يرنُّ جرسُ المنبّهِ عند العاشرةِ صباحاً، أخلعُ حقيقةَ النّومِ، تجوزُ عيناي زجاجَ النّافذةِ المُتلعثِمِ بالضّبابِ وبخارِ الحياةِ، أمسحُ الزّجاجَ بأصابعي الثّلاثةِ التي تبقتْ على قيدِ الوجع، بعد قذيفةٍ زرقاءَ التهمتْ اثنين من أصابعِ كفّي.
الظل الأزرق
أرى الحديقةَ الخلفيّة خاويةَ الزّوايا، إلا من بقايا ريشِ يمامةٍ، وقطٍ رماديّ موغلٍ في تثاؤبهِ المتوثّبِ. أراني في مكانِ اليمامةِ،
عندما كان يُقنعني «القطّ» بأن القاربَ المطاطيَّ آمنٌ، وأنّه يعرفُ مساراتِ البحارِ والأنواءِ، ومواقيت خفرِ السّواحل في المياهِ الإقليميّة الشَّماليّة، لم يكن هنالك خيارٌ سوى الهروبِ إلى الأمام.
ففي الخلفِ تفترسُكَ القذائفُ والصّواريخُ وانعدامُ الأمنِ والغلاءِ، والتّجارُ الجشعون. أنتَ في مكانٍ مُشبَعٍ بالمفترسين والكائنات ذاتِ المخالب والفرو. أمّا في الأمامِ فأنت أمام مُفترِس يُحبُّ النقودَ وهو المهرّب، وبحرٍ مزاجيٍّ يمكن ترويضُه، وخفرِ سواحلٍ أقلّ افتراساً.
يكادُ القارب المطاطيُّ يتجشأ ما فيه، وأنا أتجشأ ما ورائي، وفوقَ رأسي تطوف أحلامٌ من ورد.
دوارٌ…اهتزازٌ…ورياحٌ تضرب ضربَ عشواءَ، ليتراقصَ القاربُ المتخمُ مثل سكّيرٍ محشوٍّ بحزنٍ عميقٍ، على وقعِ العويلِ والصّياحِ والبكاء.
في الأسفلِ تحت الأمواجِ، كان الجوُّ هادئاً ممزوجاً بزرقةِ البحر، وفقاعاتٍ مملوءةٍ بالحياة. أسقطُ تدريجيّاً إلى السّكونِ المطلَقِ وفي جيبي جوازُ سفرٍ مُزوّر، وفاتورةُ ماءٍ مبلّلةٍ بالغرق، ماتزال مُستَحقّةً حتّى اللحظة.
في الأسفل لفظتُ ظلّي السادسَ وأنفاسي الأخيرةَ.
لقد فقدتُ في سنيّ عمري الآفلةَ ستّةَ ظلالٍ وإصبعين ووجهاً كنتُ أشبهِهُ
أتوجّهُ مُتثاقلاً إلى المِغسَلة، لأغسلَ ملامحِي، أنظرُ إلى المرآةِ فلا أراني، أتفرّسُ في بيتِ العنكبوتِ على صُنبورِ الماءِ، وأعود خاويَ النّظافةِ إلى غرفةِ النّومِ، لأرتدي ظلّي.. ظلّي السّابعَ والأخير.
الظل المستبدل
الولادةُ بجوهرِها شكلٌ من أشكالِ الخلودِ، من خلالِ انتقالِ المورّثات والجينات والصفات الفيزيولوجيّة الشّكلانيّة من جيلٍ إلى جيل.
«من خلَّف ما ماتَ» عبارةٌ شائعةٌ في المجتمعات الشّرقية والعربيّة، وبخاصّةٍ إذا كان المواليدُ ذكوراً، فهم الذين يحافظون على اسمِ العائلةِ، وشجرتِها، وإرثِها من الاندثار.
