بوصفها استباقاً سردياً وطريقة من طرائق الإدراك، تطور الديستوبيا تخيل «أسوأ العوالم الممكنة»، تلك التي يأتي بها الخيال العلمي الموصوم بالبؤس السياسي والقلق البيئي. بعكس ما يوحي به عنوان الكتاب، فإن جان-پيير أندريڤون لا يقدم «أنطولوجيا»، بمعنى مجموعة نصوص، وإنما مقالة ملتزمة تتمحور حول موضوعات ديستوبية، مثل «إملاء الديكتاتوريين»، و«صراع الطبقات»، و«كلنا متصلون إلكترونياً»، و«في أيدي الروبوتات»، و«الدين»، و«نحن كثر ونفيض». يتتبع الكتاب المخيال المضاد لليوتوبيا في الأدب منذ القرن التاسع عشر، دون فهرس تحليلي معين، ودون التفات إلى «الفانتازيا» أو «الديستوبيات الفضائية اللاأرضية» و«العوالم الافتراضية» و«السيبيربانك» نمط فرعي من الخيال العلمي، يتميّز بتخيّله مستقبلاً ديستوبياً، يمتزج فيه التطور التكنولوجي الكبير بمستويات متدنية من المعيشة (المترجمة)..

بين الرجل الأخير لميري شيللي عام 1826 وحتى 2019، تأتي هذه الببليوغرافيا المنتقاة على ذكر 280 مرجعاً بالفرنسية. يضاف إلى ما سبق نحو 200 عنوان لأفلام منتقاة منذ 1920، مع قليل من المسلسلات التلفزيونية. ويبقى فن القصص المصورة، الكوميكس، مظلوماً في هذه الأنطولوجيا، رغم أنه يزخر بالديستوبيا، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المؤلفات القاتمة لفيليب دروييه وشانتال مونتولييه وبوكوا وسانتي، وكذلك لغز الأتلانتيد (1957) والفخ الشيطاني (1962) لإدغار ب. جاكوبس، أو آكلي الزفت (1974) للوب وبييلسا (ديستوبيا جنونية عن السيارات)، هذا إن بقينا في الفضاء الفرانكوفوني.

إنسانية ناقدة… وتوجس من العلم دون وعي… وعدائية للأيديولوجيا… منذ قرن والقلق الأنثروبولوجي من نقيض اليوتوبيا يتفكر بالطغيان، والقومية، والاستعمار، وانهيار الديمقراطية، والبروباغندا المخادعة والشمولية بأصنافها السوداء والبنية والحمراء، وعنصرية الدولة، ونظام معسكرات الاعتقال، وحروب الهيمنة، ومغالاة الرأسمالية في حدودها القصوى، والتلوّث المعمم على العالم. لقد خان النزيف الديمغرافي عصر الأنوار، وشوّهت الزلازل الجمعية الأمل الديمقراطي ودمّرت الكوكب، جاعلةً القرن العشرين قرن حداد وحزن. تواكب الديستوبيا عملياً «عصر التطرفات»، أي القرن العشرين القصير، في استعادة لتعبير المؤرخ الماركسي البارز إيريك هوبزباوم.

في القرن العشرين، وبعد الرواية المنسية العالم كما سيكون لإيميل سوفيستر (1846)، أرست الرواية المضادة لليوتوبيا الصناعوية والعدائية لعصر الأنوار، بصورها التي تحتوي على أثداء تعمل على البخار وكأنها أثداء أم مرضعة، أربع نماذج أدبية للديستوبيا في المخيال الاجتماعي.

ففي عام 1908، بعد هزيمة الثورة الروسية الأولى عام 1905، نشر الكاتب الأميركي الدارويني جاك لندن (1876-1916) الكعب الحديدي: في «كومونة شيكاغو»، تدهس الرأسمالية البلوتوقراطية البوليسية المعولمة «شعب الهاوية» «كومونة شيكاغو» و«الهاوية» في شعب الهاوية إحالتان إلى كتاب لندن الكعب الحديدي، حيث كومونة شيكاغو عنوان لفصل من الكتاب (المترجمة). أو البروليتارية الاجتماعية، وتلد الليبراليةُ المتطرفة الشموليةَ بنسختها المهيمنة التي ما تزال قائمة حتى اليوم.

