يحدّثني رجلٌ لا أعرفه عن حجم تضحياته تجاه ابنته التي ماتت أمُها في عمر الرابعة، يقول لي: كنت أمّاً لها. إنّ أفضل رجلٍ في العالم هو ذاك الذي بمقدوره أن يكون أمّاً عاديّة، عاديّةً جدّاً، ذلك لو أننا آمنّا بوجود أمٍّ عادية. أقول له: إنّنا كسوريين، لو كان لنا أن نفاوض هذا العالم بجديّة، لما طلبنا منه أكثر من أن يتيح لنا مكاناً نعانق فيه أمهاتنا. نحن نشتاق لأمهاتنا اللواتي لا ندري إنْ كان بمقدورنا أن نراهُنَّ مجدداً، لأمهاتنا اللواتي نكبر ويكبرنَ في الغياب، لأمهاتنا اللواتي تغلبهنّ الحسرة كلما طبخن طعاماً كنّا نحبّه ونطلبه، وتغلبهنّ الدموع كلّما هزّهن الشوق الذي يطحن عظامنا وعظامهنّ.
*****
أفكّرُ بالطريقة المُثلى لأن يحظى ولدٌ مسافرٌ إلى أرضٍ بعيدة، ليس في يده قرار الرجوع منها، بوداع أمه وداعاً يليق بها وبه وبطول الغياب ووحشة المسافة. هل ودّعنا أمهاتنا كما ينبغي؟ هل يمكن لوداعٍ مُشتهى، وكما ينبغي، أن يكون موجوداً بحق؟ لعلّ استحالته كاستحالة الحصول على شربة ماءٍ لا عطش بعدها. مَنْ منّا، نحن الغُيّاب، لا يعانق صورة أمّه وصوتها ورائحتها كلّما ضاقت به دنياه، مَن منّا لا يوظّف أمه البعيدة في حربه مع الغياب الحاضر في يوميّاتنا. أمهاتنا ماء، وأمهاتنا سلاح.
لا يبرحُ الإنسان جائعاً إلى وجه أمه الماثلة أمامه، فكيف إذا غاب عنها وغابت عنه. ميزة هذا الجوع الشوق هو أنّه يرافقنا طوال العمر، لكنّه لا يأكل من أرواحنا وسرائرنا كما يفعلُ إذا فارقنا وابتعدنا. أقسى الغيابات هي غيابات الذين لا ينفكّون حاضرين في جوارحنا، وأقسى الغيابات هي غياباتنا عن أمهاتنا وغياباتهنّ عنّا، سيّما أنّنا نحملهنّ في ضوء محاجرنا وفي قسمات وجوهنا، ونحملهنّ في مقدار ملح طعامنا اليومي وفي طريقة ترتيبنا لمنازلنا الجديدة البعيدة. نحن لا نبارح أمهاتنا طالما أننا نحملهنّ في ضمائرنا، ونتقوّى بسجاياهنّ لنميْز الفعل الطيّب من الخسيس. أمهاتنا ضمائر، وأمهاتنا ميزان.
لا يعني بتر حبل المشيمة ساعة الولادة انقطاعَ الولد عن أمه وانقطاعها عنه، فثمّة حبلٌ آخرٌ لا يفتأ موصولاً؛ لا هو يُبتر ولا هو يُرى. هو حبلٌ لا حدود له، نحسّ من خلاله بأمهاتنا، ويتيح لهنّ فعل الأمر نفسه. هذا الحبل العصيُّ على الوصف هو طوق نجاتنا ونجاتهن، نحن البعيدين المُبعدين الهاربين الناجين التاركين بلادهم وأمهاتهم، نحن اللائمين أنفسنا على خسّتها لأنّنا قد خلّفنا وراءنا أمهاتنا الحارسات ظهورنا، والدافعات بنا دوماً إلى الأمام.
لم نحظَ جميعاً بوداعٍ يليق بنا وبأمهاتنا، كانت أمي قد ودّعتني وداعها الاعتيادي لولدها الذاهب إلى حلب لتقديم امتحاناته الفصلية والعودة بعد شهرٍ أو اثنين، وها أنا، بين حينٍ وحين، أكلّمها بعد مضيّ سبع سنين من وراء شاشةٍ صغيرةٍ من قارّةٍ أخرى. كم غدتْ بعيدةً حلب يا أمّي، وكم طال هذا الامتحان! كنّا نستحقّ وداعاً أطول بلا شكّ، وكثيراً من الدموع بلا شك، وكنتُ لفرط الأنانية سأطلب دعاءً مختلفاً لهذه الرحلة الطويلة والبعيدة، فزاد السوري في ترحاله دعوات أمه.
*****
قد حصل لأمهاتنا السوريات أبشع ما قد يحصل لهن؛ أن يُقتل أبناؤهنّ وأزواجهنّ دونما سببٍ توجبه الحياة العادية التي كنّ يتمنّينها، وأن يودّعن جثماناً ناقصاً أو كاملاً، بالصمت وبالبكاء وبالزغاريد وبالنحيب وبلطم الخدود وتمزيق الثياب، وبكلّ هذا معاً. أو أن يترحّمن في الصباح على أحبابهنّ المحسوبين في عداد الموتى وقد غابوا سنيناً، وأن يبتهلن إلى الله في هدأة الليل بأن يعيد لهنّ أولئك نصف الموتى ونصف الأحياء، الذين لم تعبر توابيتهم من باب البيت.
