ثلاث قوى تشكل تفاعلاتها خلال العقود الثلاث أو الأربع الأخيرة الشرق الأوسط المعاصر، وتؤثر بقوة على مصير نحو ثلاثمائة مليون من البشر في المنطقة: قوى السيطرة الدولية، أطقم الاستبداد المحدث في بلداننا، والمجموعات الإسلامية ذات المنازع السيادية. وخلال ما يقترب من عقد مثلت سورية شرق أوسط صغيراً، تقاطعت فيه وتشابكت هذه القوى الثلاث، وتسببت تفاعلاتها العنيفة بموجة جديدة من الخراب، غير مسبوقة من أوجه عديدة، من أظهر مستجداتها دور روسيا الأساسي، ثم دور كبير لمنظمات ما دون الدولة التي تولّد أكثرها عن حروب أهلية سابقة أو مستمرة في دول الجوار، ومنها  نظام الحمايتين، الإيرانية والروسية، للسلطنة الأسدية، ومنها ظهور دراكولي للعدمية الإسلامية النافية للعالم، ولعل من أدومها أثراً تحطم الفكرة والمجموعات الديمقراطية عربياً. عرضت سورية في الوقت نفسها تشابكاً نادراً من الحضور الإيراني والخليجي والإسرائيلي والتركي، وكذلك الروسي والأميركي.

ستنظر هذه المقالة في الخطابات المتاحة في شأن القوى الثلاث، قبل أن تظهر أحادية جانب كل منها أو تراجع تمفصلها مع تشابك القوى الفعلي المشكل لمصائرنا خلال عقود. وتعمل من ثم على بلورة تصور للنظام الشرق أوسطي كركيزة لنقد الخطابات وكإطار تحليلي مفسر للأوضاع القائمة في أي من بلداننا، ونقترح في النهاية عناصر تصور لطور جديد من العمل التحرري.

1

تطورت في الأربعين عاماً الماضية ثلاثة خطابات تحررية في المجال العربي: ما بعد الاستعمار، الديمقراطية، والعلمانية. بصورة ما، يستأنف الخطاب ما بعد الاستعماري الخطاب القومي المناهض للامبريالية بعد تعثر القوميات العالم ثالثية، ومنها القومية العربية؛ فيما شكلت الديمقراطية ضرباً من استمرار للتفكير الاشتراكي الذي كان مهيمناً حتى سبعينات القرن العشرين في شروط خصخصة الدولة وتغوّلها؛ ولعل الدعوة العلمانية تستأنف تطلعات التقدم الاجتماعي التي عمّت المثقفين والمناضلين السياسيين بعد الاستقلال في شروط صعود الحركات الإسلامية. وأعني بخطابات تحررية الخطابات التي تسائل تلك القوى الثلاثة وتنازعها الشرعية وتتطلع إلى أوضاع وأفكار مغايرة. على خلفية عقد من «الربيع العربي»، يظهر عدم كفاية متفاقم للخطابات الثلاث، وبالارتباط مع ذلك تراجع كوامنها التحررية، والحاجة إلى رؤى وزوايا نظر مختلفة.

ورغم أن الخطاب ما بعد الكولونيالي ظهر على يد مثقف عربي بصورة ما، إدوارد سعيد، فإن الإنتاجية العربية من هذا الخطاب لا تكاد تذكر، ليس قياساً إلى الأكاديميا الأميركية التي لا يزال الخطاب ما بعد الكولونيالي حاضراً بقوة فيها، ولكن كذلك إلى ما أنتج في الهند وأميركا اللاتينية. لم يبقَ الخطاب كما هو في أي منها، بل يحدث أن يقال إنه صار من عدة ما قبل الأمس (غايتري سبيفاك)، أو اندرج كعنصر في مركب خطابي أوسع، يشمل قضايا العنصرية والبيئة والنسوية والنضال ضد الرأسمالية، كما في أميركا اللاتينية. حياة الأفكار هي إخصابها وتهجينها واختلاطها بغيرها، على ما كان يمكن أن يقول إدوارد سعيد ذاته. لكن في كل أشكاله ظل خطاب ما بعد الكولونيالية في مجالنا عنواناً دون محتوى معلوم يمكن النظر فيه.

ينبغي لذلك أن يكون مستغرباً بالنظر إلى تجدد الشرط الكولونيالي في الشرق الأوسط بفعل الواقعة الإسرائيلية: استعمار استيطاني إحلالي مدعوم من المراكز الكولونيالية السابقة ذاتها؛ ثم بفعل وقوع الخليج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ضمن نطاق الأمن القومي الأميركي بوصفه مصدراً للنفط أساساً، ثم كسوق استهلاك نهمة لصناعات البلدان المتقدمة، بما فيها السلاح؛ ثم في الثلاثين عاماً السابقة لكون الإقليم المسرح الرئيس لـ«الحرب ضد الإرهاب». هذه الأخيرة ليست حرب تعذيب فقط مثل الحروب الكولونيالية كلها، ولكنها مضخة هائلة للعنصرية كذلك، وتحوز مفعول البومرانغ الذي كانت تكلمت عليه حنة آرنت بخصوص تأثير راجع للامبريالية على المراكز الامبريالية ذاتها. قد يقال أو لا يقال إن الإرهاب إسلامي، لكن الإسلاموفوبيا والنزعة الحضاروية والتفوقية البيضاء تشكل مع الحرب ضد الإرهاب مركبا أمنياً سياسياً ثقافياً، يمكن التفكير فيه كارتداد نحو المركز لهذا الضرب المغاير من الكولونيالية. وتجنح الإسلامية العدمية والعنيفة إلى أن تشكل مع الإسلاموفوبيا وتعبيراتها المتفاوتة العدائية ما قد يصح تسميتها بالمسألة الإسلامية، إحدى كبرى مسائل العالم المعاصر.