قبل أن أولدَ كانت زوجةُ جارنا لا تلِدُ إلا إناثاً، (وليس الذّكرُ كالأنثى)، وقد باءتْ جميعُ محاولاتها بالفشلِ من أجل الحصول على وريثٍ ذكرٍ يحملُ اسم العائلةِ. الأطباءُ، وتنظيمُ عمليّةِ التّلقيحِ، الشّيوخُ والتعويذاتُ، العطّارون وشتّى الأعشابِ…كلُّ ذلك لم يُفلحْ. حتّى قرّرَ زوجُها الاقترانَ بأخرى، إنْ لم يكن المولودُ القادمُ ذكراً، وقد شاءتْ المصادفةُ أن تظهرَ علاماتُ الحملِ عليها، بفارقِ أيّامٍ قليلةٍ عن أمّي، لتبدأَ عمليّةُ التّوحّمِ المُختصّةِ بالذّكورِ مثلَ الرّغبةِ بتناولِ الموالحِ والمُخلّلاتِ ورقائقِ البطاطا المَقليّة.
وكانتْ تُقلّدُ أمي بكلِّ مُتطلّباتِها ورغباتِها أثناءَ الحَملِ، وكانتا تذهبان معاً لعندِ الدّايةِ أمِّ حمدي للكشفِ والتّأكّدِ من سلامتي وسلامةِ ابنِ جيراننا الافتراضيِّ، الّذي لم ألعبْ معهُ يوماً.
فاجأهُما المخاضُ في ذاتِ الّليلة، وكان لابدَّ من وضعِ أمّي وجارتِها في ذاتِ الغرفةِ، لكي تتمكّن أمُّ حمدي من السّيطرةِ على هذين الحدثين المُتزامنين.
عندما وُلدتُ، كنتُ الوحيدَ بين أخواتي البناتِ الّلاتي لا يُشبِهنَني أبداً…
الظلّ المنهوب
«التّاريخُ يكتبُه الأقوياءُ والمنتصرون»
عبارةٌ مُستهلَكةٌ في جميعِ المجتمعاتِ، ولكنّ الحقيقةَ هيَ أنّ «آخرَ المُنتصرين» هو مَن يُطوّعُه ويكتبُه حسبَ رؤيتِهِ ورغباتِهِ، ليُؤكّدَ للأجيالِ الّلاحقةِ أنّهُ الأقوى. ولايخلونَّ الأمرُ من اختراعِ الأكاذيبِ والأباطيلِ الّتي تؤسّسُ لألوهيتِهِ المُحتَمَلةِ بعدَ أن تضعَ الحروبُ رِحالًها وأثقالَها.
أفترضُ أنّ اليابانَ هي الّتي أوسعتِ الولايات المتّحدةِ ضرباً وقتلاً، وأنّها هي مَن رمى القنبلتين الشّرستين في الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ ، فهل سيكونُ التّاريخُ هو ذاتُه الّذي نقرؤهُ اليوم؟!
أستاذُ التّاريخِ في مدرستنا الثّانويّةِ، كانَ تشكيلاً تاريخيّاً فريداً، بلباسِهِ، وشعرِهِ، وسُبحتِهِ، وخواتِمهِ المُرصّعةِ، حتّى يكادُ مَن يراهُ يظنّهُ هربَ من مُسلسلٍ شعبيّ في القرنِ الماضي.
عندما تحدّثَ عن الغزوِ المَغوليِّ والتّتريّ للبلادِ العربيّةِ، وبخاصّةٍ بغدادَ، وسيولِ الدّماءِ، ومجازرِ الكتبِ، وانتهاكِ المُحرّماتِ، وتخريبِ كلِّ ما وقعتْ عليهِ عينٌ، ووطئتهُ قدمٌ، كانتْ كتلتي الجَسديّةِ تتدرّجُ بالسّقوطِ حتّى وصلَ ركامي إلى أبوابِ غرناطةَ، وكان اكتمالُ الانهيارِ بسقوطِ بغدادَ -خاصرةِ العربِ الشّرقيةِ- مرّةً أخرى بيدِ قوّاتِ التّحالفِ الأميركي في حربِ الخليجِ الثّالثةِ.
ذهبنا مجاميعاً غفيرةً من الشّبابِ، وعبرنا الحدودَ إلى العراقِ كي ندافعَ عمّا تبقّى من كرامتنَا ووجودِنا وانهزامِنا المُتسلسِل منذُ عينِ جالوت.