يفغيني زامياتين، المهندس البحري المناهض للقيصرية، والبلشفي اللاسلطوي والمناهض لاحقاً للستالينية، والمنفيّ إلى باريس حيث توفي في ظروف بائسة بعد كتابته سيناريو فيلم القاع (1936) لجان رونوار، نشر عام 1924 روايته نحن. هناك، في العالم التايلوري لمدن زجاجية، تفرض الدولة الموحدّة السعادة القسرية بالعصا الصارمة لـ«فاعل الخير»، وتجرّم الشموليةُ المستقبلية الاشتراكيةَ السوفياتية، وتؤسس البانوبتيكيةتعبير استُخدم في السياسة للدلالة على المجتمعات المراقَبة بشكل شبه شمولي. الكلمة منحوتة من «بانوراما» و«أوبتيك» أي بصري. من الذين استخدموا هذا التعبير ميشيل فوكو في كلامه على الرقابة والسجون (المترجمة). المعمَّمة لمراقبة المحكومين الخاضعين، الذين استشرفت هوياتهم الرقمية فكرة السلطة البيولوجية. النظام الشمولي هذا، الذي يسمح بالتبادل الجنسي ويصبو إلى الهيمنة لما وراء النجوم، شرّع الاستئصال الجراحي لمخيلة العاقّين غير المطيعين، وحتى تفكيك من لا يمكن استردادهم ورميهم في «آلة فاعل الخير».

وعلى خطى رحلات غوليفر لجوناثان سويفت (1726) المناقضة لليوتوبيا، نشر ألدوس هوكسلي، الإنساني والروحاني والمسالم والساخر، روايته عالم جديد شجاع عام 1932، والتي كانت نواة أساسية لمقاربة الديستوبيا من وجهة نظر السلوك البشري. الكثير من أبطال هذا العمل يحيلون إلى صفحات مجيدة أو قاتمة من التاريخ السياسي والعلمي (بيرنارد ماركس، بولي تروتسكي، بينيتو هوفر، داروين بونابرت…) في العام 632 من «عصرنا الفوردي»، التراتبي وفق طبقتين علويتين (ألفا، بيتا) وثلاث طبقات دنيا (غامّا، دلتا، إيبسلون) تتمايز فيما بينها بالثياب. يضيف المجتمع الصافي للدولة العالمية على شروط حياة الطبقة الدنيا التنويم المغناطيسي واليوجينيا الاستنساخية التي تحسّن النسل، فضلاً عن إدمان مستحضرات الهلوسة (سوما، أو عقار السعادة القسرية) واللهو الجنسي غير العاطفي وغير التناسلي، ذلك أن الأمومة عيب. النظام اليوجيني هذا، إلى جانب العائلة، يمنعان العزلة ويَحُولان دون استرجاع الإنسان لماضيه. أما البشر الذين لا ينصاعون لعصا الدولة العالمية الشمولية فيُحتجَزون في «محميات الوحوش» ويتناسلون فيها مثل الحيوانات.

جورج أورويل، ابن الشرطي الموظف الكولونيالي في بورما حيث تفتّحت مناهضته للإمبريالية، وصحفي القاع اللندني والباريسي، والمناضل اللاسلطوي في حزب العمال للتوحيد الماركسي الإسباني أثناء حرب إسبانيا، والمتهكم الشهير على الستالينية (في روايته مزرعة الحيوانات المنشورة 1945)، نشر عام 1948 رواية 1984، التي كانت خلاصة «كل الديستوبيات المتخيلة»، ليعكس بيأس صدى رواية نحن لسلفه الروسي زامياتين. أورويل، الذي صدرت سيرته الذاتية مؤخراً على شكل قصة مصورة، يتصور أسوأ العوالم مقسماً إلى ثلاثة أجزاء مولّدة للحروب (أوسيانيا، أوراسيا، أستازيا)، مع ديكتاتورية البانوبتيكي التي تظهر عبر الشاشة عن بعد عبر «الأخ الكبير»، إضافة إلى «دقيقتي الكره» و«وزارة الحقيقة»، واللغة الجديدة (حيث يكون «الجنس الجرمي» كناية عن قلة الأخلاق، و«الجنس الجيد» كناية عن العفة)، و«الفكر المزدوج» للإشراط الطفولي (الذي يغيّب مساحة التأويل): كما في مقولة «الحرب هي السلام»، فضلاً عن الوشاية العائلية والتعذيب اللذين يُصلحان حبّ المتمرد وينستن سْميث للقامع الخيّر اللطيف «الأخ الكبير». كان عملاً شديد الراهنية، وفق تعبير جوزيه كمون الذي أعاد ترجمة عمل أورويل عام 2018 وأصدره عن دار غاليمار. رواية 1984 تُخيّل (من تخييل) «اللغة الشمولية» المعمول بها في الاتحاد السوفياتي الستاليني وفي ألمانيا النازية.