الواقعة مستغربة، بعبارة أخرى، لكون النظام الشرق أوسطي هو شكل استمرار وتجدد للعلاقات الاستعمارية التي تقوم على الاستثناء، وعلى القوة التي قد تأخذ شكلاً تعذيبياً، وعلى الاستيلاء و«التراكم الأولي»، وعلى مبدأ فرِّق تسدْ، مما تشكل سورية مثاله الأبرز ومآله الأكثر مأساوية.

بيد أن شرح واقعة محدودية انتشار خطاب ما بعد الاستعمار غير مستعصٍ في الواقع. فقد شهدنا منذ سبعينات القرن العشرين صعوداً لأشكال متوحشة من الطغيان الدولتي، دفعت أنبه المثقفين المحليين إلى تطوير خطاب الديمقراطية المناهض للطغيان والمدافع عن الجمهور المطرود من السياسة وعن جدارته وحقوقه. تركب خطاب الديمقراطية مثلما ظهر في سورية على الأقل في ذلك على خطاب ماركسي قومي عربي، يتلازم فيه النضال الاشتراكي بالنضال القومي وفقاً لصيغة لياسين الحافظ في مطلع ستينات القرن العشرين. كانت الاشتراكية تضرب الركائز المحلية للسيطرة الامبريالية، وفق تحليلات ذلك الزمن، وتزيل العوائق أمام التقدم. وهذا كان يعني عدالة اجتماعية أكبر، وتطوراً تكنولوجياً، وتفتحاً اجتماعياً وازدهاراً ثقافياً. الخطاب الديمقراطي ظهر في سورية في النصف الثاني من السبعينات في إطار يساري معارض لنظام حافظ الأسد الذي كان يحقق قفزات متسارعة في الإبادة السياسية، فكان له بعد نضالي منذ البداية، واقترن بالفعل بتجارب الاعتقال والتعذيب والسجن. في وقت لاحق فقط، وبعد سقوط المعسكر الشيوعي، وكان الطغيان الدولتي قد تفوّق على نفسه في إلغاء الحياة السياسية في سورية والعراق وليبيا، وبقدر أدنى قليلاً فحسب في مصر وتونس والمغرب، فضلاً عن دول الخليج كلها، صاغ خطاب الديمقراطية نفسه بلغة الحريات العامة وحقوق الإنسان ودولة القانون، أي على أرضية ليبرالية.

كان الخطاب القومي العربي التقدمي، في الصيغ الناصرية والبعثية، هو الأقرب إلى التمفصل مع الواقعة الاستعمارية وأشكال استمرارها. ديناميكية التدهور التي لحقت به بعد حرب 1967 لا تعود إلى هزيمة حزيران من ذلك العام فقط، وإنما أساساً إلى أن الدول التي كانت تتبنى هذا الخطاب هي ذاتها التي شهدت أشنع أشكال الطغيان الدولتي، وتطفيل المحكومين على يد آباء عظماء في عين أنفسهم وأتباعهم مثل حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، ممن كانوا لا يتورعون عن جريمة. وهذا دون اعتراض يذكر من قبل الدعاة القوميين الذين تفرقت تبعياتهم على هذا النظام أو ذاك. في الوقت نفسه كان للخطاب الشيوعي المناهض للامبريالية والرأسمالية حضور مهيمن حتى سبعينات القرن العشرين، وربما معظم الثمانينات، ولن ينحسر بالتدريج إلا بعد تفكك «المعسكر الاشتراكي». ولعل حضوره أغنى عن الاهتمام بخطاب ما بعد الكولونيالية، الذي يأخذ، عند إدوارد سعيد على الأقل، على الماركسية ذاتها تمركزها الأوربي، فضلاً عن استعارته أدوات فكرية مرتابة بفكر التنوير والعقلانية الديكارتية. وحيث استمر الخطاب الشيوعي التقليدي، فقد عرض تحجراً فكرياً متفاقماً، وكان قليل الحساسية حيال تطورات العقود المنقضية، غير قادر فوق ذلك على التفكير في تاريخه الخاص وتبعياته الخاصة.

يصح القول بالمحصلة إن موقع خطاب ناقد جذرياً لنظام السيطرة الدولية، ومتقصٍ لتحولاته، جنح لأن يكون شاغراً في الكتابة العربية. هناك تعليقات نقدية عند كتاب ومثقفين كثيرين، لكنها لا تشكل خطاباً. وهناك الخطاب المناهض للامبريالية الذي أنتجه غربيون، من أمثال تشومسكي، وقد كان له رواج لافت بعد نهاية الحرب الباردة، لكنه مركزي غربي بقدر كبير، وامبريالي هو ذاته: يجري إلحاق الصراعات المختلفة بصراع كبير ضد الامبريالية، لا يخوضه من يتكلمون عليه. هذا ظهر بخصوص الثورة السورية بخاصة. هذا حين لم يبلغ بعض الدعاة، مثل ماكس بلومنتال وتيم أندرسون، ردها إلى مشروع امبريالي لـ «تغيير النظام». لا يبدو أن الجماعة يتصورون تغييراً للنظام إلا بإيحاء من الألوهة الأميركية القادرة على كل شيء.

