بلغ عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار، وأهمّها تركيا ولبنان والأردن، أكثر من 5.5 مليون لاجئ، وفق إحصائيةٍ للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق اللاجئين. ويعيش معظم اللاجئين في هذه الدول ضمن ظروفٍ غير مستقرة أو سيئة وتزداد سوءاً، مع تصاعد العِداء تجاههم وتقلّب سياسات الدول المستضيفة لهم، والتي تتجه أكثر فأكثر نحو التضييق على اللاجئين ودفعهم نحو العودة.
ويسعى جزءٌ وازنٌ من هؤلاء اللاجئين، قد يكون الغالبية العظمى، إلى الاتجاه نحو دولٍ أخرى، إلا أنّ إغلاق طرق التهريب نحو أوروبا دفعهم إلى البحث عما يمكنهم فعله ليُعاد توطينهم في مكانٍ آخر، وتُعتبر كندا إحدى أهم البلاد التي يُفكر هؤلاء اللاجئون بالتوجه نحوها، بسبب سرعة إجراءات الحصول على الإقامة الدائمة والجنسية مقارنةً بالدول الأوروبية. إلا أننا سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على جوانب الضعف والقصور في هذه الإجراءات، أملاً في تجاوزها إن كان هذا مُمكناً.
استقبلت كندا منذ عام 2015 نحو 63 ألف لاجئ سوري، بحسب ما نقل موقع سي بي سي عن الهجرة الكندية في تشرين الأول(أكتوبر) 2019. ويُعتبر هذا العدد تقريبياً؛ لأنّ الإحصائيات الرسمية على موقع الحكومة الكندية لا تذكر سوى عدد السوريين اللاجئين إلى كندا في عامي 2015 و2016. ويتّسق غياب الإحصاءات الدورية الرسمية في كندا مع الخط العام غير المرئي من البيروقراطية والبطء وسوء التنسيق بين الدوائر، أو تراجع الاهتمام العام بهذا الملف مقارنة بالأعوام السابقة، وهذه جميعاً أمورٌ يمكن ملاحظة اتّسام بعض إجراءات اللجوء بها، وخاصةً فيما خصّ بلداناً تشهد أوضاعاً معقّدة مثل سوريا.
وكانت كندا تخطط إلى استقبال أكثر من 30 ألف لاجئ عام 2020، إلا أنّ جائحة كورونا جاءت لتُعطّل كل ما يتعلّق بملفات اللاجئين إلى أجلٍ غير مسمّى. وتشير المعطيات الحالية إلى أن حكومة جاستن ترودو تسعى إلى توسيع برامج اللجوء واستقدام المهاجرين في السنوات اللاحقة، خاصةً مع تشديد الولايات المتحدة قيودها على المهاجرين، ما يؤدي إلى زيادة الضغط على كندا، التي أعلنت نيتها إعادة توطين نحو مليون شخص حتى 2022.
قوائم الانتظار الطويلة
يستطيع اللاجئون القدوم إلى كندا بعدة طرق، أولها برنامج الأمم المتحدة الذي يجري عبر التنسيق مع الحكومة الكندية وحكومات البلدان الأخرى، ويحتاج فيه اللاجئ إلى التسجيل على لوائح الأمم المتحدة وانتظار قرارها وإجراءاتها، والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى الفرز للبلد المُتاح.
إلا أن الحكومة الكندية فتحت الباب للمواطنين الكنديين الراغبين في المساعدة باستقدام اللاجئين، وذلك عبر برنامج الكفالة الخُماسية، الذي يُسرّع عملية اللجوء إلى كندا، والذي يقتضي وجود خمسة كفلاء كنديين يقيمون في المقاطعة ذاتها، ويستطيعون تأمين اللاجئ في عامه الأول، بما في ذلك توفير المسكن والمصروف الشخصي والمساعدة في إتمام الأوراق الضرورية.
