبيت معدلات إنتاج النفط بين 350 و370 ألف برميل يومياً بين عامي 2010 و2015، غير أنّ سوريا قد دخلت فعلياً إلى نادي الدول المستوردة للنفط للمرة الأولى في العام 2007، حيث أظهر الميزان النفطي الكلي، وهو صافي ميزان تجارة النفط مخصوماً منه المدفوعات المُستحقّة لشركات النفط الأجنبية، عجزاً مقداره 2.4% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الأرقام قد تغيّرت بعد تعطّل عمليات الاستخراج والإنتاج منذ العام 2012، حين خرجت حقول النفط في الشمال الشرقي للبلاد من قبضة نظام الأسد لصالح أطراف أخرى، ولكن لا وجود لأرقام دقيقة عن كميات النفط المستخرجة منذ ذلك الحين. ونتيجة بدائية أدوات وعمليات الاستخراج، وتوقّف الشركات الأجنبية عن العمل، فإنّها لم تبلغ بطبيعة الحال معدلات الإنتاج السابقة لعام 2012، غير أنّ الآليّات البدائية هذه ستؤثّر في حجم الفاقد من النفط المُستخرج.
الاستهلاك المحلي والتصدير
كانت معدلات الإنتاج المرتفعة من النفط مقارنةً بالاحتياطيات تترافق مع ارتفاعٍ مطّردٍ في الاستهلاك المحلي من النفط، من حدود 53 ألف برميل يومياً في العام 1990 إلى 230 ألف برميل يومياً في العام 2005، كما كان من المُقدّر أن تصل احتياجات الاستهلاك المحلي اليومي إلى 365 ألف برميل في عام 2015، وذلك لولا اندلاع الثورة وتغيّر جميع المعطيات المتعلقة بالبلاد. ويمكن أن نعزو ارتفاع الاستهلاك المحلي من النفط إلى اعتماد 45% من إنتاج الكهرباء في سوريا على الفيول المُشتق من النفط، فضلاً عن عوامل عديدة أبرزها الزيادة السكانية واتساع المناطق الحضرية والزراعية والصناعية وتضخّم قطاع النقل والمواصلات.
ونظراً لهذه الأرقام، أوصى تقرير خبراء صندوق النقد الدولي في العام 2008 بمواصلة خفض الدعم الحكومي عن البترول. وكانت الحكومة السورية قد قرّرت في أيار(مايو) من عام 2008 البدء بعملية الرفع التدريجي للدعم عن المحروقات، فرفعت سعر البنزين بواقع 33%، وسعر المازوت بنسبة 240%، وترافق ذلك مع إصدار قسائم مازوت وُزّعت على الأسر السورية، لتتيح لها شراء ألف ليتر سنوياً من المادة المُستخدمة للتدفئة المنزلية بسعر 9 ليرات سورية. وفي السياق نفسه، رفعت الحكومة في كانون الأول(ديسمبر) من عام 2008، وكخطوةٍ أولى، سعر الفيول المستخدم في المنشآت الصناعية بنسبة 33%. ومنذ بداية الثورة السورية وحتى اليوم، دأبت حكومات الأسد المتعاقبة على رفع أسعار مختلف أصناف المحروقات التي تحتكر الاتجار بها عبر مؤسساتها، والتي تستوردها بشكلٍ رئيسي من إيران عبر خطوط ائتمانية.
وفضلاً عن استخدامه في السوق المحلية وتحقيقه للاكتفاء الذاتي، فإن النفط السوري شكّل نسبةً لا بأس بها من إجمالي الصادرات منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، حيث تطورت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي السوري من 1% في عام 1968، إلى 13.85% في عام 1980، وارتفعت إلى 18% عام 2000، ثمّ أخذت بالتراجع حتى وصلت في العام 2005 إلى 12.8%.
ورغم تواضع الإمكانات النفطية السورية، فإنّ أثرها في التجارة الخارجية السورية كان كبيراً، حيث لم تقل نسبة مساهمة النفط في قيمة الصادرات السورية عن 45% منذ عام 1990، وقد بلغت هذه النسبة أعلى معدلاتها عام 2000، عندما شكّل النفط نحو 75% من مجمل قيمة الصادرات السورية، وأخذت هذه النسبة بالتراجع حتى وصلت إلى 42% عام 2005. ويمكن أن يُفسر هذا التراجع في الصادرات النفطية بتراجع كميات الإنتاج وعدم استقرار أسعار النفط عالمياً، وبنسبة أقل نتيجة بعض السياسات الحكومية الرامية لتنويع الصادرات وتنمية الجوانب غير النفطية منها.