بحكم تمركزه حول التجربة الاستعمارية، ليس خطاب ما بعد الاستعمار، والمقصود بالمناسبة ما بعد بدء الاستعمار وليس ما بعد انتهائه أو نزعه، منيعاً على استثمار قومي أو أصلاني، لكن في ما ألهمه من توجهات بحثية في الهند وأميركا اللاتينية كان متشككاً بقدر كاف بالنخب القومية التي سادت بعد نزع الاستعمار، وهذا يفرقه عن الخطاب المناهض للامبريالية الذي كان يعول بالأحرى على القوميات العالم ثالثية. ويعود هذا التشكك إلى أن خطاب ما بعد الاستعمار ظهر بعد جيل من الاستقلال وحكم نخب قومية، وهذا خلافاً لخطاب مناهضة الامبريالية التقليدي الذي ظهر في الحقبة الكولونيالية، ووجد في القوميات العالم ثالثية حليفاً طبيعياً. الفارق المهم الثاني بين الخطابين أن مناهضة الامبريالية هي تفكير أبوي ومن فوق، من نخب مضادة للامبريالية في المركز أو من الحركات القومية في الهوامش، وليست شعبية. خطاب ما بعد الاستعمار ليس شعبياً بدوره، هو في الواقع تيار فكري وأكاديمي، لكنه ملهم للربط بين نضالات متنوعة، نسوية وبيئية ومضادة للعنصرية، تربط بين شركاء من خلفيات متنوعة.

هذا لم يحدث لدينا. بالعكس بدا أن نقد إدوارد سعيد للاستشراق، وهو العمل الذي أسس لخطاب ما بعد الاستعمار، يبلسم النرجسية الجريحة لمثقفين عرب كانوا يخبرون تداعي القومية العربية، وأخذوا يجنحون باتجاه إسلامي وأصلاني. الاستمرار محقق، ما دام الخصم هو ذاته، أي الغرب الرأسمالي الاستعماري. هذا الشرط سهل امحاء الحدود بين أصلانيتنا (nativism) والأصولية الإسلامية.

كان الخطاب القومي التقدمي العربي قد انشق بين سبعينات وثمانينات القرن العشرين إلى شعبتين، الشعبة الديمقراطية التي كانت منخرطة سياسياً وناضلت ضد أنظمة الطغيان الصاعدة، والشعبة العلمانية التي تكرست لمواجهة فاعل اجتماعي وسياسي صاعد بدوره، الإسلام السياسي. العلمانية مثلما صاغ دعواها عزيز العظمة مثلاً هي انحياز للعقلانية ضد اللاعقلانية وللعلم ضد الخرافة والدين، وللحداثة ضد القدامة بلغة جورج طرابيشي. وكان هذا انشقاقاً عميق الأثر في واقع الأمر. فبقدر ما يجري التركيز على وقائع التغييب السياسي والدكتاتورية والقمع والسجون، سيظهر الإسلاميون كخصم في أسوأ الأحوال وليس كعدو، وكسند محتمل من أجل التغيير السياسي في أحسنها. وبالمقابل، إذا كان «الإسلام السياسي» هو العدو، وكان صراعنا الأهم هو الصراع من أجل العقلانية والحداثة والتنوير معرّفة بالضدية مع الإسلامية، فإن «الدولة» هي من سيجري التفكير فيها كخصم في أسوأ الأحوال وفي الغالب كحليف محتمل، أو كمتراس ضد «الصعود الأصولي». المشكلة أن «الدولة» لم تكن تعرض استعداداً متطوراً للتعذيب والقتل فقط، ولا تصير مضخة لعلاقات الاستتباع والتطييف فقط، ولا تجسد ضربا من اللاهوت السياسي القائم على الأبد فقط، وإنما تؤهل عبر ذلك كله الظروف لأن يكون الإسلاميون حصراً هم المعارضة النوعية لها.

2

ومهما يكن ما يقال أو ما يمكن أن يقال في شأن هذا الانشقاق اليوم، أو منذ تسعينات القرن الماضي وقت أخذت تتبدى بوضوح أكبر مغازي الجدال، فإن هناك شيئاً مهماً لم يقل، يتصل ببيئة النقاش ونطاقه. كان عدد المنخرطين في النقاش محدوداً جداً، يكاد المرء يعد من لديهم أفكار متميزة بقدر ما، وهو من مرتبة العشرات أو المئات القليلة في النطاق العربي ككل. وفوق قلة عددهم، هم أفراد عصاميون حتى حين يكونون أكاديميين، أعني أن الأكاديميات قلما كانت سنداً لهم في عملهم الكتابي والبحثي. ظل العمل الفكري فردياً بصورة مطلقة في كل مراحله، يقع على المنتج الفرد. وهذا أبقى نقاشنا فقيراً، محدود التطور، ولعله أبقى الافراد المفتقرين إلى سند مؤسسي في حاجة إلى التماس سند إيديولوجي يُعرِّفون أنفسهم به. لو تخيلنا بيئة نقاش وتفكير ينشط فيها ويتجادل الألوف وعشرات الألوف، وتنشر جدالاتها في المجلات والصحف، وتكون الجامعات مساحات للتداول في جوانب منها، لكان المشهد أغنى بكثير وأكثر تعقيداً. ولتطورت على الأرجح تصورات أغنى بالكوامن بالتحررية لكل من الديمقراطية والعلمانية. ولخطاب ما بعد الكولونيالية كذلك.