ويجب على الراغب بالقدوم عبر برنامج الكفالة الخُماسية أن يكون مُسجلاً كلاجئ على قوائم الأمم المتحدة، وأن يجد خمسة كفلاء في المقاطعة الكندية ذاتها، ومن ليس مسجّلاً على قوائم الأمم المتحدة يجب عليه، هو والكفلاء، إيجاد كنيسة أو منظمة أهلية في كندا تكون بمثابة مظلّة إضافية. وتمتلك هذه الكنائس أو المنظمات الأهلية قوائم تضم أعداداً محدّدة للاجئين الذين تستطيع استقدامهم كل عام، وعلى اللاجئين التسجيل في هذه القوائم وانتظار دورهم.
رغم وصول عشرات آلاف اللاجئين إلى كندا، إلا أنّ هناك بعض الجوانب السلبية في الإجراءات، وقال ستيفن وات، وهو مواطن كندي يعمل في مجال رعاية اللاجئين، إن «الصورة المُشرقة لكندا، وأي بلد آخر يعمل على إعادة توطين اللاجئين، قد لا تكون موضوعية كما يتم تصديرها. فهناك تفاوت كبير بين أعداد اللاجئين المُحتاجين لإعادة التوطين وأعداد القادمين عبر هذه البرامج. وفي بلدان كلبنان والأردن وتركيا مثلاً، توقّفت الأمم المتحدة عن تسجيل معظم اللاجئين منذ عام 2017، إلّا لحالات استثنائية، وهناك أيضاً ضغطٌ كبيرٌ على لوائح الانتظار لدى الكنائس والمنظمات الأهلية الكندية، قد تضطر اللاجئين في الخارج إلى انتظارٍ طويلٍ للقدوم إلى كندا».
وأضاف وات: «علاوةً على ذلك، هناك كثير من حالات الرفض للقدوم إلى كندا تأتي نتيجة للصرامة غير المُبرّرة، تُعلّل بالتباين بين ما يرد في الملفات وما يقوله الشخص في المقابلة، والتي قد تحصل نتيجة خطأ في الترجمة أو التعبير أو بسبب سوء الفهم أو لأيّ سببٍ آخر».
رهبة المقابلة وثغرات التقييم
لا يعرف السوريون الذاهبون إلى المقابلة في السفارة الكندية ما الذي ينبغي عليهم قوله أو تفاديه. فمن الواضح أنّ كندا لا تريد المغامرة بقبول أي ملفٍّ تظنّ أنه قد يشكل خطراً على أمنها. وتوصي إرشادات الهجرة الكندية اللاجئين بعدم الخوف وقول الحقيقة والحرص على عدم وجود اختلاف بين ما ورد في الطلبات وما يقوله الشخص. لكنّ كثيرين يظنون أن قول الحقيقة سيؤدي إلى الرفض لأن كندا تعتبرهم خطراً وفقاً للمعايير التي تعمل عليها. فجزءٌ كبيرٌ من السوريين خارج سوريا هم من معارضي النظام، وقد ساهم كثيرٌ منهم بطريقةٍ ما في العمل ضده، في حين تعتبر وزارة الهجرة كثيراً من الهيئات السياسية المُعارضة، كالتنسيقيات والائتلاف، أطرافاً «ضالعة في الصراع ضد الحكومة»، وبالتالي هناك احتمالٌ لرفض الناشطين أو الفاعلين ضدّ النظام، حتى لو لم يحملوا السلاح، رغم أنّ جهاتٍ معارضة، كالائتلاف وسواه من الجهات السياسية والمدنية، قد تكون حصلت على دعمٍ من الخارجية الكندية، التي أدانت أكثر من مرة النظام السوري وجرائمه، وقطعت علاقتها الدبلوماسية معه، وهذا ما يُظهر التناقض في سياسات الدوائر الكندية المُختلفة.