أما أبرز الدول المستوردة للنفط السوري في آخر الأرقام المنشورة والمتعلقة بالعام 2010، فقد كانت موزّعةً على النحو الآتي: ألمانيا 32%، إيطاليا 31%، فرنسا 11%، هولندا 9%، النمسا 7%، تركيا 5%، إسبانيا 5%. ولكنّ هذه الصادرات المُعلن عنها لا تعني أنّ جميع عائدات النفط السوري كانت تُوظّف في الميزانية السنوية للبلاد. وفي حوارٍ أجرته الجمهورية مع أحد موظفي أمانة سر رئاسة مجلس الوزراء السوري بين عامي 1991 و2008 (رفض الكشف عن اسمه)، قال إنّه كان يوجد في رئاسة مجلس الوزراء مكتبٌ خاص بتجارة النفط السوري يتبع لرئيس المجلس، اسمه «مكتب تسويق النفط»، وكان مسؤولاً عن مبيعات النفط الخام السوري، سواءً عبر العقود الموقعة مع الشركات، أو الذي يُباع مباشرةً من خلال الشركة العامّة للنفط.
وأوضح الموظّف أنّ المكتب كان يتبع إدارياً بشكلٍ مباشر لرئيس مجلس الوزراء، لكنّ أوامر الصرف الفعلية كانت تأتي خلال التسعينات من قبل ضابط في الحرس الجمهوري مندوباً من باسل الأسد. أما بعد موت باسل، فقد كانت الأوامر تأتي من قبل بشار الأسد عبر مندوب هو صديق شخصيٌّ له. ويضيف الموظف عن كيفية إدارة مكتب النفط، بأنّ تفاصيل إدارة عمليات البيع كانت محاطةً دوماً بالسريّة، ويطّلع عليها الموظفون المهمون في هذا المكتب فقط، أما أوامر تحويل الأموال من حساب المكتب فقد كانت تتم إلى حساباتٍ بعينها، يسمّيها بشار الأسد.
وكان هذا المكتب، بحسب الموظف، هو الذي يُدير مناقصات توريد المعدّات لحقول النفط خلال التسعينات، وفي نهاية عقد التسعينات تمّ تحويل تلك المناقصات إلى هيئة الاستثمار التي أدارت الموضوع بالتعاون مع وزارة النفط، وبذلك يكون المكتب مجرّد وسيطٍ لاستقبال عائدات النفط وتحويلها مجدداً.
الفجوة الأبرز في استثمار النفط
لعلّ المشكلة الرئيسية التي طغت على عمليات استثمار النفط السوري، فضلاً عن التكتّم على أرقام عائداتها الحقيقية، هي عدم اقترانها بعمليات استكشافية جديدة، ما جعل عمليات الإنتاج واستغلال الموارد النفطية فعلاً جائراً ومنعدم الأفق ولا يهتم لمستقبل البلاد، ذلك أنّ أعمال البحث والتنقيب لم تشمل سوى مربع الشمال الشرقي من سوريا حتى استنفدت احتياطياته إلى حدٍّ بعيد، وظلّت، حتى بداية الثورة السورية في عام 2011، نحو 60% من مساحة البلاد غير ممسوحة ولم يجرِ التنقيب فيها، والأمر نفسه ينطبق على المياه الإقليمية السورية.
واليوم، رغم النزاعات المحمومة المرتبطة باكتشافاتٍ نفطية في شرق المتوسط، إلا أنّ سوريا ليست بين الدول التي يتمّ التطرّق رسمياً فيها، وفي وسائل الإعلام الموالية، إلى ثرواتٍ نفطية في مياهها الإقليمية (باستثناء بعض التصريحات الشعبوية عن إعادة الإعمار ونهوض سوريا السريع بعد الحرب من قبل بعض المحسوبين على النظام). ولكن لا شكّ بأنّ العقود النفطية الموقّعة مؤخراً مع الروس لم تأتِ من فراغ، وتقضي مضامينها، غير المعروفة على وجه الدقة، بأن يتكفّل الجانب الروسي بعمليات المسح والتنقيب، وتالياً الاستثمار في موارد الطاقة الموجودة في هذه المياه. وخلاصة ذلك أنّ المياه الإقليمية السورية ومساحاتٍ واسعةً من الأراضي السورية ما زالت شبه بكر، ويمكن أن تكون واعدةً بالإمكانات النفطية والغازية، أما نفط شمال شرق سوريا فقد اقترب من أن يكون حكايةً قديمة.