وفاقم من مراوحة تطورنا الفكري في مكانه تضيّق قاعدة التكلم بلغات أجنبية، وصعوبة الحصول على كتب لأسباب مادية وأمنية معاً، ومشكلات المنع من السفر في دول كانت تصير سجوناً أكثر وأكثر، وغيابنا الواسع عن النقاش العالمي. لقد لعبت الشروط السياسية الخانقة دوراً في خنق التفكير النقدي بقدر لا يمكن المبالغة في مداه. ليس هذا حال الهند لا من جهة اتساع قاعدة الكلام بأكثر من لغة، وانتشار تعليم الإنكليزية، ولا من حيث حياة سياسية غير خانقة، ولا من حيث مشاركة المثقفين الهنود في النقاش العالمي. وليس هذا حال أميركا اللاتينية في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، حيث تراجعت القيود السياسية واتسعت مساحات النقاش وتعقد محتوى التفكير واغتنى.

لقد خبرنا في الشرق الأوسط العربي عملية ترثيث طوال ما ينوف على نصف قرن إلى اليوم، تتعاكس مع ما تكلم عليه نوربرت إلياس من عملية تحضيرية (أو تهذيبية) جرت في أوروبا الغربية بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر. سيجري تناول العملية الترثيثية في تناول مستقل. لكن يعنينا في هذا السياق ما يظهر اليوم من أننا نخبر عملية تدهور وترثيث بقيادة الدولة، مع انتشار العنف في الحياة اليومية ومع تضيّق نطاق التفاعلات الاجتماعية وترابط الجماعات والأفراد، صعود نزعة محافظة ريفية البنية، وفرت بيئة استقبال لتسلّف اجتماعي صعد في تسعينات القرن العشرين وبعد. هذا بينما أخذت قطاعات متسعة من مجتمعاتنا تفتقر مادياً، فوق إفقار سياسي شامل، وفوق تزايد سكاني وتدهور التعليم. ولعل تريُّع الاقتصاد، حتى في دول غير نفطية، لعب دوراً مهماً في العملية الترثيثية التي لم تمنع في بلد مثل سورية شهد ترثيثاً متقدماً أن ينسب نظامها لنفسه ضرباً من «رسالة تحضيرية» من الصنف الاستعماري، كمتراس علماني ضد الإرهاب. بلغنا هنا أعلى مراحل كولونيالية السلطة، إن استعرنا من أنيبال كويهانو.

كانت القومية العربية المناهضة للاستعمار، وقد أخذت بالظهور في ظل الاستعمار ذاته، قد استفادت من شروط سياسية أقل قسوة وغير معادية لحرية التعبير إلى هذا الحد، ومن شروط حضارية أقل تدهوراً فوق كونها أغنى بالوعود، وهذا بفعل نشوئها في ظل ضرب من اندراج ليبرالي في العالم، وإن ظل محدوداً بفعل الواقعة الاستعمارية. الدعوتان الديمقراطية والعلمانية لم تستفيدا من شروط مماثلة، ولا ما بعد الكولونيالية.

وعلى هذا النحو عشنا فكرياً خلال ما يقترب من أربعة عقود على عتاد فكري كان استيعابه للواقع متراجعاً وتقل ملاءمته النوعية لما يستجد ويتغير. لعل من القسوة وصف تفكيرنا المستقل بالرثاثة، لكن كان من شأنه أن يكون أكثر تركيباً وأغنى لولا الترثيث المتقدم خلال جيلين لمجتمعات فتية.

والنقطة المهمة في سياق تناول خطاباتنا التحررية هي أن الشرق الأوسط هو إطار العملية الترثيثية، بخاصة إن فكرنا في الترييع أولاً، ثم في التسلُّف الذي شغلت السعودية موقع «الإقليم- القاعدة» له (مثلما كنت مصر الإقليم- القاعدة للوحدة العربية بحسب نظرية نديم البيطار). أسهمت الريوع النفطية في تحجر الاجتماع السياسي الخليجي، وفي تعزيز استقلال الدول بحياة خاصة عن المجتمعات في غير الخليج (وفي الخليج ذاته)، مع انخفاض شديد لعتبة لجوئها إلى العنف. هذا بينما كان لمسلسل الانتصارات الأميركية الإسرائيلية في المنطقة مفعولاً مرضضاً نفسياً بقوة، مقوضاً للثقة بالنفس وباثاً لليأس. حال الشرط الكولونيالي المستمر والمتجدد دون تمثل الغرب، جهة الحضارة في الأزمنة الحديثة، وبالعكس، ما تولد عن يأس من هزائمنا أمام الغرب المتحضر كان مقوضاً للهمم، ودافعاً إلى التمسك بعتادنا الأصلي على علاته. الإسلامية لقيت تحفيزاً من هذا الشرط العضال كقوة اعتراض من نوع ما. يمكن التساؤل عما إذا لم تكن السلفية الجهادية، وهي رثاثة مقاتلة أو «مديرة للتوحش»، هي حركة استقلال في مجتمعات لم تعرف بنية وطنية للدولة والسياسة، أو تدهورت بنيتها الوطنية بشدة. وأياً يكن الأمر، يبدو أن العملية الترثيثية وفرت بيئة حياة صالحة للإسلامية، وأصلح للسلفية تحديداً.