الصحفي الكندي غاريث شانتلر، الذي كان قد كتب مقالاً هاماً على موقع أوبن كندا يوثّق حالات رفض لملفات سوريين إلى كندا، قال في حديثٍ للجمهورية إن «عملية قبول اللاجئين السوريين في كندا تسير وفقاً لقانون الهجرة وحماية اللاجئين الحالي، وهو القانون الذي تمّ وضعه عام 2001 دون أن يتم تحديثه ليكتسب المرونة الضرورية فيما خصّ الملف السوري، إذ يرفض موظفو الهجرة السوريين بناءً عليه، لأسبابٍ تتعارض مع القيم الكندية». مضيفاً أن «القرارات المتّخذة على ضوء هذا القانون تعطي امتيازاً صريحاً للنظام السوري وأشباهه، عبر رفض من كانوا يقاومون عنف الدولة (حتى بشكلٍ سلمي)، إضافةً إلى أُسرهم. وعلاوةً على ذلك، قد تتعرض الإجراءات للتلاعب من جانب المترجمين، غير الخاضعين للرقابة والذين لا يكترثون لرفض الملفّات».

وذكر تقريرٌ رسمي لتقييم أداء وزارة الهجرة نقاط الضعف في إجراءات اللجوء، منوّهاً إلى أن «بعض وسائل تقييم المخاطر، التي يعتمد عليها موظفو التأشيرات لرفض الملفات أو طلب مشورة الشركاء الأمنيين، لم يتم تحديثها». وأشار التقرير إلى أن «العديد من محللي وكالة خدمات الحدود الكندية، الذين يقدمون المشورة الأمنية لموظفي التأشيرات، لم يتلقوا التدريب الرسمي اللازم للقيام بذلك. فيما تفتقر المشورة الأمنية المُقدّمة إلى موظفي التأشيرات للسداد في عملية التقييم. وفي كثيرٍ من الحالات بقيت عملية التحرّي الأمني مستمرةً لوقتٍ طويل دون أن يحصل طالب اللجوء على جواب».
«جحيم التحرّي الأمني»
بعد المقابلة، يمرّ طالب اللجوء بمرحلة التحرّي الأمني، التي تتم برعاية «طرفٍ ثالث»، هو وكالة خدمات الحدود الكندية، بالتعاون مع بقية الدوائر الرسمية الكندية. وتُعتبر الخدمة العسكرية أمراً حساساً ويتم التدقيق عليه كثيراً، وقد تطيل فترة التحرّي الأمني، علماً أن غالبية الشبان السوريين أدّوا هذه الخدمة، وترتفع رتبهم تبعاً لتحصيلهم العلمي، بالتالي قد تزداد بذلك صعوبة اجتياز هذه المرحلة كلما ازدادت حساسية المكان الذي خدم فيه مُقدّم الطلب، وبذلك يزداد احتمال تنحية هذه الشريحة أو دفعها مجدداً إلى الحروب العدمية التي هربت منها.
وقال صحفي سوري مقيم في اسطنبول، رفض ذكر اسمه، إنه قدّم على كندا عام 2016 وتتالت مراحل طلبه وصولاً إلى المقابلة، التي حصل فيها على الموافقة المبدئية وأجرى الفحص الطبي، ثم طُلب منه الانتظار لمدة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، إلا أنه ما زال ينتظر حتى هذه اللحظة، وما زال ملفه على موقع الحكومة الكندية «قيد العمل».
وأوضح المصدر أن الموظف الذي قابله سأله عن خدمته العسكرية بالتفصيل وعن عمله في الصحافة، ولا يعرف إن كان هذا التأخير سببه الخدمة العسكرية أم غيرها. مشيراً إلى أنه حاول بكافة الطرق معرفة ما يحصل، من مراسة السفارة إلى الاستفسار عبر النائب عن المقاطعة التي قدّم عليها، ولم يصل إلى جواب سوى أنّ عليه الانتظار. وأضاف: «لا أعرف سبب هذا التأخير. لقد قطعت شوطاً طويلاً من الإجراءات والصبر في سبيل الانتقال إلى كندا، واخترتها كبلدٍ بديل، وهذا يدفعني إلى رفض الذهاب إلى مكانٍ آخر بسبب عدم وجود رفض حتى الآن. أعمل حالياً على الاستقرار قدر الإمكان في تركيا، إلا أنّ الإقامة السياحية قد لا يتم تجديدها إلى الأبد، وإقامة العمل التي قدّمتُ عليها رُفضت مرتين دون تبرير… لا أشعر بالأمان في تركيا كونها البلد الأكثر اعتقالاً للصحفيين في العالم. والحقيقة أنني لم أتعرض حتى الآن للتهديد المباشر، أما سواي فقد لا يكون كذلك. والسؤال هو ماذا لو كان هذا يحصل مع شخص لا يحمل أوراقاً ومهدّد بالترحيل؟ فكثيرون هم اللاجئون المعرّضون لذلك».
