ترتبط كلمة الخيال العلمي في أذهاننا بأفلام مثل العودة إلى المستقبل (1985) أو مسلسلات مثل ستار تريك، وهذا النوع الدرامي هو بشكل من الأشكال صناعة أميركية أو غربية، لم يحُز في بلادنا العربية على مساحة أو مكانة ليحضر ويتطور، على عكس الأنواع الدرامية الأخرى كالواقعية أو الفنتازيا التاريخية. لذلك، من المثير لاهتمام المشاهد العربي أن يسمع عن مسلسل خيال علمي من واقعه ومقدَّم له، وبالفعل هذا ما حدث مع مسلسل النهاية المصري الذي عُرض في رمضان 2020، والذي تدور أحداثه في عام 2120 وتم تقديمه كأول مسلسل خيال علمي على مستوى المنطقة.
قصة المسلسل
تدور القصة باختصار حول عالم تحكمه الشركات المسيطرة على الطاقة. فبعد نفاذ البترول وموارد الطاقة المختلفة من الأرض، تحول الجميع إلى الحرب بحثاً عن مصادر مختلفة من الطاقة. انتعشت التكنولوجيا العلمية، وتم الاعتماد على الروبوتات في الحرب، حتى انتهت بكارثة إنسانية دمّرت الأرض وأسقطت الحكومات. ومع الكارثة انتهت الدول وحدودها، وتحول ما بقي صالحاً للعيش إلى «تكتلات» تحكمها شركات معينة، تتحكم بمصادر الطاقة الجديدة التي تصبح عملة ذاك الزمان، وهي عبارة عن «مكعبات» طاقة تتجمع في حسابات إلكترونية لكل شخص.
تدور أحداث المسلسل في القدس عام 2120، وذلك بعد خمسين عاماً على حرب تحرير انتصر فيها العرب على الإسرائيليين. تبدأ القصة بمداهمة أمن الشركة الحاكمة مراكز غير شرعية لتعليم الأطفال. فضمن المنظومة الجديدة، تحرم الشركات جميع الأطفال من الدراسة والتعليم، وتختار ضمن آلية انتقائية من هو مؤهل للدراسة والتعلم، ومن سينتقل إلى مصانع أو مزارع الشركات.
يعمل بطل المسلسل، المهندس زين، في قسم تصنيع وصيانة مكعبات الطاقة، ويكون في بداية المسلسل قد وصل لحل لمشكلة الطاقة عبر صنع مكعبات تعتمد على الطاقة الشمسية وتمنح الجميع الوصول إلى طاقة نظيفة ومجانية، الأمر الذي تمنعه الشركة لأنه ينهي احتكارها لموارد الطاقة الموجودة. تلاحق زين المشاكل لأنه يعمل في الخفاء في تدريس الأطفال، كما أن زوجته الحامل تعمل في مركز توزيع الحصص الغذائية في القدس، مما يجعل أمن الشركة الفاسد يلاحقها للحصول على تمويل غذائي إضافي على حساب المواطنين في القدس. يهرب زين من أمن الشركة، ويصل عبر طريق من المخاطر إلى «الواحة» التي تسمح له بصنع المكعبات البديلة، المناهضة لحكم الشركات، فيما يستنتج متأخراً أن الواحة فناء خلفي لجميع الشركات، وأنها مكان يعيش فيه الأغنياء وعائلاتهم برفاهية وسلام.
في سياق متصل، تظهر شخصية صباح، التي تحب زين لدرجة صنع روبوت مشابه له بعد سرقة نسخة من وعيه الأصلي. ومع انتصاف حلقات المسلسل، يصبح هناك نسختان من المهندس زين، الأصلي في الواحة يحاول كشف زيف مكانه الجديد، والروبوت الذي في القدس يعتقد بأن خلاص العالم هو في القضاء على الجنس البشري برمّته، ويبدأ بالتحالف مع عصابة لزعزعة أمن القدس.
في حرب ضروس بين الخير متجسداً بزين الإنسان، والشر المتجسد بزين الروبوت، ينتصر الخير على الشر ويُنقذ زين البشرية، لكنه يضطر للقضاء على جميع أنواع التكنولوجيا في المقابل، فتعود البشرية إلى العصور البدائية. يتم تجميد زين الخيّر لمدة مئة سنة، ليقوم في آخر المسلسل بالعودة إلى الحياة والبدء من جديد بتعليم الأطفال والقيام بالخطوات الأولى لنهضة البشرية، مع تنويه لوجود جزء ثانٍ من المسلسل في رمضان القادم.
الديستوبيا كواقع
قد يكون من أساسيات النقد عدم محاسبة صناع أي محتوى أدبي أو فني بناءً على ما هو غير موجود، وألا يُساءَل حق الفنان في عرض ما يريد. ومن هذا المنطلق يمكن التغاضي عن الكثير من النقاشات حول مسلسل النهاية، من ناحية النص والسيناريو والإخراج والآليات الفنية المستخدمة. لذلك سنتجاوز هذه الأخطاء الفنية على اعتبار أنه لا بد أن يقترب التجريب الأولي لمسلسل خيال علمي عربي من واقعنا، على الأقل في مكانه المفترض.
ما سنتحدث عنه هنا هو الفكرة التي يطرحها المسلسل بشكل أساسي، والمتمحورة حول الخوف الهائل من سيطرة الشركات، التي تقدَّم في المسلسل على أنها سبب فناء البشرية.