الإسلامية مترابطة شرق أوسطياً، ليس عبر الروابط بين المجموعات الإسلامية العربية، ولا عبر الروابط التركية المستجدة، أو الروابط الإيرانية الأقدم، وتحديداً الروابط العضوية مع الإسلامية الشيعية، ولكن أساساً عبر تجسيدها، السنية منها بخاصة، ما يفترض أنه بديل إسلامي عن الشرق أوسطية، خلف البديل القومي العربي. كانت الإسلامية المعاصرة ظاهرة ما بعد كولونيالية بامتياز، من حيث أن الكولونيالية عززت بقوة ما هو سياسي في الإسلام، في مسعى دفاعي يختزن في الأصل ماضياً امبراطورياً. الإسلام السياسي نتاج هذه العملية. وفي طور لاحق ظهر الإسلام السيادي، المنازع للدولة «السيدة» الحديثة، العاجزة عن الحرب والسيدة فقط في مواجهة محكوميها. وبأثر التسييس و«التسييد» تبدو محصلة الإسلامية حيال ما يقترب من قرن إلى اليوم تجفاف روحي وأخلاقي شديد لمجتمعاتنا، ومساهمة في العملية الترثيثية وانتفاع منها. تجتذب الإسلامية أشخاصاً نالهم الترثيث لأنها توفر «علماً» سهل المنال، وكاتالوغاً بسيطاً للحياة في عالم معاصر معقد، يشعر فيه أكثرنا بالحاجة إلى كاتالوغ لاستخدامه. لا تنتج الإسلامية الرثاثة حتماً، ما دمنا نجدها تعم بيئاتنا المختلفة في سورية، لكنها تثبت ما تحقق من تدهور، وترفع الخشونة وتدني التهذيب إلى مستوى فضائل دينية. السلفية الجهادية بالتحديد معرض مستمر للرثاثة المقدسة والقبح المقدس، إن حاكينا تعبير أوليفيه روا عن «الجهل المقدس»، المتجسد إسلامياً في السلفية. اختزان الإسلامية لخبرة الترثيث، وتكوين السيادية منها العنيف والفظ، يجعلها خزاناً للرثاثة ومضخة لها.

لقد ظهرت مفاعيل الترثيث في صور تفوق التوقع بعد الثورة السورية.

3

خلال هذه السنوات الطويلة حدثت أشياء مهمة. تكرست أرجحية إسرائيلية في المجال العربي ككل، وبسند أميركي مذهل في شدة رعايته. صار من شبه المنسيات اليوم ما كان يقوله الأميركيون حتى ثمانينات القرن من ضمان تفوق إسرائيل العسكري النوعي على الدول العربي مجتمعة. وهو ضمان كان ترجم إلى ذراع طويلة ضربت فيما بين العراق وتونس. وفي الداخل الإسرائيلي سارت بنجاح وثبات عملية تحضيرية لمصلحة اليهود، بمن فيهم الشرقيون: مداخيل ترتفع، مدارس وجامعات متقدمة، حريات مدنية وسياسية، احتكار الدولة للعنف (حيال اليهود وليس الفلسطينيين، حيث يشاركها المستوطنون)، تقدم تكنولوجي، قوة عسكرية مجربة؛ وبموازاة ذلك عملية خنق وترثيث وإبادة سياسية للمجتمع الفلسطيني. ونخر الفساد والطغيان والتمييز العالم العربي، وفقد القدرة على مقاومة سيطرة القوى المستعمرة القديمة والجديدة. واستمر تواتر الحروب الكبيرة مرة كل عقد، وتشكل النظام الشرق أوسطي على إيقاعها وبفعلها. وحوفظ على سلامة السلسلة النفطية التي كان مبدأ كارتر قرر أن من حق أميركا التدخل في الشرق الأوسط إذا تعرضت لتهديد. والعوائد الريعية للنفط التي أودعت في البنوك الغربية أو مولت استهلاكا تفاخرياً مفرطاً، وجد قسم منها سبيله إلى إراحة ضمائر متعبة في الخليج لأنها وجدت في متناوله كثيراً من المال دون تعب، وذلك عبر التبرع بالمال لـ «الجهاد» الدولي، الذي كان انطلقت موجته الأولى في مطلع الثمانينات من أفغانستان.

في مطلع التسعينات السابقة سقط الاتحاد السوفييتي ومعسكره، وعلى الفور تقريباً صار «الإرهاب الإسلامي» هو العدو في أميركا والغرب. وبالفعل ظهرت أشكال عدمية من العنف المُشرّع إسلامياً، أخذت تضرب عشوائياً في العالم وتتلقى الضربات، وخاصة بعد 11 أيلول 2001، ثم في موجة متجددة بعد ظهور داعش عام 2013. نتكلم على عدمية إسلامية لأنه لا يبدو أن هناك شيئاً صحيحاً في العالم في نظر هذه الإسلامية إلاها هي، فلا أصدقاء ولا حلفاء، ولا قضية تصاغ بلغة مشتركة مع أي آخرين، وهذا مع مخيلة وذاكرة امبراطوريتين، تلغيان أي مفعول تحرري لمقاومة الامبريالية المعولمة عبر إدراجه في حساب امبرياليتنا الخاصة. كانت العولمة قد شكلت إطار انتشار للعدمية الإسلامية (مثلما شكلت الامبراطورية الرومانية إطار انتشار للمسيحية)، وكذلك لأمننة السياسة التي كان يتراجع بعدها الاجتماعي بعد سقوط الشيوعية. الحكومات، حتى المتخاصمة، تتبادل المعلومات والتقارير فيما بينها، وتطور مصلحة أمنية مشتركة. وهذا بخاصة مع ظهور العدمية الإسلامية، هذا الضرب من امبريالية التابعين التي استعرضت طاقاتها الإبادية غير مرة في الغرب وفي منطقتنا. كانت أمننة السياسة مبتدأ صيرورة أخذت الدول في منطقتنا تتحول بأثرها إلى وكالات لمكافحة الإرهاب، على نحو ما تعرفه الحكومات الأميركية والإسرائيلية، ثم اليوم الروسية والهندية والصينية وفي كل مكان تقريبا من العالم. وبعد أن كان الحكم الأسدي مثلاً يتحفظ على مفهوم الإرهاب حتى تسعينات القرن الماضي ويطالب بمؤتمر دولي لتعريف الإرهاب، صار يوسع مفهوم الإرهاب مزايداً على إسرائيل والقوى الغربية، لكن واضعاً نفسه في صف واحد معها كمحارب للإرهاب الإسلامي.