جَمعنا ضابطٌ عراقيٌّ في دارٍ واسعةٍ، وطلبَ منّا الانتظارَ إلى أن يتمَّ تزويدُنا بالسّلاحِ الخفيفِ صباحاً، حيثُ سنكونُ قوىً رديفةً للجيشِ العراقيِّ في المعركةِ القادمةِ.
استيقظنا صباحاً فلم نجدْ أحداً، إلّا رجلاً عراقياً مُسنّاً، أخبرنا بأنّ جهةً عُليا أمرتْ الضّابطَ وكتيبتَهُ بالانسحابِ ليلاً إلى منطقةٍ أُخرى…
بعدَ أيّامٍ علمنا أنّ الكتيبةَ قد أُبيدَتْ عن بُكرةِ أبيها، وقد وجدوا ظلّي صريعاً بينَ جُثثِ الجنودِ.
ظلٌ لا شرقيٌّ ولا غربي
في أحدِ أيّامِ الجمعةِ، والتي لا أذهبُ فيها إلى معبرِ الموتِ (بستانِ القصرِ) لأتزوّدَ بحاجيّاتي اليوميّةِ، لم يكن في البيتِ سوى نصفِ رغيفٍ من الخبزِ، فكانَ لابدّ من التوجّهِ إلى فرنٍ قريبٍ لأحصلَ على ما يسد الجوعَ.
طابورٌ بشريٌّ مهولٌ يمتدُّ لأكثرَ من مئةِ مترٍ، وفوضىً عارمةٌ على منفذِ بيعِ الخبزِ، وتلالٌ من الرّجالِ والأطفالِ والنّساءِ، يملؤونَ المكانَ بحزنِهم وجوعِهم وظلالِهم المُرهقةِ. وكلّ خمسِ دقائقَ يخرجُ أحدهُم من تلكِ الظّلمةِ عريضَ الضحكةِ، وعلى رأسِهِ إكليلُ غارٍ، وبينَ يديهِ أرغفةُ خبزٍ مقطوعةِ الأوصال.
كان لا بدّ من الدّخولِ في تلكَ المعمعةِ وإلّا سأرجعُ مدحوراً، وبخفّي حنين، وحزنِ أرملةٍ.
مناوراتٌ، تدافعٌ، إصاباتٌ، كدماتٌ، وشتائمٌ تُحلّقُ فوق رأسي، يُفلتُ ظلّي، أمسكهُ، يتمسّك بقدمي، يدوسُهُ الآخرون.. نتألّم معاً..
أكثرُ من ساعتين على هذهِ الحالِ،حتّى تمكّنتُ من الحصولِ على قوتِ يومي منتصراً ببعضِ خبزٍ، ومحفظةٍ مسروقةٍ، وظلٍّ مُمزّق!
كانَ ذلكَ هو ظلّي الثّالث.
الظلّ المُعلّق
في وسائطِ النّقلِ العامّةِ، تتخلّى عن جسدِكَ، وتشكيلِكَ العُضويّ، لتركِ مساحةٍ للأخرينَ، وربّما تقفُ على قدمٍ واحدةٍ، وقد تتلقّى صفعةً طائشةً، أو يُدخلُ أحدهم أصبعَهُ في إحدى عينيكَ، وقد يحتضنُكَ آخرٌ مثلَ عاشِقٍ، ولكنْ لابأسَ، فعليكَ بالصّبرِ حيثُ «سيوفّى الصّابرونَ أجرهُم بغيرِ حسابٍ». كلُّ هذا لكي تُعتبرَ مواطناً صالحاً في الدّنيا والآخرةِ.
السيرفيس والباص يُشبهان إلى حدٍّ كبيرٍ المُعتقلاتِ الضّيقةِ، ولكنّها مُتنقّلةٌ، حيثُ تأخذكَ في رحلةٍ استجمامٍ بين أرجاءِ الدّمارِ، و البيوتِ المُهدّمةِ، وبقايا الظّلالِ السّائلةِ على الأرضِ لبشرٍ مرّوا من هناك، ولكنْ ما يميزها أنّ بإمكانكَ الولوجُ إليها والخروجُ منها متى شئتَ، إلّا أنكَ ستكونُ بحاجةٍ إلى عمليّةِ طلاءٍ جديدةٍ، وحفلةِ تنظيفٍ شاملةٍ عندما تصلُ إلى بيتِك.