المسلسل الذي يمثل نوعاً من «ديستوبيا الخيال العلمي»، كان مهتماً برسم تفاصيل الحياة البائسة لمدينة القدس، والتي تبقى رغم بؤسها في حال أفضل بكثير من أماكن كثيرة في العالم. لم يغير التطور التكنولوجي الشكل المعماري للمدينة أو طرق الطعام أو الحياة، رغم اختلاف بسيط في اللباس أو في التواصل الإلكتروني. إلا أن تصوير نمط الحياة في القدس 2120 مطابق تماماً لتعريفات «الديستوبيا».
بحسب جوليا جيرارد، تصوّر معظم الروايات الديستوبية الحكومة على أنها قمعية ومستبدة، «تتحكم في جميع مجالات الحياة. والشرط الأساسي لهذه القوة هو أن تكون في كل مكان، وأن تتغلغل في كل طبقة من المجتمع وتنظم الناس وأفعالهم وأفكارهم. وبالتالي، من أجل البقاء في كل مكان والسيطرة الكاملة على حياة الإنسان، يتم استخدام الانضباط على جميع مستويات المجتمع باعتباره الأداة الأكثر أهمية لتأسيس السيطرة العليا». تبدأ المشكلة من أن التوصيف الديستوبي السابق لا يختلف عن توصيف الحياة العادية اليومية في البلاد العربية اليوم، وهو توصيف دقيق لما يحدث اليوم في مصر على سبيل المثال. فالواقع الديكتاتوري في البلاد علني وواضح، ولا يحتاج إلى مواراة أو حتى ترميز، وبالتالي فمن الغريب طرح هذه الديستوبيا في المسلسل على أنها خيال علمي، لأن أحد ملامح الأدب الديستوبي الإنذار بخطر قادم، وتصوير حياة المستقبل الكابوسية في حال – وفقط في حال – لم ننتبه لحاضرنا. أي إننا نملك أن نفعل شيئاً في واقعنا اليوم لنمنع مستقبلاً كهذا، مثلاً أن نتوقف عن استعمال التكنولوجيا بشكل شره ومجنون كيلا ننجر إلى ديستوبيا عالم جديد شجاع أو بلاك ميرور. هذا ما يشير إليه كريس فرانز في قوله إن المستقبل الكابوسي «وجهة محتملة للمجتمع الحالي»، والواقع المرير في المستقبل «ليس أكثر من استنتاج منطقي مستمد من آليات النظام الحالي».Chris Ferns. Narrating Utopia: Ideology, Gender, Form in Utopian Literature. Liverpool University Press, 1999 p.107
خيال سياسي فقير
هذا بالضبط ما يجعلنا في حيرة مع مسلسل النهاية، لأن تلك الديستوبيا التي تجعل الشركات مصدر تهديد منذر بنهاية البشرية مقاربة أميركية حتماً ولا تلامس الواقع العربي. فهل فعلاً ما يمكن أن يخاف المواطن العربي اليوم من سيطرة الشركات على مستقبله؟ يمكن بالفعل التنبيه للشركات الكبرى والاحتكار الحالي، واحتمال تحول «وادي السيليكون» إلى مركز العالم المستقبلي، وهو ما يحذر منه خبراء الاقتصاد والسياسة وحقوق الإنسان حول العالم. لكن بالعودة إلى المنطقة العربية اليوم، تبدو الدراما التلفزيونية متمثلة بمسلسل النهاية بعيدة كل البعد عن الحياة اليومية للمجتمع، الذي لا تلوح في أفقه رأسمالية شركات قد تتحول إلى سلطة قمعية تحتكر الموارد الطبيعية والبشرية وتشن حرباً على التعليم العمومي. إن ذاك المستقبل الكابوسي يشبه إلى حد كبير واقعنا اليوم، باستثناء أن ديكتاتورية اليوم يقودها العسكر، والموت ليس افتراضياً، والسجون مليئة بكافة أطياف الشعب.
من جهة أخرى، الثيمة المقابلة التي تقارب واقعنا في ديستوبيا المسلسل هي الحرب، حيث شهد المسلسل حربين متتاليتين، الأولى عربية تم فيها تحرير فلسطين، والثانية عالمية أنهت البشرية بشكلها الحالي. ومع أن الحرب الأولى تمر بشكل عرضي وبالكاد تؤثر في حبكة المسلسل، إلا أنها منحت المسلسل نفحة وطنية أشبه بمقولة أخلاقية جاهزة: «لا مستقبل للعدو في مخيلتنا المستقبلية»، وهي تتماشى مع الحديث عن تفكك أميركا وانهيارها وتحولها إلى عصابات متناحرة. ورغم توقف جميع الدول والقوميات عن الوجود في نهاية المسلسل، إلا أن صنّاعه احتاجوا إلى التأكيد بأن العرب توحدوا جميعاً لتحرير فلسطين، قبل أن تجري الحرب النووية التي أنهت شكل العالم كما نعرفه اليوم. وهكذا أفردوا ضمن ديستوبيا الخيال العلمي التي تصور مكاناً بائساً للعيش، مساحة لتاريخ «مشرّف» بدا مقحماً على المسلسل، لتأتي التغطية الإعلامية للمسلسل وتحتل هذا الحرب الهامشية الحصة الأكبر، والوحيدة ربما، من النقاش.
قد يكون مسلسل النهاية رائداً في الخيال العلمي العربي، وقد يفتح الباب على جزء جديد في رمضان القادم، ممهداً للعديد من مسلسلات الخيال العلمي القادمة، إلا أنه يبقى في صورته الحالية «فقيراً في الخيال وفقيراً في العلم» حسب ما صرح الناقد الفني المصري طارق الشناوي.