الشرق الأوسط تحول عبر هذه العقود، والحروب والعمليات الأمنية، من منطقة تقع شرق شرق أوروبا، أو بين شرق أوروبا وشرق آسيا، إلى نظام إقليمي يقوم على استثناءات كثيرة: استثناء لإسرائيل من القانون الدولي، استثناء للسكان في منطقتنا من السياسة، واستثناء للدولة من السيادة في بعدها الخارجي، واستثناء الإسلامييين لأنفسهم من نظم الحقوق والسياسة في العالم المعاصر، واستثناء لمجتمعات العرب المسلمين من الإنسانيات (لمصلحة عتاد ثقافوي عنصري ورث، من أبسل مروجيه بعد الثورة السورية الشاعر أدونيس).

4

بنظرة عريضة، يبدو تاريخ الشرق الأوسط خلال الأربعين سنة الماضية تاريخاً من الحروب والطغيان والفساد واستدخال التمييز على الصعيد الدولي إلى داخل المجتمعات والتسليم بمنطق الحرب ضد الإرهاب. إنه تاريخ من تدهور مادي وحضاري للأكثريات الاجتماعية وصعود أوليغاركيات ذات كمون فاشي. وبفعل الهدر الهائل في الموارد والحياة البشرية، أخذت تظهر أشكال من الفقر والهامشية كان بدا أننا في سبيلنا إلى تجاوزها بين خمسينات القرن الماضي وسبعيناته.

ومع تجدد ثم تعزز الشرط الاستعماري، وشرط الطغيان الدولتي، والإسلامية السيادية والعدمية، أخذت الخطابات حولها تبدو غير وافية بالغرض، نظرياً وعملياً. يفوتها الربط التحليلي بين القوى والقضايا والمضمون التحرري في آن. ويفوت بطبيعة الحال العمل المشترك من أجل التحرر في الإقليم الذي هو أحد أسوأ بؤر السيطرة والتمييز والفساد والعنف في عالم اليوم. هذا الواقع ظهر بأجلى صوره بعد الثورات العربية، فلا نجد بمتناولنا أدوات تحليلية تتيح التفكير في حقل القوى الشرق أوسطي الذي يظهر أكثر وأكثر كوحدة تحليل لا مناص منها. وما في المتناول من أدوات، الخطابات الديمقراطية والعلمانية وما بعد الكولونيالية، تعطي صوراً جزئية ومتراجعة الصلاحية عن ديناميكيات الراهن وتفاعلاته.

ومن شأن الاكتفاء بالخطابات المنتقدة هنا بعد العقد الذي امتزجت فيه الثورات بالكوارث، لكن تجلّت فيه بنية النظام وترابط القوى المكونة له، أن يكون مساهمة في إنتاج الغياب لا في مقاومته. الخطاب ما بعد الكولونيالي يقول القليل أو لا يقول شيئاً عن الطغيان الدولتي وعن العدمية الإسلامية. إشكاليته المُعرِّفة تشده أكثر إلى المؤسسات والخطابات والممارسات الامبريالية والاستعمارية، والغربية منها بصورة حصرية. روسيا والصين خارج نطاق هذا الخطاب. وبحكم إشكاليتهما المعرفة لا يكاد الخطابان الديمقراطي والعلمانية يقولان شيئاً مهماً عن استحالات الشرط الكولونيالي المتجدد. وقد تقدم القول إن تثبت الخطاب العلماني على منازعة الإسلامية يجعل الطغيان الدولتي غير مرئي، وأن تثبت الخطاب الديمقراطي على منازعة الطغيان الدولتي يقلل من شأن العدمية الإسلامية. وجدنا أنفسنا في سورية بالذات مزودين بأعتدة خطابية تجزئ الواقع، ولا تستجيب بمرونة لتغيرات عاصفة في مساحة حضور وفعل القوى الثلاثة معاً.