اضطررتُ في إحدى المرّاتِ أن أتعلّقَ على بابِ حافلةٍ النّقلِ الدّاخليّ، بقدمٍ على مدخلِ بابِ الحافلةِ، وبيدٍ تُمسكُ جزءاً نابياٌ من بابِها. بعدَ مسافةٍ قصيرةٍ، لم أعدْ أستطيعُ الإمساكَ بالبابِ بل بالرّجلِ المُتأرجحِ أمامي.
في هذهِ المرّة علقَ ظلّي بحلقةِ المفاتيحِ الّتي كانت مُعلّقةً على حزامِ البنطالِ، والّتي فيها مفتاحُ البيتِ والمحلّ الّذي أعملُ فيهِ، ومفتاحٌ نسيتُ لأيّ شيءٍ كان. لقد خشيتُ على ظلّي من الالتصاقِ بأحدِ الرّكابِ، أو أن يختنقَ نتيجةَ الازدحامِ، أو أن يعلقَ بين عجلاتِ الحافلةِ.
عندَ المُنعطفاتِ كنّا نطيرُ جانبيّاً نتيجةَ القوّة النّابذةِ، وعندَ المطبّاتِ نعلو ثم نهوي كأنّها مطبّاتٌ هوائيّةٌ في السّماءِ، وعندما يُريدُ أحدهم النّزولَ من الحافلةِ، كان يضطرُّ أكثرُ من نصفِ الرّكابِ إلى الخروجِ منها، كي يتمكّن زميلُ الحافلةِ المؤقّت من الهبوطِ بسلامٍ…
وأخيراً وصلتُ إلى وجهتي، وقد اضطررتُ أنْ أخرقَ حجابَ الصّوتِ حتّى يتمكّن قائدُ الرّحلةِ من سماعي والتّوقّفِ من أجلي.
نزلت منها كاملَ الجسدِ مع أنّي كنتُ خارجَها، تحسّستُ علّاقةَ المفاتيحِ فلم أجدها.
في ذلك اليوم بالتحديدِ لم أعد بحاجةٍ للمفاتيحِ، فقد فقدتُ بيتي، وطُردتُ من عملي… وكان معلّقاً بها رابعُ ظلٍّ أعرفُه!
تشابه ظلال
كثيراً ما كنتُ أتضايقُ من اسمي الغريبِ، فقد كنتُ بحاجةٍ لتكرارِ لفظِهِ أكثرَ من مرّةٍ، أو كتابتَه على الورقِ حتّى يتمكّن موظّفٌ أو صديقٌ من فكّ طلاسمِهِ وتركيبتِهِ العجائبيّةِ.
لقد أسماني والدي على اسمِ أحدِ أجدادي الغابرين، ربّما كانَ الجدّ الثّامنَ أو التّاسعَ، حتّى هو لا يعلم، ولكنّني كنتُ أسألُ نفسي دائماً: ما الذي يضمنُ لي أنّ ذلكَ الاسم لجدي لم يجرِ عليهِ التّحريفُ والتّغييرُ حتى وصلَ إلى شكلِه الحالي؟ ألا تنطبقُ عليهِ نظريةُ النّشوءِ والتّطورِ لداروين؟ لا يهم، فقد قرّرتْ زوجتي أن تطلقَ عليَّ اسماً جديداً يتناسبُ مع الصّيفِ، وهو «تمّوز» خشيةَ أن يتلقّفهُ أحدُ الكتّابِ، وطبعاً تعرفونَ من أقصد، فيكتبَ بي تقريراً مُجنّحاً يؤكّدُ مشاركتي في تفجيرِ بيروتَ، أو التّلاعبِ في الانتخاباتِ الأميركية المُقبلِة، وربّما اتهامي بإدارةِ شبكةِ مخدّراتٍ أو تجسّسٍ إقليميّةٍ!