وقد حصل لأمهاتنا أن يرين ضناهنّ مبعثرين ومبعثراتٍ في مدنٍ عسيرٌ عليهنّ أن ينطقن اسمها بالشكل الصحيح، وأن ينزحن عن منازلهنّ التي قضين فيها عقوداً عديدةً مشغولاتٍ بطبخة اليوم التالي وتصليح الغسالة وملء خزّانات المياه، وفي التجميع المتأنّي لمئات قطع البلّور عديم الاستعمال. نزحت أمهاتنا دون جاراتهنّ وبائعات اللبن ووسائد صباح الخير ولحف الصوف الثقيلة والسجّاد العجميّ المحشوّ بكرات النفتالين.
وقد حصل لأمهاتٍ صغيرات، مقيماتٍ في البلاد العذاب، أن يسألن أنفسهنّ كلّ يوم: لماذا جئنا بأولادٍ وبناتٍ صغارٍ إلى هذه الدنيا الحقيرة والبلد الحقيرة في هذا الزمن الحقير! وأسأل نفسي: لماذا فعلنا كلّ هذا بأمهاتنا! ليتنا نولد بلا أمهات، نُريحهن ونستريح.
*****
نحن مدينون لكاميرات هواتف أمهاتنا، وحاقدون عليها في آن. لا يمكننا تخيّل الحياة دون الصورة التي تنقلها لنا لنمُعن النظر في الوجوه التي ازدادت تغضّناً والشُّعور التي ازدادت شيباً دون أن نراقبها لحظةً بلحظة. الكاميراتُ تعوّض عيوننا بعض ما فاتها، ولكنّها لا تتيح لنا أن نلامس أو أن نلقي برؤوسنا المتعبة في أحضانٍ تعوّدناها مقابر للهموم.
لقد تغيّرت أمهاتنا اللواتي عرفناهنّ جيّداً، فمن اليوم أمهاتنا المحشورات في شاشاتٍ صغيرة! أمهاتنا هن اللواتي صرن مهتماتٍ بنشرات أحوال الطقس في برلين وباريس واسطنبول وغيرهن من المدن القصيّة. أمهاتنا هن اللواتي ترتجف قلوبهنّ من عدّاد فيروس كورونا حول العالم، لأنّ أبناءهنّ وبناتهنّ قد باتوا في كلّ أرضٍ من هذا العالم، أمهاتنا هنّ اللواتي صرن يخشين اليمين المتطرّف والعنصريين وكارهي الأجانب وعنف الشرطة وإجراءات الترحيل، أمهاتنا هنّ اللواتي صرن يسألن من خلف كاميرات الجوالات عن الأوسلندر والأوسبيلدنغ والفورم ريفيوجيه والبريفكتور، ويفرّقن جيّداً بين الحماية واللجوء وشروط كلٍّ منهما ومزاياه، ويعرفن الشغل بالأبيض وبالأسود والحدّ الأدنى للأجور.
وأمهاتنا هنّ المشتركات في صفحات ومجموعات البحث عن عملٍ ومنح، ولا ييأسن من إرسال الروابط والرسائل الصوتية ليخبرننا عما وجدن. أمهاتنا هنّ اللواتي كان من الصعب إقناعهنّ بأن الإيدز لا يمشي متبختراً في شوارع أوروبا، وبأنّ الطريق إلى عدم الضياع ليس بالأمر الصعب المستحيل في هذه البلاد. أمهاتنا هنّ اللواتي عرّفناهنّ على أصدقائنا الجدد من الأوروبيين، وعلى أسمائهم الصعبة، فأسميْنهم الشقراء والأحمر والسمراء وأبو لحية وأبو راس مدوّر.
*****
أنا كثير الكلام عن أمي، ولكنّي أهرب من فكرة أن أكتب عنها ولها، إذ كيف لي أن أنقل بريق عيوني وحشرجة صوتي ساعة استحضار حبي لها وذكرياتي معها! أخشى أيضاً ألا تفيها جملي المنتقاة والمتكلّفة حقّها، ففي كلامي عنها، بعفويته واسترساله، أكونُ ويكونُ قولي أكثر شبهاً بها، وهو ما يعجزني فعله في الكتابة. أيضاً، هي لا تسمع كلامي عنها، ولكنّها تقرأني، ولذا لا أريد لها، رغم أنّها تعرف ذلك في قرارتها، أن تقرأ حجم شوقي لها فتبكي، وأخجل من ذلك بمقدار خجلي من أن أقول لها في وجهها إني أحبها.
أترين يا أمي؟ أنا ما زلتُ ولدك الذي كلما أردتُ الكتابة عن الأمهات أعود طالباً في الصف الخامس، طفلاً يحمل في عنقه عشرات الكلمات والجمل الإنشائية ليكتب موضوع تعبيرٍ عن التي استيقظت في الليل لأنها نسيت أن تضع له سندويشة الزعتر في حقيبة المدرسة، وما زلت ولدكِ الصارم المتجهّم في كلامه، والضعيف الفجائعيّ على أرض الحقيقة.
*****
دائماً ما تطلب أمي من أخي أن يفتح لها آخر مقالاتي لتقرأها، وهي لا تفوّت قراءة أيٍّ منها وإعطائي رأيها. لكنّها، في كلّ مرّة، تصل إلى نقطةٍ معينةٍ من المقال فتتعب عيونها، وتطلب من أخي أن يحفظ لها إلى أين وصلت بالقراءة حتى تكمل المقال في المساء أو في اليوم التالي. تعود لتعاتبني في كلّ مرّةٍ على طول المقال، تقول لي: والله زاغت عيوني. هذا نصٌّ قصيرٌ يا أمي، أو هكذا جهدتُ أن يكون، فقط حتى لا تتعب عيونك من قراءته كاملاً، ودفعةً واحدة.