وبينما لا ينطبق الإغفال بالضرورة على المنسوبين الأفراد إلى هذا الخطاب أو ذاك، فإن الإشكالية المعرفة لكل منها لا تسمح برؤية شيء إلا بأن تغيب غيره. يشار إلى الاستبداد في العالم العربي أو إلى الإسلامية كبطريركية ومحافظة في خطاب إدوارد سعيد مثلاً، أو نجد اعتراضاً على الاستعمارية المتجددة ونقداً للإسلامية عند الديمقراطيين، أو بعض تحفظ على طغيان الدولة عند من يعرفون أنفسهم بالعلمانية. في كل حال هناك ترجيحات خطابية وليس حتميات خطابية، وهناك هوامش حرية للكتاب حيال خطاباتهم، تحيل إلى سيرهم الخاصة وتجاربهم وحسهم الشخصي بالعدالة وما تتحلى به أذهانهم من مرونة وفطنة. نحتاج إلى تجاوز هذه الخطابات من أجل توسيع حقل الرؤية ومقاومة أنجع للغياب وهياكل التغييب. ذلك أن المفعول النوعي للقوى الشرق-أوسطية الثلاثة هو التغييب، أو إنتاج الغياب، الذي قد يأخذ شكل تغييب فعلي في السجون أو حيث لا يُعلم، لكن على أرضية بنية أوسع للغياب تتمثل في أشكال من الإبادة السياسية، ومن تغييب الذِّكْر أو النسيان من التاريخ، ومن إنكار الأهلية أو الإيجنسي. ولا يبدو الغياب نتاجاً عارضاً لهذه القوى، بل هو بنيوي، وثيق الصلة بتكوينها المعادي للديمقراطية الذي يرهن إنتاجها لنفسها بإنتاج غياب غيرها، بخاصة من عموم السكان الذين يبحثون عن حياة ومعنى. القوى الاستقلالية التي يمكن أن تعرف نفسها بالحضور والظهور يمتنع أن توجد دون صراع ضد قوى التغييب. الأرجح أن العملية طويلة، بالغة المشقة وعالية الكلفة.

5

ما يمكن أن يكون ركيزة تحليلية لخطاب تحرري جذري هو مفهوم النظام الشرق أوسطي. الشرق الأوسط كإقليم يشمل الدول العربي الآسيوية، الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، ومصر. ومنه طبعاً إسرائيل، «دولة الشعب اليهودي»، على ما يقول قانونها الأساسي الذي أصدر عام 2018. وقد يجري أحياناً توسيع الإقليم ليشمل المجال العربي كله، مع تركيا وإيران وأفغانستان. لكن الشرق الأوسط نظام دولي فرعي، تجنح إلى الاندراج فيه بالطريق العنيف، النوعي للشرق الأوسط، كل من إيران وتركيا، فيزيد السكان بنحو 170 مليوناً ليقترب المجموع من نصف مليار شرق أوسطي.

النقطة المهمة هنا هي أنه بينما تقع الولايات المتحدة خارج الإقليم فإنها لا تقع بحال خارج النظام. ولا روسيا اليوم. والنظام فضاء استثناء مثلما تقدم، متكون حول احتكار إسرائيل للحرب في المنطقة، واحتكار الدول المنقوصة السيادة في منطقتنا الحرب في أراضيها حصراً، أي فلسطنة محكوميها، واللاديمقراطية الجوهرية أو طرد عموم سكان الإقليم ما عدا اليهود من السياسة. وهذا مع ضرب من كفالة غربية ثم اليوم روسية للحربين، لا يناقضها مثلاً ما نراه من محاصرة غربية للحكم الأسدي في سورية. ليس هدف الضغوط الغربية الممارسة اليوم على النظام سلوكه حيال محكوميه بل حيثيته الإيرانية. الحفاظ على الأجهزة الأمنية، الطليعة القاتلة للحكم الأسدي، هو نقطة إجماع غربية روسية.

والكلام على نظام شرق أوسطي لا يعني توافقاً أو ترتيبات، علنية أو سرية، ولا يستبعد توترات شديدة أو حتى صراعات عنيفة، لكنه توزيع لعلاقات القوة، يتوافق مع دوام الركائز الثلاثة المشار إليها للتو. الاستقرار قيمة عليا في المنطقة، وهي تعني عموماً استقرار النظم الحاكمة.

وقد نميز في تاريخ الشرق الأوسط بين ثلاث مراحل أو أربعة. مرحلة التشكل بعد الحرب العالمية الثانية: سايكس بيكو، وعد بلفور، البترول وامتيازاته، وتشكل دول الخليج وحمايتها من قبل البريطانيين ثم الأميركيين، وصولاً إلى استقلال الدول العربية حديثة التشكل وإقامة إسرائيل في عام 1948. المرحلة الثانية هي مرحلة الصراع وصعود القومية العربية واستمرت لما بين ربع قرن وثلاثة عقود، بين مطلع الخمسينيات وحرب 1973 أو الثورة الإيرانية عام 1979، وانتهت بهزيمة العرب سياسياً وعسكرياً، وبالصدمة النفطية الأولى وصعود الدول النفطية المدرجة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في نظام الأمن القومي الأميركي. والمرحلة الثالثة هي مرحلة النفوذ الخليجي والسيطرة الإسرائيلية ودول الأبد والإبادة السياسية في المجال العربي وصعود الإسلامية بعد الثورة الإيرانية. ولعله يمكن الكلام على مرحلة رابعة أعقبت احتلال أفغانستان والعراق وضرب من عودة الاستعمار إثر عملية 11 أيلول الإرهابية في نيويورك وواشنطن. الفاعل الأساسي المرحلة الأولى هو المستعمرون الأوربيون. في المرحلة الثانية القومية العربية وإسرائيل. أما في المرحلة الثالثة فالفاعلون الأبرز في المجال العربي هم إسرائيل ودول الريع في الخليج، وبخاصة السعودية. والفاعل الأساسي في المرحلة الرابعة هو من جديد قوى استعمارية، أميركا، ومعها اليوم روسيا، ودوما إسرائيل. الإسلامية ظهرت كقوة شرق-أوسطية في المرحلة الثالثة، وبينما ظهرت أشكالها الأشد توحشاً في المرحلة الرابعة، فإنه يبدو أن شكليها كليهما، العدمي السيادي السلفي والتبعي السياسي الإخواني، في أزمة وانحدار.