كان أمراً مُزعجاً ويدعو لامتعاضي عندما يُحرّفهُ الآخرونَ على مسامعي عن قصدٍ أو دونَ ذلكَ، ولكنّهُ كانَ مفيداً جداً بالنّسبةِ لي في هذه الفترةِ الحرجةِ في بلدي، فلا يُمكنُ أن أسقطَ في متاهةِ «تشابهِ الأسماءِ» لدى الفروعِ الأمنيّةِ، والّتي تضطرُّ لدفعِ مبلغ يُعادل راتباً شهريّاً لموظفٍ لإثبات أنكَ «خلافُ المطلوبِ»، بعد أن تُمضي فترةً تتجاوز الأسبوعين في أحدِ السّجونِ حتّى يتبيّنَ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ، فأنتَ مُتّهمٌ وخارجٌ عن القانونِ حتّى يثبتَ العكسُ.
ولكن خلافاً لتوقّعاتي فقد اكتشفتُ مُؤخّراً أنّ ذلكَ الاسم كانَ فيهِ مسحةٌ كرديّةٌ، وخانَتي فيها لكنةٌ تُركيّةٌ، ووجهي «وجهُ إجرامٍ»، وأهلي يسكنون في أرضِ المُعارضةِ، وأنا في مناطقِ النّظامِ، فبدأتْ تتلقّفني الجهاتُ كافّةً، للتّحقيقِ والتّدقيقِ والتمحيصِ في أصولي وتاريخي وآرائي في برامجِ المُسابقاتِ، ومجلّةِ الشّبكةِ، والفيلمُ الأخيرُ لعادل إمام.
وأخيراً سقطتُ السّقطةَ العجيبةَ.
يبدو أنّ أحدهم يملكُ ذاتَ الاسمِ، مع اختلافِ اسم الأمّ والأبِ والخانةِ وتاريخِ الميلادِ ولونِ العينين والعلاماتِ الفارقةِ وعددِ شعراتِ الرأسِ والإبطين.
تمّ تغطيةُ وجهي بقميصِي المقلوبِ، وزجّي في سيّارة مُصفحةٍ، واقتيادي مع مجموعةٍ من المُتشابهين إلى «الأسفل»، حيثُ القيامةُ والحِسابُ.
تمّت تعريةُ الجميعِ من ملابسِهم، خشيةً علينا من حيازةِ الممنوعاتِ والأسلحةِ الجارحةِ، والأموالِ المُلوّثةِ، وورقِ الّلعبِ، وصورِ الحبيباتِ. كانت تمرّ السّاعاتُ بطاءً، وكأنّها مغللةُ الأقدامِ، وكان الليلُ ثقيلاٌ بحجمِ الشّتائمِ وآثارِ السّياطِ.
خرجتُ بعدَ عشرين يوماٌ كائناً مُختلفاً، بلا قدمين نتيجةَ ضياعِ حذائي، وبلا جيوبٍ لأنّي صرفتُ نقودي على ملذّاتي الشّخصيّةِ، وبلا ظلٍّ…فقد مسحوا بهِ وبكرامتِنا الأرضيّةَ المُلوّثةَ بالدّموعِ.
الظل الأخير
كلّما خرجتُ من علبةِ السّردينِ الّتي أعيشُ فيها، يلتهمُ الغلاءُ وتقلّباتُ الأسعارِ جيوبي، وقدراتي العقليّة على إجراءِ العمليّاِت الحسابيّة..
وما شأني بها حالياً؟!
فالضربُ والتقسيمُ والطّرحُ من اختصاصِ الحكومةِ، أمّا الجمعُ فمن اختصاصِ تجارِ الموتِ التّدريجيّ. أمّا أنا فعليّ أن أُجاهدَ كي أكون سمكةً طيّبةً، خفيفةَ الظّلِّ، وبلا ذاكرة، حتّى لا تقوم جمعيّةُ حمايةِ المُستهلكِ بالحجزِ عليَّ، وتغريمي ثم إتلافي، خشيةً على صحّةِ الآخرين منّي!
منذُ أيّامٍ عدّةٍ، لم يعُدْ أحدٌ من الجوارِ يردُّ تحيّتي، ولم يلتفتْ إليّ أحدٌ مرّ بجانبي، أو أنْ يسألني عن صحّتي وأَخباري، حتّى المُقرّبونَ منهُم، وبخاصّةٍ بعدَ حضورِهم مجلسَ العزاءِ في منزلي، الّذي كانت تتصدّرُهُ صورةٌ مُوشّاةٌ بشريطٍ أسودَ، تُشبهُني جميعاً!