وتابع المصدر قائلاً: «قد تكون هذه البيروقراطية مدعاةً للحرج بالنسبة لكندا، فما نعرفه عنها من بعيد أنها بلدٌ يحترم حقوق الإنسان ويحاول حماية المعرّضين للخطر. ولكن هذا الإهمال والبطء يتعارضان مع هذه الصورة العامة لكندا التي تعطينا الأمل بأننا سنكون محميين، إلا أننا في ظل هذا الانتظار الطويل نحن دون حماية عملياً.. من سيتحمّل مسؤولية وقوع أي مكروه بحق اللاجئ الذي ينتظر الجواب طيلة هذه المدة، في ظل ظروفٍ تزداد سوءاً يوماً بعد يوم في تركيا وسواها؟»
آفاق ضيّقة للتحرك
أوضح المحامي الكندي بيير آندريه تيريو، المختص في شؤون اللاجئين والمرشح لشهادة الدكتوراه، أن هذا البطء «ليس جديداً على إجراءات الهجرة، إلا أن هناك ما يُمكن فعله لدفع الملفات العالقة في مرحلة التحرّي الأمني، كالتواصل من نائب البرلمان عن المقاطعة التي تم تقديم طلب اللجوء إليها، لكن المشكلة هنا هي أن بعض النوّاب قد يترددون بالتدخل إذا كان الأمر مُتعلقاً بأمور أمنية».
وإضافةً إلى ذلك، ذكر المحامي أنه «قد يكون هناك آلية قانونية لحثّ الحكومة على تسريع الملف وتقديم أجوبة لصاحب الطلب، وهي الذهاب إلى المحكمة الفدرالية الكندية، ومطالبتها بحثِّ الحكومة على إصدار قرار بخصوص الملفات المؤجلة، ولكن المشكلة هنا هو أن إقناع المحكمة والإيفاء بمعاييرها ليس سهلاً، ولم ينجح إلا عددٌ قليلٌ من المدّعين بمسعاهم في هذا الخصوص، لأن الحكومة تستطيع تبرير التأخير عبر تقديم دليل على وجود القضية في يد الجهة الثالثة التي تعتمد عليها للحصول على معلومات. وإذا أردنا إعطاء نسبة تقريبية للملفات التي تستطيع الفوز في قضايا كهذه، يمكن القول إنها أقل من 10٪. إلا أن الحكومة في بعض الأحيان تطالب بسحب هذه الدعاوى مقابل إعطاء جواب في فترةٍ زمنيةٍ محددة». ونصح المصدر الأشخاص الذين يواجهون هذه الحالات بتوكيل محامٍ إن كان ذلك ممكناً، فهذا قد «قد يسهل أموراً كإرسال الطلبات والوصول إلى المعلومات، والهجرة الكندية قد تتجاوب بطريقةٍ أفضل بوجود المحامي».
على ضوء كل هذه المعطيات، يجب أن تتّسم إجراءات إعادة التوطين إلى كندا بشيء من المرونة والحيوية في معالجة ملفات اللجوء الخاصة ببلدانٍ تشهد أوضاعاً معقّدةً للغاية كما هو الحال في سوريا. فبقاء هؤلاء اللاجئين في الأوضاع التي يعيشون فيها اليوم في دول الجوار، والضغوط وموجات العنصرية التي يتعرّضون لها، المُضافة إلى عدم وصولهم إلى الخدمات الأساسية، كالطبابة والتعليم والضمان الاجتماعي، ونشوء أجيال جديدة وسط العنف والحرمان والقسوة، كل ذلك يدفعهم إلى دواماتٍ متجدّدةٍ من العدمية قد لا تسرّ تداعياتها أحداً في هذا العالم.