جاءت الثورات العربية في هذه المرحلة الرابعة، حيث حاولت قطاعات واسعة من السكان التمرد على حكم الإبادة السياسية، لكنها ردت على أعقابها بقسوة متناهية. نهاية الشرق الأوسط كفضاء استثناء وإبادة سياسية لا تتحقق دون التخلص من الحكم بالإبادة، بما في ذلك الصهيوني، ودون الدخول العام في السياسة. هذا ينفتح على أفق ديمقراطي أو على أفق إبادة. كلما تعثر ارتياد الأفق الديمقراطي كان انفتاح أفق الإبادة احتمالاً أقوى. نحن سلفاً فيه.

تطلعات الحرية والعدالة ليست مما يمكن أن تزول من أفق التفكير والتخيل، لكن هذا الجدول يصير أكثر وأكثر شرقأوسطياً.

أظهرت الثورة والحرب السورية في آن ترابط القوى الثلاث، الطغيان الدولتي والإسلامية العدمية والاستعمارية المتجددة، ووحدة النظام وطاقته الإبادية. رأينا الوجه الإبادي للطغيان الدولتي، ورأينا الإسلامية في وجهيها السيادي والسياسي، ورأينا الأميركيين والروس والإسرائيليين كقوى سورية وشرق أوسطية، ورأينا دول الخليج ودور الريع والشبكات السلفية، وإيران وأدواتها ومطامحها الإمبراطورية، وتركيا وأتباعها ونزعتها التوسعية وطفْح حربها الأهلية إلى حربنا السورية. لقد رأينا الشرق الأوسط كنظام.

هذا يضفي على الصراع السوري صفة شرق أوسطية وعالمية كنا بغنى عنها، لأنها تتجاوز بقدر كبير طاقتنا السياسية والفكرية. لكن بما أن هذا ما حصل ويحصل، فلا بد من إيجاد طرق ما لملاقاته. لعل شرطنا الشتاتي اليوم يجد طرقاً لاستجابة خلاقة لهذا التحدي.

يعول على نظرية في النظام الشرق أوسطي أن تظهر ترابط القوى الثلاث وتؤسس لخطاب تحرري شامل، لا يبدو أن هناك مستقبلاً ما بعد قومي للرابطة العربية من دونه. مشكلة العرب اليوم هي انفصال رابطتهم الجامعة عن أي مشروع تحرري، وبالعكس انقلاب بقايا القومية العربية، المشروع التحرري السابق، إلى مرقاة لجمهورية إيران الإسلامية، تخترق مجتمعاتهم وتغرقها في الكراهيات والحروب الطائفية، أو ارتداد العروبة إلى رابطة إثنية، محض اختلاف سلبي عن الغير. إن كان من مشروع تحرري في المجال العربي، فلا بد أن يكون مشروعاً مضاداً لإعادة إنتاج الكولونيالية داخلياً على يد أشباه الحكم الأسدي الذي يصلح احتماؤه بإيران وروسيا برهاناً لمن يحتاج إلى برهان على انضباطه بما يمكن تسميتها علاقات الحكم الكولونيالية. أعني على العودة إلى الكولونيالية بطلب محلي لحماية نظام قائم على استعمار محكوميه. البنية التي تقوم على هذه العلاقات تربط بين الدولة المحلية ومراكز السيطرة الدولية، وبدور استثنائي لإسرائيل في هذا الشأن كمثال دائم للاستثناء.

ثم إنه لا بد لأفق تحرري من أن يكون متصلاً بخطاب تحرري في الشأن الإسلامي، يتجاوز كفالة حرية الفكر والحرية الدينية والمساواة بين الناس والأجناس، إلى عالم فكري وأخلاقي وسياسي جديد. لا يلبي الخطاب العلماني الحاجة إلى خطاب أكثر تركيباً حول الإسلام والإسلامية، يتجاوز ما ذكر للتو من حرية ومساواة إلى جعل هذا الاشتباك مع الشأن الإسلامي مدخلاً إلى حياة متحررة ما بعد إسلامية.

وبقدر ما يبدو الشرق الأوسط وحدة تحليل إلزامية، فإنه يتعين استكشاف أفق أن يكون وحدة عمل، تجمَع مناضلين من البلدان الواقعة تحت نير نظام الاستثناء المستمر، من عرب وترك وكرد وإيرانيين، وإسرائيليين معادين للصهيونية. لعل الأجيال الشابة هي المؤهلة لاستكشاف هذا الأفق.

التحرر في الشرق الأوسط لا يسعه إلا أن يكون تحرراً ما بعد قومي، وما بعد ديني كذلك. في الشرق الأوسط الغرب مسيحي، أو مسيحي-يهودي، وهنا العمق الثقافي للالتزام الغربي بإسرائيل. على الجبهة الدينية هناك كثير من الغش والكذب، والأديان الإبراهيمية التي دخلت التاريخ في هذه المنطقة متعاقبة، تشتبك هنا في صراع مميت وتشكل منابع فياضة للكراهيات. لكن هذا اللقاء المسموم هو أيضا دعوة إلى أفق مغاير، ما بعد إبراهيمي، وما بعد ديني.

الشرق الأوسط اليوم سجن للشعوب مثلما كانت روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، ثم بصورة مختلفة في القرن العشرين. هذا السجن هو موطن البروليتاريا السياسية الأكثر عرضة للإذلال والتجويع وعدم التمثيل.  وبقدر ما إننا حيال عالم مصغر، فإن لتحطيم هذا السجن أثر محرر على العالم ككل، وليس على البروليتاريا السياسية الشرق- أوسطية وحدها.