افتتح فيلم فريتز لانغ ميتروبوليس (1926) الديستوبيا في السينما، وهو فيلم يحكي عن مدينة فرعونية الأبعاد، عمودية في آليتها، وفيها تراتبية، ولا إنصاف بين الأسياد المتبطلين والعبيد الكادحين. وقد نال الفيلم إعجاب غوبلز وهتلر. ومنذ الفيلم الخيالي الخارج من الأحلام أتلانتيد (1921) للفرنسي جاك فيدير، صدر نحو 200 فيلم بشكل متوالٍ واستحضروا الفيلم الأول، وذلك حتى عام 2019. وإضافة إلى نسختي 1984 (عام 1956 وعام 1984) هناك ذروة الأفلام الديستوبية تي إتش إكس 1138 (1971) لجورج لوكاس، والذي تزامن صدوره مع ديستوبيا كابوس الإشراط السلوكي في فيلم برتقالة آلية لستانلي كوبريك، وكذلك الفيلم الهزلي البرازيل (1985) لتيري ويليام. وإذا كانت عالم جديد شجاع لهوكسلي لم تر النور سينمائياً، فإن عمل هـ. ج. ويلز المضاد لليوتوبيا أُنجز سينمائياً على يد ويليام كاميرون مينزيز في فيلم أشياء قادمة (1936)، والذي تكلم عن الديكتاتورية العلمية-الشمولية في زمن كانت نظم الحكم السلطوي والكوارثية كمصدر للشمولية تغذّي الخيال لكلاسيكيات من هذا النوع. ومن بين تلك الأفلام أمير الذباب (1963) لريتشارد بروكس، وفهرنهايت 451 (1966) لفرانسوا تروفو، وكوكب القردة (1968) لفرانكلين ج. شفنر، ومنتزه العقوبة (1970) لبيتر وكنز، والشمس الخضراء (1973) لريتشارد فليشر، وركضة لوغان (1976) لميكاييل أندرسون، وعدّاء حد النصل (1982) لريدلي سكوت، وغاتاكا (1997) لأندرو نيكول، وتقرير أقلية (2002) لستيفن سبيلبرغ.

يكمن أرشيف أسوأ العوالم الممكنة في المخيال الديستوبي، الذي يدعونا إلى إعادة التواصل مع الثقافات السياسية للإنسانية النقدية والليبرالية الديمقراطية. وما بين النص والصورة، أنضبت الديستوبيا اليوتوبيا، باعتبارها «سردية وطريقة في التفكير بالمدينة العادلة» بحسب الفيلسوف البولوني برونيسلاف باتشكو، في كتابه أنوار اليوتوبيا (دار بايو، 1978) والذي نفذت نسخه للأسف الشديد. ومنذ رواية نحن لزامياتين، مروراً بـ1984 لأورويل، أو بالرواية المدهشة والمنسية تماماً التي نشرها الروائي السويدي كارين بوي عام 1938 كالوكاين في زمن الفاشية والنازية، والتي تعالج الشمولية المصطبغة بالمهلوسات النفسية، يبقى النموذج المضاد لليوتوبيا الترياق الشافي في مواجهة الشر السياسي.

على خطى THX1138، البطل التراجيدي في فيلم جورج لوكاس الذي يستعير الفيلم اسمه، يتمثّل الهروب من الديستوبيا الشمولية في رفض العالم غير المشتهى، الذي تُطحن فيه البشرية، وتبعث فيه الرأسماليةُ العابرة للدول البؤسَ المدقع من جديد، ويُكَرَّس مجتمع الفرجة، وتُمجَّد الرقابة عبر الشاشات، ويُقرَّظ النظام الأمني وتُدمَّر الطبيعة. ومهما يقل جان-پيير أندريڤون، فإن كتابه ليس «نزهة سياحية في بلاد الديستوبيا». وبعيداً عن اللعبة الأدبية الجذابة في الخيال العلمي والرواية الغرائبية، كرواية مؤامرة المليارديرات لغوستاف لوروج عام 1899، فإن أسوأ الديستوبيات تدعونا لإعادة التفكير بإعداد ديمقراطي للصلة الاجتماعية في عالم مسالم وخالٍ من التلوث. عالم تقضي فيه الأخوة المواطنية على «الكعب الحديدي» و«اللغة المستحدثة»، وعلى الحرب والإرهاب، وتَراجُع الفكر اللاسلطوي، وعلى العمران المخيف، وحتى على السعادة القسرية بالتبعية للإشراط السلوكي، أو لدولة الطوارئ السلطوية أو التعسفية في سياساتها الصحية والبيولوجية في تعقب الأفراد. إن كان النعيم الاجتماعي في عصر الأنوار يتلازم مع أحلام اليوتوبيا الساذجة والمكررة، فإن خيال اللايوتوبيا ينزع الأهلية عن العوالم الممكنة التي تقوّض الدولة الراعية بلا هوادة. منذ قرن والمخيال الديستوبي يبرهن أن العلاج يكمن في فهم شرّ المدينة الفاضلة أو فلسفة العوالم غير المرغوبة.